أخر الأخبار

.

المزيفون.. مرة أخرى


المزيفون.. مرة أخرى


عراق العروبة
د قيس النوري



العلم العسكري، كما في العمل السياسي الاستراتيجي، يضع في أولوياته غايات تحقيق النصر، اختراق المقابل بالتسلل نحو دواخله وإلى ما وراءه بتوظيف عناصر معدة مسبقاً لهذا الغرض، تعمل كعيون وتمارس التخريب بضرب المفاصل والركائز المهمة في التنظيم الثوري على صعيد العمل السياسي، لذلك فإن أشد المخاطر، التي عانت منها حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وسببت لها خسائر جسيمة ونكبات أضرت بها وأعاقتها عن إكمال مسيرتها الثورية بالتحرر ومجابهة القوى الدولية المناهضة، ولم تسلم حركة التحرر العربي، منذ انطلاقها مع بدايات القرن العشرين، من هذا النموذج من التخريب الخطر الذي استهدف المفاصل الفاعلة في الحراك النضالي ومن ثم جر الحركة الثورية نحو مسارات بعيدة كل البعد عن أهدافها النبيلة .

يزداد هذا الأمر خطورة ويتفاعل بالأذى عند الاشتباك المباشر، حيث يستثمر العدو تفعيل حالة الإرباك وتقاطع الخنادق، مما يسهل له الانتقال بالعمل من المجابهة البعيدة إلى العمل من داخل التنظيم الثوري، وهي حالة إن لم تعالج فإنها في نهاية المطاف تؤدي بالحركة الثورية النضالية برمتها بوساطة عناصرها المجندة المتسللة تلك والى تبني طروحات ومسالك هي ذاتها التي يسعى إليها العدو.

المشهد السياسي العربي الراهن يوفر لنا أمثلة عديدة على هذا النمط من الاستهداف، فنجد مثلا شيوعيون عاشوا دهرا على الماركسية وفكرها وتنظيراتها المناوئة للإمبريالية، تجد بعضهم اليوم ينظر ويسوغ للرأسمالية، بل يجلس في حضنها ويشارك بحماسة فيما أنتجته من نظم سياسية تابعة.

لا يقتصر الأمر على ما أسموه تضليلاً قوى اليسار، وإنما طال حتى بعض الحركات القومية، فنجد ناصريون لا هم لهم إلا الزعيق المخجل لمنجزات الولي الفقيه الإيراني في عبثه بحال أمتنا وهوسه المريض بتصدير عفنه إلى جسد الامة.

الاختراق في العلم الاستخباري هو أعلى مراحل نجاح العمل في الجبهة المقابلة قبل الصدام وخلاله، فهؤلاء المكلفين بالعمل في الخنادق المقابلة بيادق تخريب يتعدى أذاهم فرق عسكرية كاملة العدة والعدد، كونها غير منظورة أولاً، وتحظى بشرعية انضوائها في نسيج ومفاصل الحركة الثورية ثانياً، ولعل أبرز الأمثلة القريبة المعاشة على صعيد الدول يبرز الزعيم الروسي الأسبق (غورباتشوف) الذي احتل قبل أن يجهز على دولته أعلى المناصب الحزبية والأمنية حتى وصل إلى قمة الهرم، وعندما أمسك بكل الخيوط، ضرب ضربته، التي أنهت امبراطورية مسلحة حتى الأسنان، ثم يلتفت وينهي حزبه المليوني الذي حكم سبعين سنة ويحوله إلى أقلية هامشية في الحياة السياسية لروسيا.. إنه التسلل باعتماد استراتيجية السلحفاة المتأنية بانتظار فرصتها .

المثل الآخر، عربي السمات.. إنه أنور السادات الذي أدار البوصلة المصرية بـ360 بالمئة درجة ليحول مصر من طليعة العمل القومي المناهض للإمبريالية إلى مجرد تابع لهنري كيسنجر ونسيجه العنكبوتي في اصطياد العرب.. إنه التسلل المبكر المتربص المتأني والزاحف كما زواحف الليل.

زواحف الليل هذه أجسام وكائنات غريبة عن العمل الثوري، هي كما الخلايا السرطانية النائمة تنتظر فرص النمو لتجهز على الجسد السليم، وهي أخطر من فوهة بندقية مشرعة، بل هي خناجر مسمومة تكمن بين الضلوع وظفت وارتضت لنفسها أن تكون فيلق العمل الأشد إيذاء من الأسلحة كلها.

إن حركة التحرر العربي في طول الوطن وعرضه، وبخاصة منها التي تشتبك بالمباشر عليها أن تتنبه، فمسيرتها ودروب عملها مزروعة بألغام ما دامت قد تبنت قضايا الأمة في مواجهة استهداف دولي غاشم لا يدخر وسعاً لاستخدام أحط الأساليب وأكثرها أذى وتوظيفها ما دام نبيها ومرشدها ميكافلي، ذلك المنظّر الداعي إلى العمل السياسي بمعزل عن الأخلاق.

أمتنا اليوم وقواها الوطنية العربية وفي مقدمتها حركة التحرر العراقية، كونها تشتبك على الأرض مع قوى دولية وإقليمية، تواجه منعطفاً خطراً يستهدف الإجهاز عليها، بل (إعدامها) ليحل محلها خراب غير مسبوق، من هنا فإن حركة التحرر الوطني العربية عليها أن ترتقي إلى مستوى المجابهة بالعمل أولا وقبل كل شيء على ترصين وحدتها من خلال الحرص على سلامة تكويناتها على قاعدة صارمة من الترقب والمحاسبة لكي لا يكون في ظهرها وبين ثناياها روم تسللوا في غفلة من الزمن بفعل ملابسات الوضع الطارئ.

المزيفون كما وصفهم الشاعر أحمد مطر:

يكذبون بمنتهى الصدق

ويغشون بمنتهى الضمير

وينصبون بمنتهى الأمانة

ويخونون بمنتهى الإخلاص

0 التعليقات: