الجمال عرضة للإبادة
الجمال عرضة للإبادة
عراق العروبة
علي جعفر العلاق
حين أتحدث عن مدينةٍ عراقيةٍ فلا أملك إلاّ أن أكون ذاتياً، أعني أن أتحدث عنها بنبرةٍ مشوبةٍ بالكثير من الحنين واللوعة الشخصية. ومدينةُ الموصل، بالنسبة إليّ، ليست مجردَ مدينة، بل تاريخٌ وجدانيٌّ وشعريٌّ لا انفكاك منه، تاريخٌ من الترف والدلال الصافي مسفوحٌ على التراب، ونسيمٌ لا يكفّ عن التأوّه الشجيّ، إحدى الجواهر الثلاث التي تشد قلادة المدن العراقية، وتضبط إيقاعها الطافح بالحياة والمسرة .
وقد ربطتني بهذه المدينة الفذة علاقةٌ مبكرة، فمنذ شبابي الشعريّ وقصيدتي تجد من الذائقة الموصلية المترفة إصغاءً خاصاً، من شعراء الموصل ونقادها وجمهورها العام على حد سواء .
مدينة ظلت بعيدة عن التعنّت وضيق الأفق في الحياة والفن والأدب .
وكانت جامعة الموصل من أولى الجامعات العراقية التي اهتمت بتجربتي الشعرية والنقدية . وقد حظيت هذه التجربة بأكثر من جهد أكاديمي من أساتذة هذه الجامعة المرموقة وباحثيها. وقد نوقشت فيها، عن شعري، رسالتان للدكتوراه، إحداهما للدكتور عبدالغفار عبدالجبار العمر عن المظاهر الدرامية .
والثانية للدكتور محمد يونس الجريسي، عن بلاغة الإيجاز الشعري. لذلك كله، لا يمكنني أن أستعرض تاريخ محبتي لهذه المدينة دون أن أجدني محاطاً بهذا الاحتفاء كله، بأسماء مبدعيها وصداقتهم: يوسف الصائغ، شاذل طاقة، الأب يوسف سعيد، راكان دبدوب، محمود جنداري، أرشد توفيق، ذوالنون الأطرقجي، محمد صابرعبيد، نجمان ياسين، بشرى البستاني، أمجد محمد سعيد، وآخرين لا تسعهم الذاكرة .
ألم أقلْ، بدايةً، إنني لا أملك إلاّ أن أكون ذاتياً في كلامي عن هذه المدينة ؟ إن الموصل، مدينةً وجامعةً ومبدعين، تستحق مني أكثر من ذلك. لقد كانت نموذجاً للمخيلة الخلاقة والعقل المنفتح على الجديد دائماً. كان أساتذتها وطلبتها سباقين إلى تفحص تجربتي الشعرية، ثم جارتها في هذا الكرم الغامر جامعاتٌ أخرى، عراقية وعربية عديدة: جامعة كربلاء، جامعة تكريت، جامعة بغداد، الجامعة المستنصرية، جامعة آل البيت في الأردن، وجامعة جنوب الوادي في مصر .
وهكذا كانت الموصل، كما كانت جامعة كربلاء وجامعة تكريت وجامعة جنوب الوادي في مصر، وجامعة آل البيت في الأردن، قد قدمتني على مبدعيها، وهم كثيرون، بكرمٍ لا يملكه إلاّ الكبار. فهل يكون كثيراً على مدينة الموصل أن أتحدث عنها بمحبة رحبة. ثم هل تحتاج محبة هذه المدينة إلى تبرير ؟
ألا تكفي عراقيتها الناصعة سبباً للمحبة، ألا يكفي إسهامها النوعيّ في بناء العراق الثقافيّ والسياسيّ والأدبيّ والاقتصاديّ؟ وكأنّي بها قد وجدتْ نفسها بين ظلامين قاهرين؛ أحدهما يأخذها إلى الماضي، وآخر يدفعها إلى التفتت والضياع . ولم تكن، في الحالتين، قادرة على الإفلات من أيّ منهما دون التعرض إلى دمار استثنائيّ لا حدود له .
لقد كان جمال الموصل، وثقافتها الجادة ، ومزاجها المتحضر، هدفاً لقوى الجهل والتخلف من كل حدبٍ وصوب ، وكان جمالُها المترف يتعرض للإبادة الممنهجة: ماضيها ومستقبلها، مكتباتها ومتاحفها، مساجدها وأديرتها. وكان عليها أن تحدد موقفها من موتين يشوب أحدَهما الباطلُ كله، ويَعْلَقُ بالآخر، في أحيانٍ كثيرةٍ، ما يعلق بالباطلِ من شهوة الانتقام وانعدام المروءة .
فهل كان على الموصل أن تختار، مضطرةً، إلى أيّ ليلٍ أقلّ ظلاماً ستنحاز ؟
0 التعليقات: