أخر الأخبار

.

شيء عن منير البعلبكي



شيء عن منير البعلبكي

عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي



تداول القارئ العربي عُقيْبَ الحرب العالمية الأخيرة كتبا ً مترجمة إلى العربية من اللغة الإنجليزية عموما ً ، تلقي أضواء على أهم المشكلات والقضايا الدولية الشاغلة بال المفكرين والساسة ورجال الاقتصاد مرورا ً بمجريات الحرب ومخلفاتها ، منها : (عالم واحد ، عالمان ، لافال يتكلم ، فلسفة من الصين) ، والأول كتبه وندل ولكي المرشح لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الآونة ضمنه مشاهداته وانطباعاته عن عدد من البلدان ومنها العراق حيث زار بغداد وخالط سكانها وتعرف على عاداتهم وتقاليدهم ، ترجمه إلى عربيتنا بأسلوب سلس وبيان رشيق الأستاذ منير البعلبكي وأصدرته دار نشر في بيروت تدعى دار العلم للملايين ، والطريف أنـي لم أكن على درجة من الوعي والإدراك فأجتلي حقيقة هذه التسمية التي تنصرف إلى تقديم المعرفة العلمية إلى الجماهير العريضة وتذليل العقبات أمامها وجعلها قادرة على شراء الكتب أسوة بالنخبة ذات الغنى واليسار بقدر ما تنصرف إلى اكتناز المال الوفير .


ويقف وراء مشروعات هذه الدار وتوجهاتها المستقبلية رجل طلعة دلل بما عهد عنه من دأب ومثابرة على حضوره البين الفاعل في الميدان الثقافي وأن ما أصدره من سلاسل الكتب المترجمة بقلمه وأقلام آخرين ، فضلا ً عن تنوعها وتعدد مسمياتها ، أبقى طابعه وسمته في الأجيال الأدبية المتعاقبة ، وكذا مرتِ السنوات ويجوز الوطن العربي أحداثا ً وأهوالا ً شتى يكافح طورا ً ويستسلم لاسِيما في العقد السادس من القرن العشرين أو ما اصطلح على نعته بالخمسينيات في شرع المدونينَ والباحثينَ ، وواجهات المكتبات التجارية في أنحاء مختلفة تزدان بكنوز القصَص العالمي ، أمثال: (أرض الله الصغيرة ، كوخ العم توم ، أفول القمر ، الشيخ والبحر ، قصة مدينتين ، المسخ ، امرأة ورجلان) ، فترددَتْ أسماء مؤلفي هذه الشوامخ ، أمثال : (ارسكين كالدويل ، شتاينبك ، آرنست همنكواي ، چالز ديكنز ، كافكا) ، على ألسنة المثقفينَ فنزعوا لتقصي سيرتهم وموقفهم من حكومات بلدانهم وصلتهم بالرجل العادي الذي استوحوا نتاجهم الأدبي من كفاحه ومغالبته لشتى الظروف الصعبة .


والمدهش في هذه الأعمال الضخمة توفره على نقل رواية (البؤساء) لفيكتور هيجو نقلا ً أمينا ً محتفظا ً للنص الأصلي بكامل وقائعه وحوادثه دونما اقتضاب واستبعاد لهذا المشهد أو ذاك ، فوسعَتْ عدة أجزاء أصدرها تباعا ً ووجد فيها القارئ غنية عن الترجمة الأولية المأثورة عن حافظ إبراهيم والمحتفلة بعباراتها التقليدية وتوخيها قدر الإمكان الاحتفاظ بأهم الحوادث ، وكذلك قرينتها الأحدث صياغة والأدنى انتشارا ً والمندرجة ضمن سلسلة الروايات البوليسية .


كل هذا الجهد الذي يبذله البعلبكي وقتذاك يجيء مقترنا ً بكتابة بعض التعليقات والتعقيبات مستجيبا ً فيها بين آن ٍ وآخر لطلب صاحب مجلة (الآداب) الدكتور سهيل إدريس لينشرها تحت باب (قرأتُ العدد الماضي من مجلة الآداب) ، وإنْ كنتُ أظنـه مبتغيا ً من هذا التكليف إيهام القارئ والإيحاء له بدوام العلاقة والصداقة بينهما ، لأن المجلة صدَرَتْ في البدء عن دار العلم للملايين وأن البعلبكي من ضمن هيئة امتيازها إلى أنْ جد خلاف عارض بين الطرفين ِ ، فبادر سهيل إدريس لتأسيس دار جديدة للنشر ، واتجه صنوه واعتزم إصدار مجلة (العلوم) .

قلتُ إن مجهودات البعلبكي في حقل الترجمة تنتظر الباحث المتتبع في ميدان البيبلوغرافيا ليحيط بها جملة محددا ً تواريخ طباعتها ومقدما ً نبذا ً موجزة عن محتوى أيٍّ منها لأن أثره ودالته على متنوري عصره لا يقل في فاعليته عن أضرابه من رجال الثقافة الإنسانية .

لقد زار البعلبكي بغداد في نيسان عام 1969م ، بمناسبة انعقاد مؤتمر الأدباء العرب السابع وبدا متواريا ً مستحييا ً من أنْ يلفتَ نظرا ً أو يهتم به فرد خلافا ً لمَنْ انتهزوها فرصة للكلام الكثير والدعاية لأنفسهم ، ولعلـها زيارته الثانية والأخيرة ، فقد سبق له أنْ حل في هذه الربوع مضطلعا ً بواجب التدريس في معاهدها الثانوية في بداية أربعينيات القرن العشرين ، ومن طلبته إبان تلك الفترة فيصل جريء السامر ، الدكتور فيما بعد والذي صار له شأن في عالم التأليف والتحقيق ، فكان من تراثه الثقافي كتاب : ( ثورةالزنج ) المطبوع عدة طبعات ، ومن تحقيقاته كتاب: (عيون التواريخ) لمحمد بن شاكر الكتبي بمشاركة الدكتورة نبيلة عبد المنعم ولثلاثة أجزاء منه ، وحققتْ هي الرَابع بعد وفاته ، فضلا ً عن تبوئه مناصب عدة ، منها: وزارة الإعلام ، فسفيرا ً للعراق في أندونيسيا ، وقد أشاد السامر في مقابلة تلفزيونية أجراها معه الاستاذ ابراهيم الزبيدي ذات يوم بفضل الأستاذ منير البعلبكي واستفادته من توجيهه.

لقد ماتَ منير البعلبكي جنديا ً مجهولا ً في غمرة الدواهي والنوازل الكبرى التي حلـتْ بالوطن العربي ، وهي كفيلة أنْ تهد أقوى الرجال وتستنفد حيويته بعد أنْ أمضى حياة عريضة تمناها الفيلسوف الإسلامي ابن سينا ، فكان صنوا ً للنقاء والاستقامة ، لم يتهافتْ على شهرة أو يبتذل اسمه وسمعته فيوزع نتاجاته الفكرية على المجلات التي تصدرها شركات النفط الأجنبية والمؤسسات الثقافية المشبوهة ، أو يحاضر في المؤتمرات الأدبية ، شأنه في ذلك شأن المُهرجين والثراثرة من منظري الفلسفة ومدعي تجديد الأدب العربي ، فلم يُنصبْ من نفسه موجها ً للناشئة وراعيا ً حدبا ً عليها ، فيستلفِتَ الأنظار ويحصد الجوائز بدون وجه حق .

و أرى أنه يحق لي ذكر كوني إبان تلك الآونة المتصرمة معدوداً من كتّاب (مجلة العلوم) طوال عشرة أعوام بدأبٍ و مواصلة خاصةً بعد أن عهد الرجل برئاسة تحريرها للعراقي المغترب ببيروت الشاعر بلند الحيدري ، و كادت تستحيل مجلة أدبية بناءً على قلة ما يرد إليها من موضوعات العلم ، و حصل في بداية ستينيات القرن الماضي أن نشر الكاتب المصري عبد الفتاح الديدي مقالة عن شاعر ألماني ذي أنظارٍ فلسفية خاصة و رؤية للموجودات و ملهمات الشعر ، و ذلك في مجلة (المجلة) المصرية ، و بعد سنواتٍ خمس وجدتها منشورة في مجلة العلوم باسمٍ آخر أو من يدعى (فاروق!) ، فكتبت للاستاذ البعلبكي ملفتاً نظره الى هذا السطو الشائن ، و للتأكد من وصول رسالتي رفقت بها مقالةٍ كتبتها للتو ، و في العدد التالي نُشرت المقالة فقط و لم أقرأ أي تنويه بخصوص مقالة الديدي المسروقة ، و حين أقبلت على الاستاذ منير البعلبكي في مؤتمر الأدباء المنعقد ببغداد أوائل نيسان عام 1969م لأحييه و أسلم عليه ، إذا به يشكرني و يغمرني بلطفه ، و جرنا الحديث إلى غيرته و حرصه على سمعة مجلته ، و إلى أنه أبلغ هيئة تحريرها بوجوب حرمان ذلك المنتحل من النشر في مجلة العلوم مسقبلاً ، و كذا كنت داني الصلة به و ملازمه في سفرة الوفود إلى النجف و الحلة ، و كان يؤثر الجلوس في المقاعد الخلفية من الحافلة محجماً عن الخلطة بأي أحد ، و معرضاً عن مشاركة المؤتمرين في تشكيلاتهم و لجانهم ، كما لم يظهر متحدثاً عن مصير العرب و وسائلهم لتفادي آثار نكسة حزيران في التلفزيون شأن البقية .

غير أنه حدثني عن بغداد أيام الملك غازي حين كان مضطلعاً بمهمات تدريسية في البصرة ، و لا ينكر أنها حظيت بعد هذه السنين بالعمران و التوسع في ظل الحكومات المتعاقبة التي لا يحسن أن نشتط في ذمها و انتقادها أكثر على أي حال ، و عسى أن صحب ذينك البناء و التشييد بناء نفسيات الأفراد .

0 التعليقات: