عودة الى معالم قديمة
عودة الى معالم قديمة
عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي
لعلـَّه المقال الأوَّل والأخير الذي نشره السَّيد جعفر هادي الكريم من النجف الأشرف في مجلة ( العلوم ) البيروتية في ستينيات القرن الماضي يدعو فيه إلى تطهير أدبنا أي تنزيهه من الأدناس كما يفيد المعجم عن معنى الطهر أو التطهير ، فثمَّة فئة من حملة الأقلام تسعى لإشاعة الانحلال والتفسُّخ والضَّعف الأخلاقي وقد تكون في ذلك ممتثلة بإمرة الأجنبي الذي لاشيء يفرحه ويحقق له غاياته مثل أنْ يواجه شعبا ً لا يعي أفراده مسؤولياتهم تجاه أوطانهم.
والمقال أشبه بتلك الكتابات التي يعدُّها الأدباء الناشئون في استهلالة حياتهم الأدبية حول لمَنْ يكتب الأديب للعامة أمْ للخاصة ، بدلا ً من أنْ يضطلعوا همْ أنفسهم بكتابة ما ينظرون له من الفصول التي تجد فيها الأكثرية ضالتها في تحسين معايشها ومدافعة القوى والجهات التي تحول دون ذلك ومناصبتها العداء ، لولا أنْ تفوَّقَ عليهم السَّيد جعفر هادي الكريم بلغته الرَّصينة وأدائه القوي وبيانه المحكم ، غير أنـَّه وقع في ما ينبي عن السَّذاجة في بحثه واستقصائه الأسباب والمكونات التي ساعدَتْ على ظهور هذا الصِّنف المريب والمدخول في نيَّاته ومراميه من الأدباء ، فهو يحمِّل المربِّين الذين يقع على عاتقهم تربية جيل صالح تبعة ما ابتليَتْ بهِ المجتمعات العربية من كثرة الذين ينتحلون صفة الأدباء ، فقد قصَّروا في توجيههم وفرَّطوا في حثـِّهم وإرشادهم إلى العمل من أجل مصلحة المجتمع وخيره وسعادته ، وجلُّ ما عملوا له في تأدية رسالتهم أنـَّهم فتحوا الطريق أمام الناشئة ليخوضوا معترك الحياة فقط .
ويصنـِّف الكاتب الأدباء العرب المحدثينَ أصنافا ً ثلاثة يتميَّز بعضها من بعض أو يختصُّ بسمة ما ، فثمَّة فئة منهم تتخذ من المجتمع موقفا ً إيجابيا ً فتعنى بمعالجة مشكلاته وتعينه على تجاوزها وتخطيها نحو الخير والحق والسَّعادة , وفئة تقف بالضِّد من أولاء فتعمل على تحطيمه ونشر القيم والأفكار المنحلة المجافية لموروثه في الإباء والكرامة الإنسانية ، أمَّا الرَّهط الثالث فهم دعاة الفن للفن الذين يقفونَ موقفا ً وسطا ً بين هذا النوع أو ذاك ، فهم لا يقدمونَ خدمة ما لمجتمعهم ولا ينزعونَ لتخريبه والبتِّ فيه وحسبه أنـَّهم يدينونَ بكون الأدب فنا ً جميلا ً ولا ينبغي أنْ يُسَخرَ لمآرب بعيدة عن رسالته الحقيقية في إشاعة المتعة والجمال لأنـَّه بذلك يفقد الكثير من أصالته وصدقه ، والحق أنَّ هذا النفر لا وجود له بيننا ، والأمر لا يعدو أنْ يكونَ ثرثرة درج عليها بعض الأدباء واعتادوها في مناظراتهم ومحاوراتهم حين لا يجدونَ ما يشغلهم جارينَ فيها على منوال ما هو شائع في الأوساط الأدبية لدى المجتمعات الغربية حين تنقل المترجمات من الفصول النقدية ألوانا ً شتى من هذه المماحكات والدَّعاوى ممَّا ليس ضروريا ً للأديب العربي المحدث أنْ يطلعَ عليه ويلمَّ به أصلا ً ، فله من تراثه البعيد والقريب كم هائل من النتاج الأصيل والأدب الزَّاخر بالسُّمو والرِّفعة والنبل ، ينقضي العمر ولا يفرغ من سوغه واستيعابه .
لكنَّ السَّيد جعفر هادي الكريم يحسن اختتام مقالته وإنهاءها بدعوة أدباء الفن للفن الذين توهَّم وجودهم وافترض لهم تأثيرا ً ودورا ً في حياتنا لأنْ يتداركوا أمرهم فيسلفوا أدبا ً يحتوي على المتعة والفائدة وخدمة الأغراض الإنسانية وانقاذ مجتمعهم من التحكم والظلم والاستغلال على غرار ما صدع به قبله سلامة موسى من وصاياه ونصائحه في اتخاذ المواقف الإيجابية في هذا العالم الحافل بالصِّراع بينَ قوى الشر والخير معرضا ً بكـُتـَّاب جيله من المعنيينَ بالتراث والتعريف بسير القادة والمصلحينَ الهداة في تاريخنا على شاكلة تنفر منها المسامع لكثرة المعاودة عليها بالتكرار ، فأورثته عداوة المهتمينَ بالدراسة الأدبية وإظهار ميزات الشُّعراء المبدعينَ وتحليل نتاجاتهم ، فراموه بتهم ٍ شتى ومطاعن مختلفة بينا هو يصرخ بوقوفه على كتابات الجاحظ وأنـَّه لمْ يدعْ رسالة له دون أنْ يقرأها ويحثَّ النابتة أنْ يمعنوا في تدارسه وتقصِّيه ، فيا للمفارقة ! .
قلت أنـِّي لمْ أقرأ للكاتب النجفي غير هذه المقالة اليتيمة ربَّما نشر غيرها في دوريات ومجلات لمْ تنتهِ إليَّ ذات يوم ، تتبنى مثل هذه الدَّعوة العريضة لتطهير أدبنا من الشَّوائب والأرجاس الضَّارة ، مع الخطالة في تشخيص الأسباب والعوامل الآيلة إلى تهافت الأدباء وقلة وعيهم بكنه رسالتهم الحقيقية ، وهلْ يحتاجون إلى مربِّينَ حقيقة وقدْ أسمعونا تبجُّحهم وتشدُّقهم عن اضطلاعهم بتربية نفوسنا وتهذيب سلائقنا ؟ .
كثيرونَ أولئك الأدباء الذين كتبوا مقالة واحدة في حياتهم ولمْ يردفوها بغيرها وهجروا الكتابة متوارين بعيدا ً لسبب وآخر ، على أنـَّهم لوْ واصلوا المضي في شوطها لما أحوجتهم متطلبات المهارة والإتقان من لغة ناصعة وقابلية على السَّرد والاسترسال والاستطراد إلى فنون من الخواطر والنزعات ، أذكر منهم فيصل عمران القاضي ، أديب من العمارة قرأتُ له بحثا ً ضافيا ً في المذاهب النقدية نشرته مجلة ( الرِّسالة ) اللبنانية المحتجبة التي رأس تحريرها جان كميد في خمسينيات القرن الماضي قبل أنْ يظهر ثراثرة هذا الزَّمن واللاغينَ بالتجاوز والتخطي وموارة أسماء ومحوها من ذاكرة الزَّمن والأجيال ، وهيهاتْ .
0 التعليقات: