أخر الأخبار

.

أزمة كركوك وتحديات المرحلة القادمة





أزمة كركوك وتحديات المرحلة القادمة




عراق العروبة
فراس إليــــاس





لايخفى على أحد أن التأزمات المستمرة التي تشهدها الساحة السياسية العراقية، أصبحت حالة طبيعية بالنسبة للمتابع للشأن السياسي العراقي، بل قد لا أبالغ بالقول بأنها أصبحت جزءًا متجذراً في العقلية السياسية العراقية المتأزمة أصلاً، وأزمة كركوك بدورها لا تخرج عن باقي الأزمات السياسية والأمنية والأقتصادية في العراق، والفارق الوحيد هو أنها قد تكون مقدمة لتقسيم وتفكيك الكيان العراقي .

فكما هو معلوم تمثل مدينة كركوك خليطاً معقداً وشبه متجانس من الأقليات والعرقيات والأثنيات التي تعيش فيها، كما شهدت هذه المدينة عمليات تغير ديموغرافي وصلت إلى جعل العرب الغالبية السكانية فيها حتى عام 2003، وبعد هذا التاريخ تحولت الغالبية للضفة الكردية بالشكل الذي هي عليه اليوم، كما أن هذه المدينة بقيت بمثابة قنبلة موقوتة خشيَ الجميع من التقرب منها، لما لها من تداعيات كبرى على مستقبل العراق، ولعل أهم ما يشير إلى ذلك هو أنه بعد إلغاء كل المواد القانونية التي أصدرتها سلطة الائتلاف المؤقتة بعد إحتلال العراق بصدور دستور العراق الدائم لعام 2005، تم الإبقاء على المادة 53 من قانون سلطة الإئتلاف المؤقتة والتي تعالج موضوع كركوك، ومن ثم تم تحويلها إلى المادة 140 من الدستور، التي تتحدث عن تطبيع الأوضاع في كركوك ومن ثم إجراء الإحصاء وأخيراً الاستفتاء، كما أن المادة 37 من قانون انتخابات مجالس المحافظات غير المنتظمة بأقليم لم تتح الفرصة لإجراء أنتخابات في هذه المدينة، خشية الإخلال بالتوازنات السياسية القائمة فيها .

وبالحديث عن أزمة رفع علم إقليم كردستان في مدينة كركوك في الآونة الأخيرة، والتي جاءت بعد صدور قرار من مجلس محافظة كركوك، برفع علم إقليم كردستان فيها إلى جانب العلم العراقي، بعد مقاطعة اعضاء مجلس المحافظة من العرب والتركمان لهذه الجلسة، أشر إلى مدى عمق التفاهمات الهشة والمرحلية بين حكومتي الإقليم والمركز، خصوصاً فيما يتعلق بالمناطق المتنازع عليها، فسلطات الإقليم موجودة فعلياً في مدينة كركوك حتى قبل سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم داعش، كما أنها هي من أوقفت مد التنظيم إلى داخل المدينة بعد إنسحاب الجيش العراقي منها بدعم من التحالف الدولي، كما أن علم إقليم كردستان مرفوع بها منذ أكثر من عشر سنوات، ونحن هنا لا نلقى كل أسباب المشكلة على الحكومة العراقية، بل باعتقادنا أن السبب الرئيسي لهذا الاحتقان المتصاعد هو نتيجة مراهنة الحكومة العراقية على المعادلات الدولية والإقليمية في ما يخص مدينة كركوك، كما أنها دائماً ما وضعت موضوع كركوك في إطار المساومات السياسية مع إقليم كردستان، مع العلم أن المادة 140 من الدستور كانت قد أشارت إلى تحديد فترة زمنية حتى اكتوبر 2007 لحل موضوع كركوك، إلا أنه لم يحصل ذلك .

فلا أحد يستطيع أن ينكر الأغلبية الكردية في مدينة كركوك، وفي مقابل إحترام حقوق الأغلبية الكردية في هذه المدينة ينبغي بالمقابل ضمان حقوق الأقلية العربية والتركمانية والأشورية في الحفاظ على خصوصياتهم، في البقاء ضمن العراق الموحد، أو الإنضمام إلى إقليم كردستان، وإذا ما كانت سلطات الإقليم ترى في إجراءات رفع علم كردستان في كركوك قانونية ودستورية، كان ينبغي أن تستفسر من المحكمة الإتحادية حول دستورية هذه الإجراء من عدمه، ومن ثم بالإمكان الشروع فيه .

إن ما حدث في مدينة كركوك يتجاوز مسألة رفع علم إقليم كردستان أو ماشابه، بل هو موضوع يتجاوز بأبعاده المدينة والعراق والمنطقة بأكملها، فالتطورات الأخيرة في سوريا المتمثلة بقرب إنطلاق معركة الرقة لتحريرها من سيطرة تنظيم داعش، وتواجد عناصر حزب العمال الكردستاني في مدينة كركوك، فضلاً عن الاتفاقيات النفطية التي عقدت بين إيران والحكومة العراقية بخصوص مد أنابيب لنقل نفط مدينة كركوك باتجاه ميناء عبادان بالاراضي الإيرانية عوضاً عن ميناء جيهان التركي في شباط 2017، بالاضافة إلى موضوع الصراع السياسي الكردي-الكردي للسيطرة على المدينة، إذ كما هو معلوم بأن إنتخابات مجالس المحافظات لم تجر في مدينة كركوك منذ العام 2005 وإلى الآن، وعلى الرغم من كون حزب الاتحاد الوطني الكردستاني هو المسيطر على المدينة واقعياً، إلا أن الحزب الديمقراطي الكردستاني هو صاحب الغلبة داخل مجلس المحافظة بواقع 15 عضواً من أصل 26 عضواً كردياً داخل المجلس، في حين تتراوح باقي المقاعد (6 الاتحاد الوطني) و(3 الاتحاد الإسلامي) و( 2 الحزب الشيوعي الكردستاني)، ولعل هذا الواقع هو ما يدفع الاتحاد الوطني الكردستاني إلى المطالبة بأستمرار بتصحيح هذه المعادلة السياسية في المدينة لما لها من ظلم واضح على قاعدته الجماهيرية، وقد تكون منطلقاً لأزمة كردية داخلية .

فالتشظي السياسي الذي تشهده الساحة السياسية العراقية اليوم كبير ومعقد، فبعد أن كانت الصراعات السياسية بين طوائف وقوميات، أصبحت اليوم داخل القومية والطائفة الواحدة، فالكرد يعيشون حالة إنقسام بين حزبي الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني، والسنة متشظون أصلاً بين عدة أحزاب وتنظيمات وولاءات خارجية، أما الشيعة فيمكننا القول بأن التيار السياسي الشيعي اليوم منقسم إلى شيعة إيران وشيعة العرب وشيعة أمريكا، بل حتى داخل مدينة كركوك، نجد أن حزب الإتحاد الوطني الكردستاني هو صاحب السطوة الفعلية داخل المدينة الغنية بالنفط، وإن كان يبدو التحرك الذي قام به داخل المدينة من خلال المحافظ نجم الدين كريم الذي هو بنفس الوقت قيادي في الإتحاد الوطني الكردستاني، يأتي في إطار توجه كردي عام لضم المدينة إلى إقليم كردستان، إلا أنه بالمقابل قد تكون هذه المدينة مصدراً لصراع كردي-كردي مستقبلاً بين الحزبين الكرديين، إذ ما أفترضنا ضم كركوك إلى إقليم كردستان، حيث ستكون كل عوائد النفط بيد حزب الاتحاد الوطني المسيطر على المدينة، والذي تعاني قواعده الجماهيرية وتحديداً في مدينة السليمانية من أزمة إقتصادية خانقة، والتي قد تواجه أربيل ودهوك إذا ما نشب خلاف بينهم مستقبلاً، أضف إلى ذلك إن ما يعمق التأزم الكردي الحاصل هو تحالف الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير الكردية مع نوري المالكي، في مقابل تقارب الديمقراطي الكردستاني من حيدر العبادي، فعلى الرغم من محاولة الأحزاب الكردية لملمة خلافاتها وتجاوز انقساماتها الداخلية، إلا أن التشظي السياسي الكردي بدا واضحاً خلال الفترة الأخيرة .

أما على صعيد المكون التركماني فنجد أنه هو الآخر منقسم إلى ثلاث جبهات، تركمانية سنية يقودها ارشد الصالحي رئيس الجبهة التركمانية العراقية والمقرب من تركيا، تركمانية شيعية يقودها محمد البياتي قائد الحشد التركماني المنضوي ضمن الحشد الشعبي والقيادي في منظمة بدر ومقرب من إيران، تركمانية كردية يقودها أريوان جلالي رئيس الحزب الوحدوي الديمقراطي التركماني والمقرب من إقليم كردستان ومن مؤيدي ضم مدينة كركوك إلى الإقليم، أما العرب السنة فهم منقسمون إلى عدة أحزاب وكيانات سياسية تجعها القائمة العربية في كركوك .

ما نريد أن نخلص إليه هو أن الذي حصل ويحصل في مدينة كركوك له تداعيات خطيرة آنية ومرحلية ليس على المدينة حسب، وإنما على مجمل الحالة العراقية، كما أنه لابد من الإشارة إلى أن الذي حصل في مدينة كركوك مشكلة يتحمل مسؤوليتها الجميع، وعلى حكومة الإقليم والمركز تحكيم منطق العقل والحكمة في معالجة هذا الموضوع المعقد ضمن إطار البيت العراقي، والتأكيد على وطنية القضية، فالكرد ليسوا ولن يكونوا أعداء، فهم شركاء في الدم والتاريخ والدين، والعرب ليسوا محتلين وغاصبي الحقوق، والتركمان ليسوا نقطة في سطر يمكن مسحها في أية مساومات أو تفاهمات، وعلى الجميع أن يدركوا جيداً أن المراهنة على العامل الخارجي خيار خاطئ وكارثي، والحل الأمثل هو الجلوس على طاولة المفاوضات، وإعتماد مبدأ المصارحة والمكاشفة في أية قضية تفاوضية يمكن أن تجري حول مصير هذه المدينة .

إن التحدي القادم والذي ينتظر مدينة كركوك والعراق مخيف جداً، وقد يرتقي إلى مستوى تحدي الوجود الذي توجهه الدول في حالة الحروب الحتمية، فضلاً عن أن التداعيات الإقليمية والدولية المحتملة التي قد تفرزها أية حسابات خاطئة في التعامل الجدي والمنطقي مع هذا الموضوع، قد تفرض مزيداً من الضغط على دول الإقليم والعالم، بإظهار مزيد من الجدية والعقلانية في إنهاء هذا الموضوع بأقل الكلف والأضرار، إذ تخشى الكثير من القوى كـ(تركيا وإيران) من الأضرار والمخاطر المحتملة لتداعيات هذه الأزمة وانعكاسها عليها سلباً، وعليه فإن نظرة سياسية معمقة لما ستشهده الأيام القادمة، توحي بأن مستقبل المدينة مفتوح على كل الخيارات، نظرا لتشعبه وامتداده إلى أكثر من منطقة جغرافية داخل العراق وخارجه، كما أنه لابد من جعل قاعدة الرابح- الرابح هي المعيار الاساسي لأي عملية تفاوضية تجري حول مصير المدينة، إذا ما أردنا معالجة الموضوع معالجة منطقية .



0 التعليقات: