كوكب غارق أم حلم غارب
عراق العروبة
لطفية الدليمي
هل يحق لكائن أرضي أن يحلم بكوكب آخر؟ ترى أيّ الكواكب
سترحّب بكائنات يائسة دمرت كوكبها بحروبها وعنفها واستهلاكها وعقائدها
الفاتكة وفقدانها لإنسانيتها؟ ألا يحمل الإنسان خرابه أينما يتجه؟ ألن
يخرّب الكواكب الأخرى التي سيحط عليها؟ هل سيرحل مغسول الدماغ دون أن يحمل
كل أدرانه الأرضية ومرارته ويأسه في حقيبة الروح والذاكرة؟ أما أخبرنا
كافافي في قصيدته “المدينة” بمقولته الخالدة “فطالما خربت حياتك هنا في هذا
الركن الصغير، فقد دمرتها في كل مكان من العالم”.
يشدو
مدحت صالح بأغنية حلمية تنشد يوتوبيا مستحيلة، ويردد في مطلعها “رافضك يا
زماني يا مكاني يا أواني أنا عايز أعيش في كوكب تاني.. فيه عالم تاني فيه
لسه أماني، فيه الإنسان لسة إنسان عايش للتّاني..”.
لقد
اختصر مدحت صالح أو شاعر الأغنية معضلتنا البشرية في هذه الكلمات حيث
أحلامنا المجهضة وأمانينا المقتولة وعقائدنا التي أجهزت على إنسانيتنا،
حيث الكائن البشري تخلى عن إنسانيته مقابل ثمن بخس لرفاه خادع ووعود
أيديولوجية لم تحقق للبشرية سوى المزيد من الموت والتهجير والتدمير
الممنهج والحرمان من الحرية .
يبدو أن مصير كوكبنا مهدد
بالغرق والنهايات الفاجعة، ليس في المحيطات التي احتضنته منذ نشوء الحياة،
وإنما في بحار من دماء تسفكها الحروب الدينية الجديدة التي أعادت دورة
القرون الوسطى، حروب يقاتل محاربوها بأسلحة مدمرة مسندة بأفكار تبدو خيرة
في ظاهرها كـ”الديمقراطية” أو “العدالة” أو “دولة الشريعة”، وعقائد تدعو
إلى إقامة دين واحد وتطبيق شرائعه بوسائل تحوّل البشرية إلى قطعان مذعنة
مسلوبة الإرادة، فمن سبي وحرق واغتصاب وقطع رؤوس، تشتعل هذه الحروب بإدارة
عقول متخفية تقرر مصير الكوكب بالتعاون مع مصانع الأسلحة والسيارات والسموم
والأدوية التي تستوردها الدول الصغرى المأمورة بتنفيذ خطط دمار المستقبل
الإنساني .
سيغرق الكوكب الأزرق الجميل وتفنى بغرقه
الملاحم والمآثر الفكرية والفلسفات العظيمة والأعمال الفنية وعجائب الدنيا
-قديمها وحديثها- وقصص العشق الباهرة وحكايات البطولة، ومعه ستفنى
الدكتاتوريات والنظم الثيوقراطية والنظم العشائرية والقبائل البدائية في
الغابات ومافيات العنف والمخدرات في نيويورك أو موسكو أو طوكيو أو صقلية أو
بغداد، وتصبح قصة كوكبنا أمثولة ترويها كائنات الكواكب العاقلة لعلها
تتعلم من فنائنا ما يبقيها فتعيد النظر في شؤون كواكبها؛ فلا منجى من
الغرق والفناء إذا ما سادت الكواكب أفكار ومطامع الأرضيين ونزعاتهم المدمرة
منذ نشوء الحياة بأشكالها الأولية وحيدة الخلية مرورا بظهور العباقرة
العظام كغاليليو ودافنشي وابن الهيثم وابن رشد وأنشتاين حتى ظهور
الكائنات الأكثر تفاهة في زمننا على شاكلة الدكتاتوريين العرب وأوباما
وترامب وهيلاري كلينتون وبوكو حرام وداعش ومشرّعي البرلمان العراقي الذين
يحاولون إعادة الزمن الأرضي إلى عصر الأميبيات الغبية. يأخذنا كوكبنا معه
في رحلة الغرق القيامية .
كوكبنا الذي تصوره البابليون
والإغريق والهنود على شكل قرص يعوم في محيط مائي وتصوره آخرون بشكل دائرة
مـنبعجة، ومـضت التخيلات البدئية تـصنع أساطـيرها الأولى عن شكل عالمنا
وطريـقة نـشوئه فتـخيلته قصـيدة الخـليقة البابلية متـخلقا من أشلاء الأم
الأولى “تيامات” التي اغـتالها ابنها ومن نصفها صـنع الأرض والجبال ومن
النصف الآخـر صنع السماء والنـجوم ولم يتبق لنا من مهرب في الأرض المـدورة
كما اشتكت طفلة صغيرة في قصيدة لها “لو كانت الأرض مربّعة لاختبأنا في إحدى
الزوايا، ولكـنها مـدورة لذا علينا أن نواجه العالم”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق