“الحزنُ القادم “ (إلى د. كريمة حسن ..)
“الحزنُ القادم “
(إلى د. كريمة حسن ..)
عراق العروبة
باهرة محمد عبد اللطيف*
إشارة :
“هكذا وبلا أسباب” يأتي الشعر الحقيقي الذي ينهمر من سماوات روح باهرة محمد الحزينة. لمن لا يعرف كيف تُكتب قصيدة النثر أو يستسهلها عليه أن يقرأ نص باهرة الكبير هذا “الحزن القادم” والذي قبله “يحدث يوماً”. تُثبت باهرة أنّ الشعر هو فن تقطيع القلب. ولهذا كان العراقيون الحزانى أبدا وبالتركيب الجيني هم أوّل من ابتكر الشعر وأول من غنّى وكانت صورة المغني السومري صورة “إبن آوى” لأن عواءه آخر الليل يقطّع القلب. باهرة وريثة هذا الحزن الحضاري المجيد الخلّاق. هذا نص نادر عن ذكريات الطفولة المُستعادة بقصد تقطيع القلب وحرب الحزن العراقي القادم التي ستسحق آمال الأرواح الصغيرة المنزوية بخجل وقلق تحت ظلال شجرة التوت البغدادية المهدّدة . نص يستحق أن يُعلق على لوحة الشعر الجدارية العراقية والعربية. يااااه.. منذ متى لم نقرأ شعراً حقيقياً يعالج جروح الروح بالكيّ البارع؟!.. تحيّة للشاعرة المبدعة “باهرة محمد عبد اللطيف”.
هكذا وبلا أسباب
من كوّةٍ لامرئيةٍ
تسحُّ الذاكرةُ
على عمرٍ استحالتْ أوراقُهُ
رؤىً وهواجسَ صُغرى
باتتْ ملامح لنا وقسمات..
صوتٌ يتناهى من أقصى
زقاقٍ في الرأسِ
يستجلبُ الأغنياتِ المثقلةَ
بحزنِ الآخرينَ وعذابِهم
كم كانتْ تقطبُ لها جباهُنا الفتيّة،
أتذكرين..؟
أقصى ما كانَ يجفلُنا
رفّةُ جناحَيْ طائرٍ أفزعتْهُ خطواتُنا
بينَ الأسلِ الشائخِ على دربِ الطفولة..
كُنّا نتبعُ خطوَ الأقدامِ المبعثرة
في صباحاتٍ بغداديةٍ
لمْ تستيقظْ بعدُ من أمانِها
وفي الأماسي نعود
لنجمعَ التوتَ المتساقطَ:
الأبيضُ كانَ حلواً بطعمِ البدايات
والأحمرُ ينهضُ الآن نصْلاً في الذاكرة
نعبّئُ بهِ حقيبةً ملآى بالتعبِ الوسنان
بشقاوةِ البناتِ وزقزقاتِ أحلامِهنَّ..
مقعدٌ حجريٌّ كانَ محطّتنا
نريحُ عليهِ حقيبتيْ ظهرٍ خاكية
-اقترضناهُما منْ حروبِ الآخرين
ويُتمِهم، ورسمْنا عليهُما علامةَ سلامِهم-
لنسامرَ الحماماتِ المارّة
ونتساررَ عن حزنِ الأمهات..
كُنّا نستعيرُ الأحزانَ
والأوزارَ أيضاً
لنبكيَ كالكِبار
وحينَ تجفُّ دمعاتُنا السّخينة
نهبُّ
نستحثُّ خطواتِنا القصيرة
قبلَ رنينِ جرسِ الدرسِ
أو قبلَ أن يسريَ القلقُ
في قلوبِ أمهاتٍ
أغرقْنَ نحيبَهنَّ
في مواقدَ مُضْطرِمة..
صغيراتٌ كُنّا
نكبرُ بأمان
نقرأُ الكتبَ القديمة
نخبّئُ القصائدَ الأولى
نطرّزُ في أرواحِنا
ما تيسّرَ منْ دفترِ
الهمِّ العراقيّ الدفين..
الحزنُ القادمُ كانَ
يجلسُ بيننا
يلعبُ معنا
يَخِزُ قلوبَنا فنبكي
ويعودُ ليختفي..
كانَ تمريناً لنا
على نزيفٍ قادمٍ
سيحلُّ طوفاناً بكينوناتِنا،
تنهضُ منهُ الآن شجرةُ توتٍ
ظلّلتْ دربَ صبانا
وضَللْنا الطريقَ إليها
لكنّها الليلة
تتطاولُ في الروحِ شوقاً
يفزعُ أشباحَ
الذاكرةِ المتكاثرة..
* كاتبة ومترجمة وأكاديمية عراقية مقيمة بأسبانيا .
0 التعليقات: