في ظل الإيهام المقصود.. المنطقة إلى أين؟
في ظل الإيهام المقصود.. المنطقة إلى أين؟
عراق العروبة
د. قيس النوري
(الذين لا يقرأون التاريخ
محكوم عليهم بإعادته)
الفيلسوف الإسباني
جورج سانيتانا
التاريخ لا يعيد نفسه، صنّاع الحدث هم الذين يعيدون تكرار مشاهده، مشهد اليوم الملتبس، وربما المتناقض في العلن، ليس عبثياً أو هو تخبط وتضارب مواقف، إنه مشهد مشوش عن قصد، يخفي وراءه صورة أخرى لا علاقة له بالمعلن الصاخب الآن.
عند بداية الشروع بتصميم الأزمة الأميركية الإيرانية، صدرت تصريحات نارية وبسقوف عالية من الجانب الأميركي، قابلتها تصريحات إيرانية زاودت عليها بالحدة، حتى بات من يسمعها يظنّ أن نتائجها سوف تنتهي و(المرشد الفقيه) سوف يقيم الصلاة في القدس المحررة.
التراشق بالتصريحات والمبالغة بإظهار قوة عناصر الأطراف المتشابكة أبعدت إمكانية اكتشاف الرؤية الحقيقية وراء الأزمة، بعد أن أطلقوا قنابل دخان للتضليل بإخفاء أحداث كبرى سوف تشهدها المنطقة، وهي تعيد ما كان (يُوَشْوِشُ) به الإنكليز في أذني الشريف الحسين ابن علي وأولاده لدفعهم إلى مقاتلة العثمانيين والانتقال بهم إلى صف الجهد العسكري البريطاني في الحرب العالمية الأولى، مقابل (وعد شرف) غير مكتوب بإقامة مملكة عربية تضم الشام والجزيرة العربية، في حين أن ستائر المسرح الخلفية كانت قد أنجزت صفقة القرن العشرين بمخطط إنكليزي ـ فرنسي بتقسيم المنطقة إلى ما نحن فيه.
آنذاك، كانت صفقة القرن العشرين، حدث تاريخي صنعه أفراد، منهم عرب غافلون أو حسنو النية في الأقل، وأجانب أكثر وعياً وأكثر خبثاً، وعندما وقعت الواقعة وانكشف الستار الخلفي للمسرح بفضل بلشفية السوفييت، ارتفع الصراخ العربي، مندداً ومذكراً بالوعود وكأن السياسة وفنونها تحكمها وتلزمها الوعود.
هكذا كان الأمر في ذلك الحدث التأريخي، واليوم، يتكرر المشهد، فالمعلن يبطن أمراً لا علاقة له بما يسوق من أخبار وتصريحات متضاربة، تارة تطمئن هذا الجانب، وتارة أخرى بتصريحات تنسف الأمل بالمراهنة على اللاعب القوي، إنه ليس اللعب بالأعصاب، بل هي ممارسة محسوبة، الغرض منها التهيئة لمشهد جديد، ربما يكون مزلزلاً في صورته وصادماً في نتائجه.
الاستقراء يدفعنا إلى الاستعانة بالتجربة التاريخية في تعامل الغرب والقوى الإقليمية غير العربية مع الأمة، هذا التعامل الذي طالما وضع الأمة على جدول أعمال طاولة التشريح، بحيث تصب نتائجها مزيداً من البتر وتقطيع الأوصال.
في الحسبان أن ملفات (صفقة القرن) الحالية غير المعلنة تفاصيلها بالكامل لها علاقة مباشرة بما نشهده من أزمات الآن، هذه الصفقة تضم في ثناياها صورة متكاملة للرسمة الجديدة للمنطقة، وبذلك من الخطأ النظر أو التعامل مع الجزيئة الفرعية للأزمة في إطارها المحدود، الصحيح النظر إليها بصفتها جزءاً من ملف متكامل (جغرافي سياسي) تمتد تأثيراته من جبال طوروس أقصى شمال العراق حتى الحافات الجنوبية للجزيرة العربية حيث اليمن، مروراً بسوريا وفلسطين، فمنطقة المشرق العربي، وهي البؤرة الأكثر توتراً، والأكثر أهمية في حسابات المطامع الأجنبية لما تتمتع به من مصادر الثروة وتقاطع الطرق الاستراتيجية، عناصر القوة الذاتية هذه أدخلتها في صلب التنازع الدولي للقوى الكبرى، ليس الآن فقط، وإنما عبر صفحات تاريخ الصراع كلها.
ربما يتطلب المشهد الأخير لإخراج رسمة (صفقة القرن) حدثاً ساخناً، تصعيد هنا، أو حرب محدودة ومحسوبة هناك، ومن ثم تبدأ حفلة التفاوض والتقاسم، لتكون نتائجها بالقطع ليس في صالح العرب، الغافلون منهم، أو المشاركون بمعرفة، أو المغيبون المبعدون عن مسرح التأثير.
صفقة القرن تطل بقرونها مبشرة بعهد جديد يراد له أن تكون إسرائيل هي المدير للمنطقة وبالموارد العربية وبقوة العمل العربية، وبهذا تتحول الدولة الاستيطانية من عبء على الغرب إلى فاعل يمارس دوراً أكثر كفاءة في ضبط المنطقة لصالح الرؤية الغربية الاستعمارية وبعد أن يحولوا العرب الى مجرد عمال تراحيل.
الأزمة الأميركية الإيرانية ليست هي الحدث الأهم والنهائي، إنها فقط جزيئة تشارك فيها إيران بوعي في إطار عدائها التاريخي المزمن للعرب ما دامت نتائج المخطط الأكبر ينال من العرب.
السؤال الملح المطروح، وربما المكرر: ما العمل؟
الإجابة عن سؤال كبير كهذا، يحيلنا إلى التاريخ ثانية، فعلى مدى العقود الماضية من القرن العشرين لم ينجح الحراك القومي العربي في بناء منظومة متماسكة من وسائل وأبنية الصد وبما يتناسب وحجم الاستهداف الأجنبي، وبدل خطاب موحد، جامع مانع، وجدت الأمة نفسها أمام مجاميع ترفع كلها شعاراً واحداً وتتقاطع بالعمل حد الاحتراب، أحياناً، مما أفقدها القدرة على المجابهة ومن ثم سهل هذا الاختراق الخطر، الذي نشهده الآن.
المطلوب وقفة جريئة للمراجعة بمغادرة الانحياز والتخندق، وهي مسؤولية تاريخية تفرض نفسها على القوى العربية كلها بالعودة إلى التمركز نحو هدف بناء قوة الصد، وبما يتناسب والاستهداف المركب الدولي الإقليمي، من دون هذا سوف يبقى العمل مهما كانت صدقيته مجرد مفارز متباعدة تغرد في الخواء.
0 التعليقات: