أخر الأخبار

.

حـديـثٌ ذو شـجـون


حـديـثٌ ذو شـجـون 


عراق العروبة
كريم القاسـم




التأليف هو تلك العملية الابداعية الممزوجة بالوجدان والموهبة .

للتأليفِ قواعد ثابتة ، وللنظم أسُس نابتة ، فلا غَزْل مِن غيرِ كَدٍّ وتَعَب ، ولا تُجنى الثمارُ مِن غيرِ رعايةٍ ونَصَب .

وهكذا يكون حال النص الادبي المكتوب بأيدي الشاعر العربيّ الموهوب ، عندما يختلي الحال ، ويَصفو البال ، فيقدحُ خاطرُه ، وتنشط مَلَكَـتُه ، فعليهِ ببذرِ فكرة قصيدهِ ، وسقايتها بجمال اللفظ وعتيده ، ولايبخل بتشبيهٍ أو جناس ، ولا بتورية أوإحساس ، فيرعى قصيدتهِ بأجملِ البلاغة ، ويصوغها بأمهر الصياغة ، حتى اذا تَفتَّحَتْ صورها ، وانفَتقَتْ انهارها ، رَقَصَتْ بين يديهِ ، وتمايلتْ امام ناظريه ، مطواعة لإوامرهِ ، عاكسةٌ لخاطرهِ ، إن أرادها حزينةً حَزنتْ ، وإن أرادها فَرِحَةً فَرَحتْ ، وإن أرادها مُفتَخِرة افتخرِتْ ، وان أرادها شجاعةً تأهَبَتْ ، فلا تَصدّ صاحبها ، ولا تُعانِدُ قائدها ، كأنها فرسٌ مُروَّضَة ، أو وزيرةٌ مُفوًّضة ، حتى اذا اكتملَ نظمُها ، وتَجمَّلَتْ بوشمِها ، ولَمَعتْ جواهرها ، وبَرُقُتْ سحائبها ، وأمطَرَ لؤلؤها ، فما على الناظمِ إلّا إعادة النظر في نظمهِ ، والتفكّر في تاليفهِ ، ليتأملَ تنظيرهُ ، ويُحِسن تشطيرهُ ، فلابُدَّ من التهذيبِ ولابُدَّ مِن التشذيبِ ، وهي آخر مراحل النظمِ واهمها ، ونهاية الرحلةِ الى مآلِها ، ولا تنضج الا بمِسْكِ خِتامها ، وقد أينَعَتْ بعد تَمامِها ، فيُبدِل الناظم ما لا يصلح ، ويرفع ما لا يصح ، ولا يرقع ثوبَ القصيدةِ بما لا يُشابه نسجها ، ولا ينسج بنَوّلٍ لا يصلح لشأنها ، وليحذف مِن الالفاظِ أخشنها ، ومِن المعاني أثقلها ، فيستبدلها بلفظٍ رشيقٍ وكلامٍ أنيق ٍ ومعنى دقيقٍ ، فالفصاحة سِمَة القلمِ الذكيّ ، والبلاغة عِطره النَديّ ، حتى أذا اطمأنَّتْ النفسُ اليها ، وبدأتْ الروحُ تَدُبُّ فيها ، فعليهِ أن يُزيّنها بكلِّ زينة ، ويُعطِّرُها بالسكينة ، ثم يعرضها في سوقِ الادبِ الرصينِ ، وعلى موائدِ النظْمِ الرِزينِ ، فسيرى القلوب َ تهوي اليها ، والنفوسَ تَقبِلُ عليها ، ويتسابقُ اليها المتسابقون ، ويستطعمها المتذوقون ، فيفرح صاحبها بها ، ويكتنزها في صَدَفَتِها ، كالدرَّةِ الثمينةِ ، أو كالحِلْيةِ المتينةِ ، إنْ حَنَّ اليها أخرجها مِن المستور ، وإن قرأها تناثرتْ كدُرٍّ منثور .

وليس هذا الفعل اختيارا ، أو ذاك العمل بِدارا ، انما جعل الله لكل شيء مقادره ولكل فيض أنهاره ، وناظمُ الشِعْرِ كزارعِ النَبْتِ ، فالزرع يحتاج جهداً ودراية ، ومداراة ورعاية ، وحَرثاً وعناية ، وبِذاراً وسِقاية ، فتستعد البذرة لنشاطها ويتحرك جنينها في رحمها ويفتق حُجُبُها ، ويُثبِّتُ جذرها ، فتنبسط وريقاتها ، وتتبسَّم مِن غيرِ ثَغر ، وتتمايل مِن غيرِ خَصْر ، كأنها وليدٌ يحبو ، او طائرٌ يَهفو ، حتى تتزودْ بما يجودُ عليها خَصيب ارضها ، وتتنفسْ بما يرفدها عليل هوائها ، وتتقوى بما يشرق عليها من ضوء شمسها ، عندها … عليك بتشذيبها وتهذيبها و بعَزقِ ماحولها ، وقلعِ ما يُزاحمها ، مِن شائكٍ وغريب ، وضارٍّ وعجيب ، مما لانفعٌ فيهِ ، ولا حقلٌ يأويه ، فما هي الا لحظات وساعات ، وأيام وأوقات ، وإذا بها قد سَما سُوقها ، واشتدَّ عودها ، وورِقَتْ أفنانها ، وتشابَكتْ اغصانها ، واخضَرَّتْ اوراقها ، وأرتَدَتْ اجمل ثيابها ، كأنها عروسٌ يُزاحمها التغريد ، شامخةٌ طَروب مِن غيرِ نشيد ، فاذا بَزغَتْ براعمها ، وتفتَّحَتْ أزاهيرها ، وتبسمَتْ مياسِمها ، وضَجَّ المكان بعطرها ، إنجذبَ اليها النَحْل ، وكلّ مادَبَّ مِن انثى وفَحْل ، فتلاقحتُ اجزائها ، وانتفخ مبيضها ليحتضن ثمارها ، مخفية في رحمها ، حتى اذا نَضَجتْ ثمارها ، تَهدَّلَتْ اغصانها ، وتنوعتْ الوانها ، وتبيان طعمها ، فصارتْ شجرةً تسرّ الناظرين ، وتجذب الزائرين ، يزدحم عليها المتزاحمون ويتفيأ تحتها العاشقون ، فلا تفضح آهاتِ نجواهم ، ولا تُفشي سِرَّهم ودَخلاهم ، فهيَّ بهجة للناظرين ، وقِبلَة للعارفين ، مَنْ قَطفَ منها سَحَرَهُ طعمها ، ومن استظلَّ بها عَرَفَ فضلها ، فلا زرع مِن غيرِ بذار ، ولا ثمرٌ مِن غيرِ إزهار ، فإن تزاحَمَ الزرعُ ضَعُفَ وهزلَ ، وإن تباعدَ قَويَ وعضِلَ ، فتأمَّلْ اخي الكاتب النبيه ، إصول النسج النزيه ، وأشربْ مِن فاكهةِ النصْحِ عصيرها ، وكُلْ من ثمارِ الحقائقِ نَميرها ، وأختر من العناوين أميرها ، وعليك بالتروي قبل النشر ، وبالتأني قبل الشَهْر ، فلاتكن في امرك على عجل ، وكن في نشرك على مهل ، ولا تورد عقلكَ إلاّ ماء زَلالا ، ولا تُقْحِمهُ مُعترَكاً ومُحالا ، وإن عَوَّدْتَ حالكَ على السَهوَةِ والغَفلة ، تَسرَبَتْ الى قلمك السقطة والزلَّة ، فالعجب كل العجب من قلمٍ ينشرُ كلّ يوم قصيدة ، ويلد كل يوم وليدة ، ويحمل كل يومٍ رضيع ورضيعة ، مما يخالف الطبع والطبيعة . ، ولا تَركُن الى إعجاب وتعليق مَن لا يَفقَه ، فالشيءُ بصاحبهِ أشبَه ، فحديثنا هذا ذو شجون ، وكلّ كاتبٍ بما يكتب مفتون . فخذ من حديثنا هذا حكمته ، وتأمَّلْ في خَلقِ الله وروعته ، ففي كلّ امرٍ لهُ عِبرة وعِظة ، وفي كلِّ موضعِ لهُ نصيحة وموعظة ، فاللبيب مَن إتَّعَظ ، والأحمق مَن أعرَض . 
تقديري الكبير ….

0 التعليقات: