أخر الأخبار

.

ثورة فرنسية جديدة ؟




ثورة فرنسية جديدة ؟




عراق العروبة
رأي القدس العربي



اتفقت وسائل الإعلام على استخدام تعبير «الثورة الفرنسية» لوصف نتيجة الجولة الأولى من الانتخابات هناك. لكن الثورة هذه المرّة لم تحصل بهجوم الجماهير على سجن الباستيل بل بإسقاط مرشّحي الحزبين الرئيسيين، الديغولي والاشتراكي، اللذين سيطرا على المشهد السياسي منذ قرابة ستين عاما .

بجمع نسبة مصوّتي مرشّحي حزب يمين الوسط الجمهوري فرانسوا فيون 19.6 ومرشح الحزب الاشتراكي بنوا هامون 6.2 يتّضح لنا أن المصوّتين الفرنسيين اختاروا التغيير والابتعاد عن الحزبين القديمين بنسبة تقارب 75٪ ويمكن اعتبار هذا الحدث، للأسباب المذكورة، انفراطاً للأسس التي قامت عليها الجمهورية الخامسة التي أسسها الجنرال شارل ديغول عام 1958.

يمثّل المرشحان الفائزان بالجولة الأولى، إيمانويل ماكرون (حاز على نسبة 24.1٪)، وهو أصغر مرشح رئاسي فرنسي منذ عقود، ومارين لوبان (حازت على نسبة 21.30٪)، شخصيتين من خارج منظومة المؤسسة الحاكمة ويحملان مشروعين متعارضين للتغيير، يقدّم الأول، كما قال «الأمل والشجاعة»، ضمن إطار لإصلاح البلاد بالتعاون مع أوروبا، فيما تقدّم لوبان مشروع اليمين العنصري التقليدي الذي يرى أن مصلحة فرنسا هي بالابتعاد عن أوروبا وإقفال حدودها أمام المهاجرين ومحاربة «الإرهاب الإسلامي» .

تظهر النتائج أيضاً ميلاً كبيراً للاستقطاب السياسي الحادّ، فمرشح الحزب الديغولي الذي حاز على قرابة 19.91٪ من الأصوات كان يزاود على جمهور لوبان بالتصريحات المناهضة للمهاجرين كما كان قريباً من موقفها في موضوع الاتحاد الأوروبي وفي العلاقة مع روسيا وسوريا، كما أن المرشح الاشتراكي، الذي كان يعتبر أصلاً على يسار حزبه، نال 6.35٪ أي ما يقارب ربع أصوات مرشح أقصى اليسار جان لوك ميلانشون الذي حاز على 19.64٪. يكشف هذا الاستقطاب انقساماً عموديّاً في المجتمع الفرنسي فصعود اليمين المتطرّف يقابله اندفاع مقابل نحو اليسار على أنواعه وهو أمر شهدنا أمراً مشابها له في بريطانيا مع صعود حزب «الاستقلال» البريطاني (يوكيب) ونجاح دعايته في ترجيح كفّة المؤيدين للانفصال عن أوروبا وما قابله من صعود شعبيّ لشخصية جيرمي كوربين، الناشط اليساريّ، وتجاوزه العقبات الكبيرة في وجه تقلّده منصب الرئاسة في حزبه، كما رأينا شبيهاً له في ظاهرة برني ساندرز، منافس هيلاري كلينتون على الترشح عن الحزب الديمقراطي الأمريكي، وكذلك في نجاح المرشح الشعبوي اليميني دونالد ترامب، وهو ما أعطى دفعة كبرى لليمين الأوروبي المتطرّف .

يمكننا القول إن العمليات الإرهابية في فرنسا التي حصدت أرواح قرابة 230 شخصاً خلال الـ18 شهراً الماضية وآخرها كان قبل يومين من الانتخابات لعبت دوراً في تصليب جبهة اليمين العنصريّ الفرنسيّ ولكنّ هذه الحقيقة لا يمكنها أن تخفي وجود مشاكل بنيوية عميقة في فرنسا سابقة على هذه التفجيرات . 

التاريخ، مثل المادة في الفيزياء، لا يختفي، بل يتحوّل، ولعلّ ما نشهده حاليّاً من صعود للتيار الفاشيّ ليس إلا استمراراً لذلك التيّار الذي قام بقيادة فرنسا خلال مرحلة الاحتلال الألماني تحت أمرة الماريشال بيتان، والذي حاول جاهداً كسر إرادة المقاومة الفرنسية للنازيّة والتي مثّلها الجنرال ديغول خارج فرنسا، ولعب اليساريون والحزب الشيوعي الدور الأكبر فيها ضمن الأراضي الفرنسية .

شكّل ذلك التيّار أيضاً الأساس الفكريّ ضمن المؤسسات العسكرية والأمنيّة التي كانت تقاوم بعنف فكرة التخلّي عن المستعمرات، وبينها الجزائر، واحتفظت بكرهها الأصليّ لكفاح أبناء تلك المستعمرات، وما كانت حينها بحاجة لتبريرات من قبيل «الإرهاب الإسلامي» الذي تستند إليه لوبان في طروحاتها .

ما سنشهده إذن هو استخدام التيّار الفاشي أدواته التقليدية التي ترتكز بطريقة انتقائية على رموز تاريخية ودينية تستعيد ماضياً يستعيد «أمجاد» الاحتلال والعظمة الإمبراطورية بالتوازي مع احتقار الشعوب الأخرى باعتبارها موضوعاً لتلك العظمة البائدة .

هذا الاتجاه الرجعيّ، بهذا المعنى، لا يمثّل ثورة بأي شكل، وليس إلا استمرارا للثورات المضادّة التي شهدتها الثورة الفرنسية نفسها لإعادة عالم لم يعد ممكناً إعادته .




0 التعليقات: