أخر الأخبار

.

من قضايا تعليم اللغة العربية رؤية جديدة


من قضايا تعليم اللغة العربية رؤية جديدة


عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي



أعرف أن الدكتور نعمة رحيم العزاوي(رحمه الله ) داعية تجديد وتجويد في الكتابة معاً، دون أن يعني ذلك البتة وجود مفارقة أو تباين ين هذين الركنين التجديد والتجويد في الفحوى والدلالة، إن لم يلتقيا عند مطلب تمثيل النتاج الأدبي والفكري لمشرب منتجه وصدروه عما هو عليه من طبع أو سليقة أو مزاج، فتعددت لدينا ضروب مختلفة من القوالب والصيغ والأساليب يجري في كل منها ترتيب الألفاظ وشخوصها في سياق العبارة أو الكلام على شاكلة تباين نظيرتها وتخالفها في النسق تبعاً لتفاوت الأفراد واختلافهم في الطبائع والأمزجة، وكذا كانت عدته من الثقافة الأدبية مجتناة من قراءات مضنية لأدبيات الرّواد من كتّاب مابين الحربين والخمسة عشر عاماً التي تلتها مؤذنة برحيل معظمهم أو توقفهم عن العطاء بعامل وآخر من استبداد المرض بهم وتوهينه لقواهم وحَدِه من نشاطهم وفورتهم إلا دعوى عجزهم عن مسايرة الزمن والتكيف معه في متغيراته ومستجداته.

لذا أرى أن الطابع الأسلوبي الغالب على كتاباته في جريدة الجمهورية تتحقق فيه غايتان أولهما الضن بالعربية أن يترخص المنشئ في استعمالها و يحملها على ما لا قبل لها به اولاً يشرفها من التبسيط المرذول باسم خدمة الجمهور وتقريب أفكارنا ومفهوماتنا من وعيه، وثانيهما الوفاء المحض للتقاليد العريقة التي درجت عليها أو انطبعت بها المأثورات الثقافية المتنوعة والمتوزعة في شتى الأبواب والصنوف المعرفية من أدب وفلسفة وتاريخ وتفسير وشروح لغوية مما تولى عنه السلف الماضون لا أسلك في قبيلهم المزوقين والمزخرفين المتكلفين في نسجهم وبيانهم ، إنما اقتصر في تحديدهم على كل مترسل بوحي سليقته لا يعهد من نفسه حراناً وتوقفاً عن الأداء، إذ تواتيه المفردات الطيعة متساوقة وما هو فيه من جيشان واحتدام مشاعر وتعاقب الخواطر والمعاني وترادفها في ذهنه بأمل تجسيدها صيغاً أو فناً قولياً.

والحرص على هذا المنوال من الكتابة المتفننة التي تعزى إلى صاحبها الحقيقي لا يفترى عليه بتقليد احد أو يمكن أن يستوي وإياه آخرون في مداه من الصنعة أو طريقته في رصف الألفاظ ومماثلته في نمط إيقاعها، لا يتعارض وما يحسن توافره في محتويات الصحافة اليومية من يسر وسهولة وسلاسة مادام متداولوها من عامة الناس بمختلف مراتبهم ومستوياتهم الفكرية وآفاقهم العقلية ، فالكاتب الحق يستطيع بشيء من المرونة وهي غير التساوم والتبذل والتنازل عن شرط الإبداع والتفرد أن يذكي فيهم ذوق الأسلوب الرفيع ويروضهم على فهم مراميه وغاياته وتذليل ما يواجهون من صعوبة في ذلك.

وكذا نلفي هذا الأستاذ الجامعي موفياً على الغاية من التسمح والنظر صوب المستقبل والنزول على مقتضياته عبر كتابه “من قضايا تعليم اللغة العربية” فرغم استيعابه وإحاطته بمعظم ما صار إليه اللغويون القدامى من تقنين وتقعيد وتأصيل للغتنا ، فإنه لا ينظر حيال تلكم القواعد والأصول نظرة الحريص عليها من التأثر برياح التجديد وتشذيبها مما لا غناء فيه، أو لا تستدعي إبقاءه حاجة، فهو من هذا الوجه رائد اعتبار المواضعات اللغوية وسائل لغاية أسمى ومقاصد أنبل. وقد سبقه آخرون في هذه الريادة مقتصرين بها عند حد القول، دون مفاجأة الجمهور بمقترحات أو حلول أو تعريفنا بما يلقى من عناء وجهد في تشرب أي قصد من مبادئ اللغة وأولياتها، لأنه في مجمل إمكانياته ومدعياته لا يرقى إلى اكتناه هذه المفارقات العجيبة التي تشوب الدرس النحوي ويؤوب منها تلامذتنا الصغار وأقرانهم اليافعون بالشرود والحيرة والتعب الذهني، ثم أن أولئك الرّواد كانوا موزعين بين رغبة الاقتحام والمكاشفة من جهة، والانقياد لمنطق الإلف والعادة.

وقد ألفنا طوال ما مرّ علينا من سنوات وأطوار عشرات المتشدقين بحفظهم لألفية ابن مالك وغيرها من مطولات النظم التعليمي البارد والمجمل لقواعد اللغة دون أن يسلك بهم ذلك في عداد الكتّاب الأفذاذ أو المنشئين البارعين في العبارة عن مكامن وجدانهم وتبيان استجاباتهم ومواقفهم من مجريات الحياة المتتابعة وكأنهم يعتدون هذا الحفظ من عناصر الوجاهة والبروز إن لم يلتمسوه مرتزقاً وباب ثراء مكرسين عزلة المعرفة العلمية وانبتات صلتها بالواقع.

فماذا تبقى للدكتور نعمة رحيم العزاوي من معارفه الغزيرة وإحاطاته المستوفية لكل ما يتصل باللغة العربية ويلابسها من نحو وتصريف ورسم للمفردات العسيرة المشتملة على أحرف بعينها من همزة وألف مقصورة وألف ممدودة وتاء مدورة بوصفها حرفاً هجائياً وأخرى مبسوطة تعدّ من صلب اللفظة أو داخلة عليها مثل الحرف الزائد ونظيرتها الثانية التي هي في تقويم النحاة غير اسم لـه محل من الإعراب وغير ذلك من صور وأشكال التاء الأخرى وما لا يحصى أيضاً من أحكام وضوابط وشذوذات واستثناءات من الأحكام والضوابط ، وقد تصدى لمصارحتنا بما نتجنى به على أبنائنا وأخوتنا في المعاهد جميعاً من اثقال أفهامهم بمصطلحات “مجافية للسهل وتسبب لـهم الحيرة والارتباك” بدلاً من أن يقتنعوا بغنى هذه المصطلحات وحسن فائدتها في رياضة سلائقهم وتدريبها على المحاورة والمناظرة وابلاغ رأيهم وشأنهم إلى أية جهة معنية بأمور حياتهم، إن لم يعدوا هذا القدر من الطموح أو الرغبة إلى تجريب قدرتهم من الفهم الإبداعي واختبار قابليتهم على الإنشاء والكتابة”
وكذا يسّوق عينات من هذه المواقف المحرجة والأوضاع الصعبة التي يجد المدرس نفسه بمواجهتها ملجماً عن الرد مصروفاً عن التبرير والإجابة، وهاكم : لعب الولد بالكرة ، والولد لعب بالكرة، ونقول للناشئ أن الولد فاعل في الجملة الأولى هو الذي فعل اللعب، فيستجيب لـه عقله الغض، ويفهم ما نقوله لـه ولكن نعود فنقول لـه أن الولد نفسه في الجملة الثانية ليس فاعلاً وإنما هو مبتدأ تسبب لـه الحيرة والارتباك، وكثير منهم يعارض هذا القول ويظهر رفضه لـه.

والناشئ هنا على حق فوظيفة الولد في الجملة الثانية هي وظيفته نفسها في الجملة الأولى، إذ فعل اللعب فيهما كلتيهما ولكن منطق النحو القائم على اعتبار فلسفي محض، يرفض المنطق السهل ويحل محله منطقاً صعباً فيه تكلف وفلسفة”.
إلى غير ذلك من أمثلة وشواهد يسوقها المؤلف منبهاً إلى مشكلاًت قائمة فعلاً وداعياً عين الوقت إلى تلمس الحلول والمخارج منها، مشفقاً على مريدي المعرفة العلمية ذات المساس القوي بتراثهم اللغوي من المتاهات والتخبطات والتورطات الشائنة ، مع ما يستتبعها من كبح نزوعهم للتعبير عن خلجاتهم وأشواقهم بتفتح وطلاقة.

ومن حق القارئ أن يستجلي دواعي إقحام الفلسفة والمنطق على مسائل النحو وترتيبها وفق تقسيماته ومسمياته ، وكيف نكبت بما اتسم به علم الفلسفة والمنطق من تجريد وتأمل نظري يعدمان أي تمثيل للواقع الاجتماعي المنظور يومها، حين عكف علماؤنا على التأليف والتدوين وضبط معلوماتهم وتقييدها وتعزيزها بالشروح والأمثلة المستخرجة من القرآن الكريم والحديث الشريف، وغرر الشعر العربي من الجاهلية والإسلام ، مخافة تفشي اللحن وغلبته على الألسنة وشيوعه في الكلام إزاء خلطة العرب الأصلاء بالأعاجم من شتى الأجناس والجماعات واللغات أيضا كما هو معروف، ومن الأمثلة على تأثر النحو بالمنطق ماعرف بالتقسيم الثلاثي للكلمة ” فالكلمة عند النحاة إما اسم وإما فعل وإما حرف، وهذا التقسيم منطقي وضع على أساس أن الوجود يتألف من ذات وهو الاسم ومن حدث وهو في اللغة الفعل ومن واسطة وهو الحرف أو الأداة على حد تعبير الكوفيين” غير أن الدكتور العزاوي يعقب على هاته الأقوال التي ما أظن القارئ العادي المحدود قادراً على سوغها، إنما هذا الهدف بمستطاع طلبته الساعين وراء الماجستير ممن عهد لـه بإلقاء ، فصول كتبه بشكل محاضرات يرتجى منه توسيع آفاقهم الذهنية ورفدها بمحصلات ومجانٍ طيبة عن أصول اللغة ومشكلات تدريسها إن لم يستهدوا بها عند شروعهم في كتابة رسائلهم العلمية المؤهلة لحيازة هذه الدرجة الأكاديمية.

نقول أن العزاوي لا ينظر إلى هذا التقسيم نظرة المستقبل لـه المعتقد بصوابه، إنما يخاله مصطنعاً “وليس عملياً بالنسبة للصبي المتعلم، فإننا نجعل الألفاظ : كتاب، لطيف، هو، الذي، هذا جميعاً في باب الأسماء، وكان أحرى بنا أن نصنّفها تصنيفاً آخر تراعى فيه حقيقتها، وما يفهم، فنجعلها أسماء وصفات وضمائر ومعنى ذلك أن تقسيم الكلمة يجب أن ينظر فيه إلى المعنى والى وظيفة الكلمة في الجملة”
فلا غرو إذا ما شفع المؤلف اقتراحاته وآراءه في تشذيب المادة النحوية من الشوائب الضارة العادمة لأي فائدة أو نفع في الحياة العملية أو في تيسير القسم الآخر منها وتبسيطه وتجديده وجعله ذا حيوية وديمومة وتفاعل في الحياة الاجتماعية واتصال بها، وليتجسد بذلك على صعيد الواقع الرأي الذي يختلج به وجدان المفكرين والأعلام المتفتحي العقول المتنوري الأذهان والأفهام في كل حقبة من تاريخنا ورجأ من مواطننا وقوامه كون المادة النحوية مجرد وسيلة لا تبتغى لذاتها، إنما يصار منها وبها إلى تقويم الألسنة وعصمة الأقلام من الشطط والتعسف..

لا غرو أن تقترن هذه الدعوى هذه الدعوى البارة المحوجة لاْطراح التهيب والتردد بالقول “أود أن أشير إلى أن ما عرضته ينافي ما ألفنا في الدراسة النحوية ، ولذا لابد لمن ينظر فيها أن يتجاهل منطق الإلف والعادة ويتخلى عن منطق المشاعر والأحاسيس ويركن إلى منطق العقل، ليدرك مبلغ ما يعاني النشء من صعوبة في تعلم نحو لغتهم ويأخذ بما نقترح لتصحيح مسار هذا التعلم. ويردف هذا التنبيه بهذه الكلمات المتألقة.

“نحن نأخذ بهذه المقترحات أو غيرها لا نسيء إلى لغتنا ولا نحرم شيئاً من أحكامها، وإنما نخالف أنظاراً اهتدى إليها بشر مثلنا مهما امتازوا منا أو تفوقوا علينا فهم ليسوا معصومين من الخطأ والزلل.”

وفي جانب من محاضراته تنبث توجيهات وانطباعات شتى بصدد مسائل التعبير والتنديد بالشائع المتداول بين المتعلمين ، إن موضوعات الإنشاء تقتضي وجود الموهوبين المتفننين بتحسين العبارة وتزيينها، وإن موضوعاته هاته أيضا وثيقة الاتصال بالشؤون والملابسات الفكرية التي لا يتشجع عليها غير المعنيين بالتأمل والنظر للوجود ومن يستهويهم الخيال والحلم فيستلهمون منها خطراتهم ومعانيهم التي هي فوق مستوى نظرائهم في قاعات الدرس ممن ينفرون من درس الإنشاء وما يحملهم عليه من تصنع مقيت وحذلقة ممجوجة نزوعاً منهم إلى التدليل على براعتهم ومهارتهم في التجويد الكتابي، مادام الإنشاء عندهم صنو البهرجة اللفظية ورديف الإثارة والتزويق، وفاتهم أن يدركوا كون الحياة أوسع من أن يحدها حد أو تضيق في نطاق، فإن أحوجت إلى الاهتمام بالجانب الأدبي الجمالي فما هان عليها التفريط بما يحتاج إليه المتعلم من استعداد مناسب في حصيلته من اللغة ” يعبر به عما يواجهه من مواقف الحياة تعبيراً واضح الفكرة صافي اللغة، سليم الأداء، يتلقاه عنه القارئ أو السامع فيفهمه ويتبين مقاصده”. وكذا يخلص من هذا التحديد إلى التعبير الوظيفي الذي يكرس اللغة أداة للتبليغ والاتصال قبل كل شيء، وذخيرته ” في الحديث، والمناقشة ليستطيع أن يؤدي دوره وأن يقوم نفسه وفكره لمن يعيش بينهم ويتعاون معهم ويتصل بهم” من قرناء في المؤسسات ، والجمعيات، والمؤتمرات ، والندوات.

وفي استعراضه مشكلات الكتابة العربية ومدى علاقتها بدرس الإملاء أو رسم الكلمات، فيما يؤثر هذه التسمية بعض اللغويين المعاصرين ومنهم العلامة مصطفى جواد، لأن مفهوم الإملاء ينصرف إلى ” إملاء شيء من معلم على تلاميذه” فإنه إذ لا يجد في الصعوبات التي تعترض المتعلم ما يشق تجاوزه وتذليله، أو يخاله غير ذي شأن وخطورة ومدعاة للتهويل والمبالغة في تبيان ضرره على النشء وتعويقه لإتقانهم الكتابة أو الرسم، إما لأنه لاتخلو منه أية لغة أخرى في العالم، وإما أنه في حالة التركيز عليه ينطوي على استخفاف بقدرات الناشئة على التعلم وقلة توقعنا منهم أن يبذلوا بعض الجهد في سوغ المادة، وإلا فما دالتهم على العلم إذا وضعناه في متناولهم ميسراً خالياً من العسر، واضحاً لايحفزهم على التفكير ويشحذهم للتأمل والمراجعة، نقول عند استعراضه هذه الأمور والمسائل يعرج بنا ضمن هامش على آراء مهمة في تيسير الإملاء العربي قال بها جلة من اللغويين القدامى وشايعهم عليها بعض المعاصرين كالأثري ومصطفى جواد ومنير القاضي وإبراهيم مصطفى، من ابينها رسم الألف اللينة (الفاً مطلقاً) في الأسماء والأفعال والحروف ثالثة كانت أو غير ثالثة، باستثناء بعض الأدوات أو الأسماء: على، إلى، بلى، متى، متى، أنى، دون أن يستبين تفسيراً مقبولاً وتبريراً مقنعاً، لهذا الاستثناء أصلاً.

ويروق لنا أن نعقب في هذا الموضع، إن ما وقر في نفوسنا ودخائلنا عن جلال قدر أولاء الأعلام المحدثين المتابعين للسلف في استنباطاتهم وتخريجاتهم، لاينبغي أن يقودنا بدورنا إلى مجاراتهم في هذا النهج والتيقن سلفاً من إنجاحه لو غامرنا بتطبيقه عملياً ، فقد عنّ للدكتور طه حسين سنة 1956م أن ينشئ مقالاً وصفياً أو متوفراً على معالجة مسألة لغوية وتمحيصها فيما أذكر خص به مجلة العلوم البيروتية أو عمدت لنقله عن مجلة أو صحيفة مصرية، تندرج في سياقه مفردات عديدة مختومة بألفات منها المقصور ومنها الممدود، واشترط على الناشر ومرتبي الحروف في مطبعته أن يستعان بالألف مطلقاً دون المقصور، في إزجاء جميع تلك الألفاظ ما حق ألفه القصر والإطلاق، وكان أن استهجن هذه الفعلة الراحل الأستاذ رئيف خوري وأبان عما شابهها من زيغ وضلال، ومازجها من زيادة اللبس لبساً والتعقيد تعقيداً .

وبعد فقد كانت جولتنا في شعاب كتاب الدكتور العزاوي عن قضايا تعليم اللغة العربية حافلة بالمتعة والطرافة، محصلتها من التعرف على المواقف الملتزمة بقيم العصر، واعتبار اللغة من أدوات الناس ووسائلهم في إغناء حياتهم وتطوير ثقافتهم وإنضاج وعيهم، أوفر من حالات التهيب والانغلاق عن الجديد من تيارات الفكر والشعور، تلك التي تستحيل اللغة في منظور أصحابها مثل الرواسم والأطلال، حسبنا لها وفاءً وذكرى لاغير .

0 التعليقات: