أخر الأخبار

.

تأملات على هوامش رحيل السنة الميلادية


تأملات على هوامش رحيل السنة الميلادية


عراق العروبة
عبدالله شبلي *



ودعنا سنة واستقبلنا أخرى ، هذا الوداع هو لحظة تاريخية مهمة ، لا تدفعني كما قد تدفع غيري من الناس إلى الرقص المجنون ، أو الصعلكة في الشوارع ، أو ربما حتى إحتساء كاسات نبيذ ومعاقرة الخمور ، أو قد يزيدون على ذلك زنا أو مجونا ، قد يبررون ذلك بحرية شخصية أو إختلاف دين أو تحديد هوية ، ذاك ديدنهم ، وأنا لست رقيبا عليهم .

إنما هذه اللحظة بالذات التي يلهج فيها الناس بالمعايدات والتهنيئات ، وتعج الوسائط والمواقع بورود وأزهار وباقات ، ويتمختر بابا نويل بلباسه الأحمر وطربوشه المشهر وسط كل المنتديات ، يطيب لي حقا وأشتهي صدقا أن أقف وقفة طويلة عريضة ، أستعرض فيها مع ذاتي الكليلة ومع نفسي العليلة ما جد في شخصي ، وما تقادم وتعاتق من أمري وشأني .

وقفتي هذه هي أطيب عندي من كل مهاترات سقط فيها الكثير وهو يناقش الحلة والحرمة ، وهي ألذ عندي – والله – من إزدراد حلويات وملء بطون أو إشباع نهم فروج أو تبادل زهور و ورود .

هذه السنة التي انقضت وانكفأت إلى غير رجعة ، كنست معها أشهرا ولحظات وأياما ، منها بلا شك لحظات سعد وفرح ، ولحظات وجع وترح. كلما تذكرت منها لحيظات قرب إلى الله فرحت وحمدت ، وكلما تقاطرت على ذاكرتي ساعات سهو وتفريط في حق الله و جرأة عليه وجسارة ندمت وتحسرت ، وعلمت أنني ما رفلت في النعم إلا بمنته ، وما تمرغت في الإفضال إلا بمنحته .

تحققت أمنيات وانكسرت أخرى أمام صخور القدر العواتي .

بكينا مرات ومرات ، وذقنا طعم الأحزان والأسقام .

عشنا لحظات أنس جميلة مع الأحبة والأهل والخلان ، فعرفنا يقينا أن الحياة لا تدوم على وتيرة واحدة ، وأن التلون والتقلب لها طبع ، وأن التنعم السرمدي فيها محال ، فقنعنا بما جادت به ، وما طمعنا فيما حرمتنا منه ، لعلمنا أنها وغيرها بيد ملك الأملاك واهب الحياة والممات .

ودعنا أشخاصا كانوا لنا سندا وبلسما ، كانوا ترياقا وشفاء ، هامات ترشدنا في حالكات الليالي ، قامات تسند ظهورنا المكسورة ، حيث تتكالب علينا الخطوب وتتناوب علينا العثرات .

اختطف المنون أحبة كان إسمهم وحده روح وريحان ، دواء شاف واف لكل داء ، ودهم دواء الأدواء ، قوموا اعوجاجنا وتحملوا حمقنا وغطوا عيوبنا ، حتى استقمنا باستقامتهم ، وصلحنا بصلاحهم ، فصرنا بهم مثلا ، وقدوة تقتدى وأنموذجا يحتدى… ( وهنا الكلام يطول عن أستاذي الجليل أحمد أمين رحمه الله قدوتي الذي لن أنساه أبدا ) ،
وغيره كثير ممن اختطفهم الموت من بيننا الرجل الفاضل الجليل الأمازيغي الحر المعتز بأصوله ” أحماد المسكين ” والد أخي الغالي لحسن هذا الرجل المؤمن كان الجلوس معه غنيمة لا يعدلها مغنم ، أحببت فيه شيئن اثنين تميز بهما رحمه الله : القناعة التامة والتفاؤل الدائم .

شهيد الطائرة بكلميم أخي المرحوم ” عالي الدربالي ” الرجل الذي لم أنس قط وداعته ومرحه وتمسكه بصلاة الجماعة ، ذاك الشاب الأسمر الوديع الذي مات وترك زوجته حاملا ، كان وفيا لنهج أبيه حين مات وترك أمه حاملا به ، سبحان الله كم من عبرة ماثلة ، ونحن عنها لاهون عابثون ….

” لهنا علال ” زوج عمتي والد ذاك رجل رباني صالح ما رأيت أبدا أبا يشبهه ، لا يسيء معاملة أحد من أبنائه مهما فعل ، كان بيته مفتوحا دوما لكل عابر أو وافد قد أبخسه حقه إذا قلت أنه الصبر يمشي على رجلين ، أو أن الرضى التام ساكن بين جوانحه ، رحمك الله والله لقد كان موتك رجة كبرى ، وبينة عظمى حركت دواخلي وزادتني ثقة في حقارة شخصي وفي حدارة الحياة .

وغيرهم كثير والد أخي محمد إكيدر ذاك رجل من طينة أخرى ، حبه أغرب من الخيال ، أحببته دون أن أراه ، وبكيت لفقده وأنا لا أعرف تقاسيم وجهه ، ولا طوله أو عرضه رحمه الله ، ولكنني تخيلته رجلا وضيئا وقورا بجلباب أبيض ، يقطر علما وورعا وتواضعا ، ولعلني أصدق الوصف بالبصيرة لا بالبصر ، فإنما تعمى القلوب ولا تعمى الأبصار ، ولعلني وجدت في الإبن ما يسليني وتقر به عيني ، ويطيب به فؤادي .

والأسماء هنا تتوافد تباعا ولا تكاد تتوقف وكأن المنون يصطفي الكرام وينتقي الخلان من الناس : صهري ” الحاج المختار البوجرفاوي ” الذي كنت أعده أبا لي قبل أن يكون أبا لزوجتي ، تملأ حياته البساطة وتسكنه السكينة وحياته قناعة في قناعة ، لا يعيب أحدا قط ولا يغتاب شخصا أبدا ، ولا يعلو كلامه في بيته مخاصما أو معاتبا ، إنما بسمة وكلام خافت يكاد لا يسمع رحمه الله .

ولعل الموت قد أفجع الثانوية الإعدادية الجديدة أكثر من غيرها ، ” أخي ليث محمد ” الأستاذ النبيل الخدوم المتواضع ، صاحب القلب النقي والسريرة الصافية ، والمدير ” محمد بيفيس ” الذي يسكنه حب العمل والتضحية في مسحة دعابة وفكاهة لا تنتهي ، إلا أنه رغم ذلك كله لا يؤمن بالمجاملات في العمل فيرغمك على إحترامه وإن اختلفت معه جذريا ، يعطيك القدوة بالعمل لا بالكلام الفارغ والمظاهر الخداعات ، وغيرهم كثير ، وبلا عد ولا حصر ، رحمهم الله جميعا وأسكنهم فسيح الجنان ……

أذكر هذه السنة أني وبفضل الله وحده ، والفضل له دوما على أعطياته التي لا تنتهي ، نجوت من حادثة سير ، كادت أن تنهي حياتي ، لكنني تعلمت من الحادث الكثير الكثير ، ولعل أبلغ درس وعيته : أن لزوم طريق الله منج ، ومجلبة لكل فضل ، ومبعدة لكل داء ومكابدة .

اكتسبت صداقات جديدة وثمينة جدا ، عاشرت رجالا من صنف راق ، وإن كنت هذه اللحظة بالذات قد فارقت بعضهم ، فإني والله يشهد لازلت أعيش على تنسم أريج أفضالهم وضحكاتهم التي لا تبلى ونصائحهم التي لا تتقادم أبدا ولا يطالها الهرم والنسيان .

عشت سويعات إبداع فريدة من نوعها بين أحضان واحات نخيل بلادي البليلة ، كنت أستيقظ فجرا ، فأهيم بين نخيل زاكورة أتنسم عبق فجره ، فأجدني أعانق الكلمة السامقة ، وانتقي العبارة الشامخة ، وأحيا لحظات فرح لا تضاهى ، حيث أحس لحظتها أني قد حزت الدنيا بحذافيرها ، ذاك الإحساس بحيازة الإبداع وتملك المكان والذوبان فيه والحلول ، لا يستقيم إلا وأنت مقيم بين أهلك ، تحتسي كويسات شاي معتقة وقت الغسق مختليا في فلاة ” النبش ” مع صديق يلقب بالوزير ، إسم على غير مسمى ، شخص يقطر دماثة وطيبوبة ، لا يعرف النفاق والتصنع إلى قلبه سبيلا ، سمته البساطة والطيبوبة والصفاء والنية الصادقة والعطاء بلا حدود .

ونحن نفتتح السنة الجديدة تخالطنا أماني ، وتسري في عروق دمائنا رغائب لا تنتهي مادامت نياطنا سليمة معافاة ، لكننا نرجو من الله سبحانه وتعالى أن يثبت قلوبنا على دينه ، وأن يجعل أيامنا عامرة بذكره وخشيته ، وألا يحرمنا من لذة النظر إلى وجهه الكريم ، الذي أشرقت له السماوات والأرض وصلح عليه أمر الليل والنهار .

* أستاذ اللغة العربية كلميم المغرب عضو مركز يوسف بن تاشفين للدراسات والأبحاث من أجل اللغة العربية .

0 التعليقات: