أخر الأخبار

.

التطوع الثقافــــــــــي





التطوع الثقافــــــــــي





عراق العروبة
سعيد يقطيــــن




في الخمسينيات من القرن العشرين أثيرت قضية الحرية والالتزام في الأدب والفكر. وكتب الشيء الكثير عن هذه العلاقة التي امتدت إلى مجالنا العربي حتى السبعينيات. وأتذكر، الآن، وأنا آنذاك، تلميذ في المرحلة الثانوية، مشاركتي في هذا النقاش الذي أثار ردود أفعال، علقت عليها بثلاث مقالات في جريدة «العلَم» المغربية. لكن كل تلك النقاشات حول الالتزام لم تؤد إلا إلى التبسيط الأيديولوجي. ولم يكن من نتائج الحرية غير التسيب والفوضى .

 وجدتني أستحضر هذه الثنائية، وأنا أعاين الآن في الاجتماعات العامة المتصلة بتكوين الهيئات المؤسسية نزوعا لا حد له لتحمل مسؤولية الرئاسة والتنسيق والإدارة والاستوزار . وإذا كان هذا النزوع طاغيا في المجال السياسي فله أكثر من دلالة على انتهازية السياسيين، وليس على رغبتهم في التسيير من أجل الإصلاح. لكن أن يصبح هذا ديدن بعض المثقفين أو الباحثين فهذا مما يدفعنا إلى التساؤل والاستنكار ؟

لا يتعلق الأمر بالنزوع نحو «تحمل المسؤولية» في المؤسسات فقط، ولكنه أيضا يتسع لجعل الكتابة الإبداعية، والبحث «العلمي» مقرونا بالمكافأة والترقية، أو نيل الجائزة. ومثلما صار تحمل المسؤولية مقرونا بالحصول على «الكعكة»، وليس لتقديم الخدمة الاجتماعية والوطنية، باتت الكتابة الإبداعية والفكرية متصلة بالترقية والجائزة والمكافأة، وليس بتطوير الكتابة وجعلها مرتبطة بالهم الثقافي والمشاركة في التطور والتقدم. لقد دفعني هذا النزوع المزدوج إلى استحضار ما صدرت به هذه المقالة حول الحرية والالتزام، لما بينهما من صلات، وقد صارت تلك الثنائية محولة إلى ثنائية جديدة، يمكن أن نسميها: التطوع والمكافأة .

كان التطوع السمة المهيمنة لدى المناضلين السياسيين والمثقفين الملتزمين بقيم التحول والتقدم وقضاياه، وكان تطوعهم مبنيا على الإيمان بالعمل الذي يضطلعون به، ولم يكن يفرضه عليهم أحد .

 أتذكر كيف كنا نقوم بجولات مكوكية من أجل تقديم المحاضرة أو المشاركة في النقاشات التي كانت سائدة في السبعينيات، وحتى أواسط الثمانينيات، وفي مختلف المدن المغربية، ونحن نؤدي تذكرة السفر من جيوبنا، وما يصاحبها من تكاليف موازية . وبعد انتهاء الندوة، لا نقيم في الفندق، ولكن نتعشى في بيت أحد أعضاء الجمعية، ونتوزع للمبيت في بيوتهم . وفي الصباح نحمل حقائبنا، ونؤدي التذكرة، ونعود ونحن مسرورون غير عابئين بالتعب ولا بالتكاليف التي أديناها من جيوبنا وعلى حساب قوت أبنائنا .

عندما كنا نكتب القصيدة أو القصة أو المقالة أو البحث لم نكن نفكر في المكافأة ولا في الترقية ولا الجائزة، وحين كنا نناضل لم نكن نحلم بالكرسي . كنا نعتبر الكتابة والنضال وسيلة للتأثير والتغيير . نصرف ثمن بعث الدراسة بالبريد العاجل، ويكفي نشرها ليكون العزاء الوحيد الذي ننتظر، لأن ما نكتب سيصل إلى القارئ . ولا تهمنا متاعب التفكير والكتابة، وما يصاحبها من استهلاك للقهوة والدخان وجهد نفسي وجسدي . لم نكن نكتب من أجل المكافأة المالية . كانت الكتابة وتحمل المسؤولية واجبا وطنيا .

عندما تحمل طلحة جبريل مسؤولية جريدة «الشرق الأوسط» في الرباط، في الثمانينيات، أجرى استفتاء للكتاب المغاربة حول مكافأة الكاتب . لم أجب عن أسئلته لأني اعتبرت هذا مسا بنضالية الكاتب والمثقف. ومرة مع المرحوم جمال الغيطاني سألني عما نتقاضاه عن كتاباتنا في الملاحق الثقافية، وتعجب من استغلال تلك الجرائد لطاقاتنا؟ ورأيت في العراق كيف أن مقالة قصيرة، تقدم لها مكافأة مجزية، فكيف بالدراسة والمشاركة في ندوة ؟ وعندما حدثت الروائي يوسف القعيد عن مشروع رواية الزمن الذي كلفت به، متطوعا، عن إمكانية نشر رواية في السلسلة، كان سؤاله حتى قبل أن أوضح له المشروع: «تدفعوا كام؟» . فاجأني سؤاله لأننا لم نتعود على هذا في ثقافتنا . وبدا لي أن ما تشكل في المغرب من قيم ثقافية ونضالية مختلف عن التقاليد السائدة في المشرق العربي .

تغير الزمان، وزال التطوع، وصار الكاتب يسأل عن قيمة المكافأة . ومن يريد المشاركة في ندوة يشترط الدرجة الأولى، والفندق الفخم. صار الروائي يكتب من أجل الجائزة، والجامعي يتنافس على دخول مكتب النقابة، ليس من أجل النضال عن الأساتذة الجامعيين، أو تطوير الممارسة الأكاديمية، ولكن من أجل ضمان نقاط تضاف إلى سجل الترقية التي من خاناتها «المسؤولية الاجتماعية» .

وصار الجامعي نفسه يدبج المقالات لتنشر في «المجلات المحكمة» ليس من أجل طرح أسئلة، أو تطوير مشروع بحثي، ولكن من أجل ضمه إلى «عدد» ما يطلب منه من دراسات للترقية .

لا أحد يمكنه إنكار ضرورة المكافأة لأني أرى الكتابة وتحمل المسؤولية عملين لا يكفي التطوع فيهما، لما في كل منهما من تعب وجهد ونصب لا يقدره إلا من يعاني منه، لكن أن تصبح الكتابة وتحمل المسؤولية غايتين للترقية والجائزة بدون بذل أي جهد، وبدون جعل أي منهما لتحقيق غاية أسمى فهذا ما يمكن استنكاره لأنه لا يؤدي إلا إلى الرداءة السائدة وعدم الاضطلاع بالمهمة على الوجه الأمثل. كان التطوع مبنيا على الالتزام بلا قيد أو شرط، فصارت المسؤولية مفتاح المكافأة، وباتت الحرية مدخلا لانتشار الانتهازية والرداءة .






0 التعليقات: