مروية عبد الحميد المحاري
مروية عبد الحميد المحاري
عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي
روى لي الكاتب عبد الحميد المحاري ذات يوم ، وهو من الأدباء العراقيين المشغوفين بمتابعة نتاجات رواد الثقافة المصرية في جيل انطَوى وغبر ، لحد الولوع بتدوين أسرار حياتهم ، وما يعرض لهم من وقائع يبين أنها عابرة وغير مؤهلة لاهتمام أحد بها ، وقد تكشف ذلك منه في غمار عام 1983م عبر مساجلتنا أو معركتنا الأدبية مع الراحل طيب الذكر علي الوردي ، بشأن الأسلوب الكتابي وتطوره من توخي التحسينات اللفظية إلى ابتغاء البيان والاِفهام والقصد ، مع اِيفائه بقدر من التوشية المقبولة والتزيين الدال على خصائص الأديب المنشئ بحيث ينفرد به ويتسم ولا يقاسمه أحد فيه .
ومع تشدد الوردي وكلفه بذرائعه وأسانيده ، فإنه أثنى وأطرى على لزومنا آداب البحث ، وأن كتابتنا تنأى ما وسعها عن التجريح والتخرص بخلاف ما كان يُمنى به ويتلقاه من التغرض والتجني والعدول عن الإنصاف والتفريط بالحقائق من لدن مخالفيه ومناظريه في السابق .
وكانت تانك المداخلة والمناوشة على صفحات النافذة الثقافية لجريدة العراق المحتجبة اليوم ، إلى أن طويتْ حياة الاِثنين و ذهب كل إلى غايته وملاقاة ربه . واِذا كانت أفمام القراء تلهج اليوم باُسم علي الوردي و ستظل تلهج الى ما شئت من السنين المتعاقبة و ترادف الأجيال الأدبية , لاٌحتفاظ كتاباته بذلك الطابع الذي ألمح إليه الأديب يحيى حقي وجعله وكده من العثور به أوعليه في مأثورات السلف الغابر , من تعمق في البحث و تحاشٍ للسطحية عند استخلاص المسلمات والحقائق , على ما يؤاخذ به الوردي من الهنوات والأغاليط النحوية الموصومة بها بعض مؤلفاته , فقد تنوسي المحاري تلميذ مدرسة أحمد حسن الزيات ومجلته الرسالة , و كان الأحرص على فصحى العربية , لأنه درج على النأي عن ملتقيات الشلل والتجمعات الأدبية التي خيل لذويها في كثير من الأحيان وفي سائر بلاد العرب , أن لهم وحدهم – بعامل الاغترار والزهو والثقة الموهومة بالنفس ومدياتها من مشارفة الإبداع – قلت لهم الحق في اِضفاء نعوت الجدارة والنبوغ على مَنْ يروق لهم تطويقه وتزيين هامه بها دون أن يرتدعوا ويردهم عن هذا المعتاد المتهافت , ما يلحظونه مراراً من انطماس ذكر أتراب لهم , وأجدني بعد هذا الحال المقرف في غير احتياج للاستدلال بملحوظة ابراهيم عبد القادر المازني رحمه الله و تعلله بما حواه واشتمل عليه سفر الجامعة ( اِن كل شيء باطل وقبض الريح .)
قد يبين بعد هذا الاستطراد المفيض , إني سهوت عن مروية عبد الحميد المحاري التي هي بخصوص مناسبة استيزار الدكتور طه حسين وتبويئه منصب وزارة المعارف المصرية عام 1950م , و ما واجهه من مثبطات وصوارف لأول أدائه لواجبه وممارسته أعماله , فكيف تعامل العميد الضرير مع موظفي الديوان الذي بعهدته وجلهم من أعيان الأدباء وأرباب مهنة القلم المرموقين , وسبق أن صُدِمَ وريع غير واحد منهم بآرائه التجديدية المجترئة على بعض المألوفات والقيم والمواضعات المترسخة في وجدانات الناس , ويلفون أن منابذتها و الخروج عليها غير مجوز ومن قبيل التجديف والمروق والشطط الذي لا تسامح فيه , بدءاً من انتحال أشعار الجاهلية ورأيه في شعر أبي نؤاس وما يستفاد من قوله : ليس الآعاريب عند الله من أحد , وانتهاءً بصدامه وتحرشه وطعنه بذمم المستبدين من أرباب الحكم و تنديده بسرفهم وطغيانهم , و كذا كانت له تقاطعات وافتراقات في الفكر و النظر مع كثير من أولاء الكتاب المعروفين لدى الدنيا العربية برمتها، و لهم أيضاً – وعلى سبيل المقابلة بالمثل , مواقف وردود رافضة لتطلعه وتوقه لاستحداث الجديد في الدرس الفلسفي والبحث التاريخي , لكن لا يرقى ذلك أو يبلغ حدَ الاِزورار والاعتراض والتجافي أو يبقي في النفس من الأوغار والسخائم ما ليس سهلاً أن يشتفي المرء منه , مما صار لدراية وعلم به قراء الصحف والمجلات المصرية حينها .
فما أن باشر الوزير الجديد تسلم مهماته , حتى اعتزم غير و احد من أولاء النفر تقديم عريضته عسى أن يستجاب لطلبه و تلبى رغبته في الانتقال للتدريس في المعاهد والكليات أو الإحالة للتقاعد على أساس أنه قطع في الخدمة سنين طوالاً و جاوز الحد المشترط للتحول عنها و التفرغ لشأنه الخاص , فاستدعاهم الوزير وأثنى على أمانتهم و إخلاصهم , مشفعاً كلامه بأنه لا يرى من حوله من الخلائق مَن يبذهم كفاءة و يفوقهم حرصاً على ترقية التربية والتعليم في بلاد النيل والأحرى أن يتعاون الجميع للنهوض بالبلاد , وما شجر بيننا من خلاف في يوم ما , أخاله متعلقاً بمسائل أدبية , ومن طبيعة الأشياء أن يكون مألوفاً لمعاشر الكتاب في البلدان المتحضرة , و على ما شابه من اللذع و المرارة , فما هو بالمؤدي أو المسفر بحال عن البغضاء و الحقد و الإيذاء و الشتيمة .
ولنلتفت الى واقعنا الأدبي بعد تدبر هذه الحكاية ونسأل أنفسنا : أيتسامى الى هذا الخلق الكريم بعض الأفراد المتوهمين وصايتهم على الأدب العراقي لو ناطت بهم مؤسسة ثقافية أن يقوموا بتخير نخبة من أصدقاء القلم و ترشيحهم لحظور مهرجان أو حفل تكريمي لأحد أفذاذ الكتابة , أو مئوية لشاعر سامي العواطف غير أنه أمضى سنيه منكوداً ومحلأً عن المراتب التي تليق بمن في مثله من الاِباء والتصون , لكن تنبّه من تنبّه لواجب إحيائه و استذكاره , كاعتذار عما سلف من النظر حياله بعين الزراية والاهمال .
لا غرو انك ستراع من سلوكيات مؤثِرة تقريب الآداني من مدعٍ وطارئ على حرفة الأدب و الفكر , إن لم يكن فضائياً ! واستبعاد مَن يختلف و إياهم في مسايرتهم للطارئات من الأحوال و الأوضاع و تنكرهم لمن أمسكوا بالزمام بالأمس .
0 التعليقات: