أخر الأخبار

.

استفتاء إقليم كردستان: المسافة بين الحلم والواقع !





استفتاء إقليم كردستان: المسافة بين الحلم والواقع!




عراق العروبة
يحيى الكبيسي




تتسارع الاستعدادات لإجراء استفتاء تقرير مصير اقليم كردستان العراق، مع تباين المواقف داخل الإقليم نفسه، فضلا عن المواقف المحلية والإقليمية والدولية الرافضة بشكل صريح او ضمني هذا الاستفتاء. الواقع ان هذه الخطوة ليست إعلانا لاستقلال الإقليم بشكل مباشر، بل يراد منها ان تكون مرحلة أولى تهدف إلى استقلال الاقليم عن العراق وتكوين دولة كردية على المدى البعيد، كما يراد منها أن تكون ورقة تفاوض إضافية في إطار الصراع المزمن بين الإقليم والحكومة المركزية في بغداد على المدى القريب والمتوسط من جهة ثانية .

بعيدا عن هذا السياق الشكلي التي يراد تسويقه، محليا وإقليميا ودوليا، ثمة سياق آخر في العمق، يكشف عن صراع كردي كردي بين السليمانية وأربيل، يجعل إمكانية قيام هذه الدولة بعيدة تماما، اضافة إلى الصراع على الجغرافيا المتعلق بالحدود المحتملة لهذ الدولة؛ فالمناطق المتنازع عليها، خارج إطار إقليم كردستان العراق المعترف به دستوريا، قد جرى تحديدها تبعا للتأويل الكردي وليس وفقا للنص الدستوري! كما انها لم تعد مجرد جزء من سردية تاريخية متخيلة تتعلق بالأرض، وهويتها المفترضة! بل أصبحت جزءا من الصراع على الموارد الطبيعية، بسبب احتواء الكثير من هذه المناطق على احتياطيات كبيرة من النفط، على الأقل وفقا للتقديرات المتداولة .

تاريخيا، بدأ موضوع تقرير المصير للكرد في كردستان العراق منذ منصف أربعينيات القرن الماضي، عندما طرحته إحدى الأحزاب اليسارية الكردية الصغيرة، وهو حزب الحرية الكردي (رزكاري كرد) لأول مرة في العام 1945. ثم ردد الحزب الشيوعي العراقي هذه الدعوة مرة ثانية عام 1949، في مرحلة هيمنة الشيوعيين الكرد على قيادة الحزب الشيوعي. إلا أن هذا الموضوع لم يعد يرد في الخطاب السياسي العراقي، العربي والكردي على حد سواء، إلا بوصفه تأكيدا لحق ومبدأ عام، أكثر منه تعبيرا عن هدف سياسي! وكان الشعار الذي هيمن في هذه المرحلة هو «الديمقراطية للعراق، والحكم الذاتي لكردستان»، وهو الشعار الذي تبنته حركة التمرد المسلح الكردية لمدة طويلة، وتحت هذا الشعار قاتل «أنصار» الحزب الشيوعي العراقي جنبا إلى جنب مع الاحزاب القومية الكردية منذ بداية التمرد المسلح في العام 1961 وحتى لحظة سقوط نظام البعث عام 2003. بل ان الإقليم نفسه، وعلى الرغم من الإدارة الذاتية التي تمتع بها منذ ايلول/ سبتمبر 1991، بعد انسحاب القوات العراقية منه في اعقاب فرض قوات التحالف الدولي، تحديدا الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وفرنسا منطقة حظر الطيران شمال خط العرض 32. تبنى أول برلمان كردي تشكل في العام 1992 «النظام الفيدرالي»، من خلال تشريعه قانونا للاتحاد الفيدرالي للدولة العراقية في مرحلة ما بعد الديكتاتورية، متخليا عن فكرة «الحكم الذاتي». وقد أقر مؤتمر صلاح الدين للمعارضة العراقية، الذي عقد في العام نفسه، النظام الفيدرالي صيغة للنظام السياسي للدولة العراقية المستقبلية .

بعد الاحتلال الامريكي عام 2003، شارك الكرد، عبر الحزبين الرئيسيين؛ الحزب الوطني الديمقراطي، والاتحاد الوطني الكردستاني، بقوة في ترتيبات الدولة الجديدة! وكان «النظام الفيدرالي» هو الصيغة التي تم تبنيها عراقيا، تحديدا بالنسبة لإقليم كردستان. إذ أقر قانون إدارة الدولة (2004) ان نظام الحكم في العراق هو «اتحادي (فيدرالي) ديمقراطي تعددي»، وهو ما تم اعتماده في دستور العام 2005. بل ان اعتراض الأطراف السنية على «الفيدرالية» أنما كان اعتراضا على اعتماد هذا النظام في العراق العربي، دون ان يمس ذلك الاعتراض إقليم كردستان . 

على ان موضوع الاستفتاء على تقرير المصير، والحق في إنشاء دولة مستقلة، بدأ يحضر تدريجيا، في الخطاب السياسي الكردي، وإن كان بشكل متفاوت بين الحزبين الكرديين الرئيسيين الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني في البداية، ثم أضيف اليهما موقف حركة «التغيير» التي تشكلت في العام 2009. فقد وافق الحزبان الديمقراطي والوطني على إجراء استفتاء غير ملزم في العام 2005 على مسألة تقرير المصير، وحظي هذا الامر بموافقة الغالبية العظمى من المشاركين فيه على ذلك، لكن دعوات الحزب الديمقراطي من خلال زعيمه مسعود البارزاني المتعلقة بالاستقلال، ظلت تواجه اعتراضات، صريحة وضمنية من الاتحاد الديمقراطي، ثم من حركة التغيير لاحقا، وإن كان هذا الاعتراض يتعلق بالتوقيتات وآليات اتخاذ هذا القرار أكثر منه بالمبدأ نفسه .

لقد فشل إقليم كردستان على مدى أكثر من ربع قرن تقريبا (1992 ـ 2017) في توحيد الادارتين اللتين تشكلتا في العام 1992 في منطقة نفوذ الحزبين الكرديين الرئيسين، وظل الصراع قائما بين أربيل (الحزب الديمقراطي) والسليمانية (الاتحاد الوطني)، وصل ذروته في المواجهة المسلحة بين الطرفين في العام 1996، وهي المواجهة التي انتهت بتدخل مباشر من الولايات المتحدة الامريكية حينها . 

ولا يقتصر الصراع هنا على الجانب السياسي فقط، بل ثمة انقسام لا يقل حدة، وعلى مستوى أكثر عمقا، يتعلق بعوامل سوسيو ـ ثقافية مرتبطة بالانقسام السوراني البهديناني، أكثر منه صراعا سياسيا مجردا، ولم تكن المقولات الأيديولوجية التي سيقت لتسويغ انشقاق مؤسسي الاتحاد الوطني عن الحزب الديمقراطي، سوى تمويهات على هذه الحقيقة. فهذا الانقسام هو انقسام لغوي/لهجي بالأساس، اذ تنقسم اللغة الكردية إلى الكرمانجية الشمالية (البهدينانية) والسورانية (الجنوبية) . 

وقد نتج عن هذا الانقسام اللغوي اختلافات اجتماعية واقتصادية وثقافية واسعة بين شمال كردستان العراق الناطقة بالكرمانجية (بهدينان)، وجنوبها الناطق بالسورانية، وكانت التوترات بين جماعة ابراهيم احمد وجلال الطالباني (السورانيين) من جهة، والبارزانيين (البهدينان) من جهة ثانية داخل الحركة الكردية العراقية منذ بدايتها، تستند إلى حد كبير إلى هذه الاختلافات، ويشير فريد هاليداي، وهو أحد المختصين بالدراسات الكردية، أن النزاع الضاري بين الحزبين الرئيسيين قد تسبب في تكريس انقسام الإقليم إلى منطقتين مختلفتين ايكولوجيا واجتماعيا وثقافيا، كل منطقة منهما تشعر بتمايز متزايد عن الآخر . 

وقد بدا واضحا في السنوات الاخيرة، ان الصراع السياسي بين هذين الحزبين قد أخذ أبعادا خطيرة، بدأت تنعكس على العلاقات داخل الإقليم نفسه، لاسيما بعد صعود حركة التغيير، ودخولها طرفا في الصراع، وتأثيرها الكبير على التوازن بين الحزبين، تبعا لطبيعة تحالفاتها (كانت التغيير في تحالف مع الحزب الديمقراطي بعيد انتخابات برلمان الإقليم في العام 2013، ولكنه عاد للتحالف مع الاتحاد الوطني في اعقاب الأزمة المتعلقة برئاسة الإقليم). وقد وصل الامر إلى اعتراض الحزب الديمقراطي على اتفاقات رسمية بين حكومة الإقليم التي يقودها الاتحاد الديمقراطي، والحكومة المركزية في بغداد (كما في اعتراضه على الاتفاق النفطي المتعلق بالنفط المصدر من كركوك، خاصة وان الاتحاد الوطني مهيمن عليها عسكريا وسياسيا) !

إن عمق الانقسام هذا يجعل الدولة الكردية حلما مؤجلا، فليس ثمة إمكانية موضوعية للحديث عن «دولة» كردية موحدة مستقبلا مع هكذا انقسام. خاصة وان قرارا من هذا النوع ليس قرارا كرديا، أو حتى عراقيا فقط، إنما هو قرار إقليمي ودولي إلى حد بعيد. وقد تكون الاعتراضات التركية الايرانية الصريحة على موضوع الاستفتاء مؤشرا على هذه الحقيقة. فإذا افترضنا إمكانية حصول «موافقة تركية مشروطة» فيما يتعلق بالاستقلال، تبقى مسألة «حدود الإقليم» عاملا حاسما في هذه الموافقة المشروطة، خاصة فيما يتعلق بكركوك. اما ايرانيا، فان علاقاتها الاستراتيجية مع الاتحاد الوطني، تجعلها لاعبا رئيسيا في قرار الاستقلال. ويبدو واضحا على المستوى الدولي ان الولايات المتحدة الأمريكية لم تبد حتى هذه اللحظة موافقة ضمنية كانت ام صريحة بهذا الشأن .

حق تقرير المصير بالنسبة للكرد، وبالنسبة للإقليم، حق أصيل، ولكن تحويل الحق إلى واقع سياسي، لا يمكن ان يمر بقرار كردي منفرد، ولا يمكن ان تتشكل حدود «الدولة الكردية المنشودة» بصيغة فرض الأمر الواقع، باستغلال لحظة تنظيم الدولة لرسم هكذا خرائط .





0 التعليقات: