أخر الأخبار

.

قلم الأديب بغير حظٍ مُغزل


قلم الأديب بغير حظٍ مُغزل


عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي




قرأت مرة للكاتب المصري الراحل يحيى حقي مقالة بعنوان: لمن يكتب الأديب، وهي من جنس المقالات التي يكتبها الأدباء في مستهل حياتهم الأدبية ، بالعنوان نفسه في كثير من الأحيان سوى أن أديبنا المصري أعدها في أخريات أيامه مفتتحاً بها أحد أعداد مجلة (المجلة) التي رأس تحريرها سنوات طوالاً .

لكنه هنا حكى فيه عن تجاربه في الكتابة وما يلقاه الكاتب من عناء وحيرة، بين أن يتشدد ويحرص على فصاحة لغته وطواعية بيانه ، ويتحاشى التقعر والجمود ، أو يراعي مستويات الجمهور الذي يخاطبه فيهبط معه إلى أدنى درك ومستوى مفرطاً بما درج عليه من أسلوب فني بدعوى إفهامه وإيصال أفكاره ، فافترض شرطاً لابد من توفره في كل نص أدبي مقبول، فضلاً عن الصياغة الفنية ، هو المشاركة الوجدانية بينه وبين قرائه المتأتية من إيمانه بشيء ما ، وبذلك يغدو معاشر الكتاب والأدباء ، ممن يفتقدون هذا الإيمان كأن لم يوجدوا بين الناس ، بل سرعان ما ينساهم أدنى الخلائق صلة بهم أو أشدهم ارتباطاً ، إن لم يخيل لهم أنهم برحوا دنيانا لا منذ قريب فحسب إنما قبله منذ ألف سنة .

وهذا الرأي يستدعي منا وقفة طويلة ، ويسوقنا سوقاً لاستعراض كثير من الأسماء الأدبية التي بقيت تتداولها الألسن، ويستفيض فيها حديث الناس عن الأثر الذي أبقته في مجتمعها والتحول الذي كانت هي من عوامله ومسبباته ، في ما طراً على العادات والمألوفات ، وشمل العقائد والأفكار، ولا شك أننا سنجد قلة من هؤلاء يقاومون البلى والعفاء ولا يزيدهم كر السنين إلا مزيداً من السيرورة والانتشار وتداول آثارهم وأدبياتهم حتى من لدن مباينيهم ومن يختلفون معهم في الرأي والنظر .

أصحيح أنها ظاهرة غامضة ، تحيرنا لو أمعنا في حركتنا الأدبية الحديثة ، حين نجد أمامنا أكثر من مثل واحد لكاتب كبير مقتدر لم يقل جهده وإنتاجه من حيث الكم والموضوع عن غيره من الكتاب المعاصرين له ، بقيت أسماؤهم تدور على كل لسان ، أما هو فرغم أنه لم يقل إلا حقاً لم يعرف في حياته أن ينبه إليه أسماع الجمهور أو ينفذ إلى قلبه ، إذا سمع صوته .”

لم ترسخت أسماء طه حسين والعقاد والمازني ، وغابت أو كادت تغيب أسماء حسن محمود وعلي أدهم ، أحقاً أن الأخيرين اللذين عرفا بنشاطهما الفائق في ميدان الترجمة ، وسعة إحاطتهما بمسار الآداب الأوربية والعربية يعدمان هذا العنصر المهم ، أعني المشاركة الوجدانية الكفيلة بتخليد ظلهما وانبساطه في دنيا الفكر والاستنارة .؟

عرف حسن محمود بدءاً بنزوعه لتجديد الشعر العربي وانخراطه في سبيل هذا الغرض ضمن جماعة أبولو في الثلاثينيات (من القرن الماضي) ، فترجم إلى العربية بعض قصائد الشعر الانجليزي نثراً ، بغية أن يتدارسها شعراؤنا ويتأثروا بمعانيها وتجاربها وموحياتها ، ولو بعض التأثر الذي يريحهم من التقليد والرواسم والتراكيب المألوفة ، ويروضهم على استيحاء النفس والوجدان والطبيعة .

وفي الأربعينيات عمل سكرتير تحرير مجلة (الكاتب المصري) وناب عن الدكتور طه حسين في إعداد مواد كثير من أعدادها وترشيحها للنشر ، حين يصادف غياب عميد الأدب عن القاهرة ، وقصده فرنسا وغيرها من الأقطار الأوربية ، مشاركاً في المؤتمرات الثقافية والمجمعية والاستشراقية ، وهو نفسه الذي ترجم عن الفرنسية كتاب (اندريا مورا) عن حياة السياسي الانكليزي “دزرائيلي” ، وكتاب (ليون دودية) عن سيرة السياسي الفرنسي “كليمنصو” ، والأهم من ذلك تعريبه كتاباً عن مأساة الأهالي في (نكازاكي وهيروشيما) اليابانيتين ، ودونك ما نطقت به ألسنة الناجين ومن بقي منهم على قيد الحياة مما أصابهم ، وريعوا به من الدمار والخراب ، وقد نسيت اليوم اسم مؤلف هذا الكتاب الصحافي البريطاني او الأمريكي علماً أن دار الكاتب المصري عملت على نشره أوسع النشر بأن جعلته مستغرقاً عموم صفحات عدد من أعداد مجلتها، فتداولته أيدي القراء على أنه عدد مجلة الكاتب المصري ، واذكر أن أديباً عراقياً من جيلنا أشاد بهذا السفر في صحافتنا يوم شجر التناحر والشقاق وتباينت وجهات النظر بين توجهاتنا ونزوعاتنا السلمية وبين الأطماع الأمريكية في أرضنا ووجودنا ، فأحوجنا ان نعري جرائمهم وجرائرهم ، ونذكرهم بأوزارهم وحماقاتهم .

وهذا العدد النفيس كان في يوم ما من المؤلفات الأثيرة لدي والقريبة من نفسي ، ولعل أمراً استعاره مني وطمع فيه وأنسانيه بمرور الوقت .

أما ما لهجت به ألسنة الناجين وسط مشاهد الخراب والدمار والرعب ، فهي أن الابتسامة لم تغادر شفاهم وهي وحدها طريق الأمل ، وباب الانفراج .

فأما علي ادهم فمشهور باطلاعه وإلمامه بتاريخ الأندلس وإحاطته بآدابها إحاطة واسعة ، فقد أعد تآليف مشهورة عن بعض وجوهها وأعيانها أمثال مصنفيه المعتمد بن عباد وعبد الرحمن الناصر ، هذا إلى انفتاحه على ثقافة الغرب والأدب الايطالي منه خصوصاً، فضلاً عن كتاباته المشتملة على نظرات وانطباعات ثاقبة عن كثير من مبدعيها وجهابذتها ، وقد نهل معرفته وعلمه من مدرسة الحياة الرحبة ، ولم يتعلم في جامعة.
فهل يتناسى الباحثون والدارسون نتاجات فكره ومعطيات عبقريته ونبوغه ، علماً أن سلكه عبد الحي دياب قبل سنوات في عداد المغبونين الذين تطولهم القبلية النقدية بمقاييسها وأحكامها المتجنية ، وهو يتأمل الدراسة التحليلية التي كتبها علي أدهم عن “تولستوي”.

وطالعتني ذات يوم إحدى المجلات اللبنانية تحمل صيحة لكاتب ينعي على الناس فرط إنكارهم وجحودهم لأفضال جمهرة من خيرة الكتاب والشعراء في لبنان “مارون عبود، عمر فاخوري ، أمين نخلة ، إلياس أبي شبكة ، الأخطل الصغير، يوسف غصوب، ورئيف خوري” ، ويأسى أن يلفيهم منسيين مطموسين بعامل من حداثة مصطنعة مسيطرة على الجو الأدبي الرائن ، تتوخى إشهار أسماء وإنباهها والترويج لها، ولما تستوي لها أيضاً مقومات الإبداع ودلائله ومستلزماته .

ثمة عوامل كثيرة تتسبب في أحيان ، وتؤدي إلى هذه القسمة غير العادلة في الحظوظ بين ذوي المواهب والقابليات ، ولعل المشاركة الوجدانية بين ا لكاتب والجمهور القارئ كما شامها يحيى حقي وأطنب في جدواها وأهميتها هي أدناها أثراً وانزرها نفعاً ، ومع احتسابنا لمواقف بعض الأدباء وتفاعلهم هم وقضايا عصرهم وتقديرنا الجم لما يدل به آخرون من جراءة واستبسال في المنافحة عن رأي والتمسك بفكرة، يظل الباقون أحوج إلى العون والرعاية والأخذ بناصرهم من لدن هذه المؤسسة أو تلك، ويظل قلم الأديب، بدون حظ، مغزلاً في الحالتين ، كما قال أبو تمام قبلاً .

0 التعليقات: