سمات عالم ما بعد كورونا
سمات عالم ما بعد كورونا؟
عراق العروبة
صلاح المختار
تلقيت رسائل كثيرة تناقش مقالي الاخير (الاشتراكية والرأسمالية قبل وبعد كورونا) كان بعضها يريد المزيد من التوضيحات حول طبيعة عالم ما بعد كورونا، ولاهمية الموضوع لابد من طرح الافكار التالية :
1- لقد سقطت بالضربة القاضية نظرية (انتهاء عصر الايديولوجيات) والتي روجتها امريكا لتجريد البشرية من البوصلة التي تحدد لها طريق الخلاص وهي الايديولوجيا، فالاوربي، وهو يعيش رعب كورونا، يجد نفسه فجأة سجين بيته الصغير جدا كأمله في الحياة الان! ويرى مدنه التي كانت عامرة بالصخب خالية من السكان ولايسمع فيها سوى صوت سيارات الاسعاف ولايشاهد في التلفزيون سوى تطورات الموت واعداده! وانا اعيش في اوربا منذ تسع سنوات اعاني ما يعانية جاري الاوربي خصوصا كبار السن الذين وجدوا انفسهم اسرى خوف بل رعب الوحدة وضعف الثقة بنجاح الدولة بحمايتهم! بفشل الدول الاوربية انهارت الكثير من الضمانات وطغى البحث الفردي عن خلاص في ظل نظام حطم ادوات الدولة التي كانت تحمي المواطن وسلم انتاجها وخدماتها لشركات خاصة لايهمها هدف اكثر من الربح بينما كانت الدولة ورغم انها كانت خاضعة ايضا لرأس المال كانت تقدم الحماية بواسطة شرطتها وكافة ادواتها الانتاجية ايضا! في عصر خصخصة القطاع العام وتسليمه لشركات ربها الاوحد هو الربح، بل ان الدولة الليبرالية خصخصت حتى الشرطة والجيوش، فهل عجيب ان نرى ان المخازن شبه خاوية حتى من الطعام في اغلب الدول الاوربية؟ اما المواد الطبية كاجهزة التنفس فنقصها فضيحة أظهرت اول مؤشرات احتقار الانسان، وهو رمي المرضى في الشوراع او نصب اسرة عادية لهم في الحدائق لعجز الدولة عن توفير الخدمات الضرورية في حالات الطوارئ وهو ما رأيناه في اسبانيا وايطاليا وفرنسا وامريكا وغيرها رغم انها من الدول المتقدمة والثرية!
ومما زاد انهيار الثقة بالليبرالية ونظامها لدى الاوربي والامريكي هو انه راي الصين وروسيا وكوبا تقف قوية وتقيد الفايروس بسرعة قياسية بل وتتقدم بالمساعدات الضخمة لايطاليا وغيرها دون طلبها، وكان بأمكان روسيا مثلا عدم مساعدة ايطاليا لانها تشارك في فرض العقوبات عليها! وبمقارنة الوضعين وفي هذه اللحظات التاريخية ادرك الاوربي وبعض الامريكيين بان دور الدولة القيادي لايمكن الاستغناء عنه في عالم غير مضمون المسارات والمستقبل وهو ما اثبتته حرب كورونا. بل ان الدولة الشمولية في الصين وروسيا وكوبا التي شيطنت من قبل الغرب الليبرالي هي الوحيدة القادرة على ضمن حياة الناس والخدمات الضرورية لهم خصوصا في حالات الكوارث، اما النظم الليبرالية فلم تخطط لاحتمالات الكوارث وهي ممكنة في كل لحظة، فوفرت ما يكفي لابقاء معاملها تعمل وتربح فقط فجاء كورونا ليكشف مؤخرة الملك العارية وهو عاجز تنظيفها من قاذوراتها فراي الاوربي وقبل غيره ان الرأسمالية هي النظام الاكثر وحشية في التاريخ الانساني!
اعاد الواقع الكارثي الانسان الغربي الى نقطة الصفر بعد ان تحرر من الوعي الزائف واخذ يبحث عن طريقه مجددا وسط الغام كثيرة وهو اسير يقين طاغ وهو ان الرأسمالية اثبتت انها متوحشة ليس تجاه العالم الثالث فقط بل انها نكلت بالاوربي والامريكي بشدة وهو ما نراه الان في اسبانيا وايطاليا وفرنسا وامريكا! اكتشف الاوربي انه كان ضحية لبيرالية تخفت تحت اسماء تبعد عنها سمة الايديولوجيا لكنها كانت في الواقع ايديولوجيا لانها الزمت الانسان بموقف ما تجاه نظام وافكار ما، فالليبرالية هي ايديولوجيا تجريد الانسان من تعاطف محيطه معه بتعميق الانانية والعزلة الاجتماعية وحرمانه من رعاية الدولة القوية والقاءه في احضان وحش مفترس لم يكن ليغزو كل مدن الرفاهية الظاهرية لولا الدولة التي لاتتدخل بقوة.
2- وهو يتساءل عن اسباب عجز الدولة الليبرالية عن حمايته وتركه ضحية موت مجاني ماحق وبنفس الوقت يصعق الايطالي والاسباني والفرنسي بتخلي بقية الاوربيين عنه رغم وجود الاتحاد الاوربي ويرى امامه واقعا ماديا قويا وهو ان الصين ورغم انها كانت الضحية الاولى للفايروس الا انها سرعان ما تغلبت عليه بفضل دولة قوية شمولية (توتاليتارية) خططت منذ نشوءها للمستقبل وبضمن ذلك وضعت احتياطات الكوارث لها ولغيرها، وكذلك فعلت روسيا وكوبا فلم تتعرض هذه البلدان لما تعرضت له دول الغرب لان الاب يفكر بالشتاء القادم فيوفر لاطفاله الغذاء والرداء المناسب ويرمم بيته قبل ان يأتي البرد.
3- ومما له دلالات تؤكد ان الدولة القوية والمركزية احد اهم شروط البقاء في عالم غادر هو ان روسيا نظامها راسمالي مثل اوربا، ورغم ذلك ظهرت اثناء ازمة كورونا بمظهر المستعد للطوارئ القاسية والجار القوي والمتعاطف انسانيا حتى مع الخصوم ومنهم ايطاليا، وذلك ثمرة الثقافة الروسية القومية ذات التعاطف الغيري بين البشر والمختلفة عن الثقافات القومية الاوربية الغربية القائمة على الفردية، كورونا اكد بأن المركزية بمجملها افضل بمراحل من نظام راسمالي تنبع منه كل موبقات الفردية والانانية.
4- وما زاد من حيرة المواطن الاوربي هو انه عندما يقارن ثراء دول الغرب بثراء الصين وروسيا وكوبا يجد ان الغرب اغنى بمراحل فيرى ان الخلل كامن في ان ثروات الغرب ليست للدولة وانما لعوائل وشركات وهي لاتهتم الا بنفسها وبزيادة ثرواتها وليس خدمة الانسان خارج نطاق انتاجه وبيعه السلع. الدرس الواضح هو ان الدولة الشمولية القوية وقليلة الموارد توفر لمواطنيها حمايات متعددة من كوارث محتملة وتساعد دول اخرى بينما الدولة الليبرالية وان كانت غنية ووفرت للانسان بعض الضمانات الاجتماعية فانها تفشل في ابعاد شبح الموت المجاني عن الانسان فلا يبقى لديه سوى سجن نفسه في شقته الصغيرة! نرى الغربي الان اسير سؤال ساحق: ايهما افضل اذا ليبرالية تضمن له بعض الحقوق وابرزها الوقاحة في مهاجمة الاخرين ولكنها تفتقر لحماية حياته وحياة عائلته ام دولة قوية توفر ضمانات لحياته رغم ان حريته الفردية اقل؟
أ- نجاح الرأسمالية الروسية اكد ان الدولة القوية تضمن سلامة المجتمع اكثر من الدولة الليبرالية، وهذا ينطبق على النظام الرأسمالي الياباني المطعم بروح البوشيدو.
ب- الصين اجتهدت قبل عقود وبعد ظهور عيوب المركزية الشديدة في الاقتصاد الاشتراكي فتبنت مفهوم (اقتصاد السوق الاشتراكي) وهو مفهوم رأسمالي في اصله لكن الصين اضافت اليه سمة اشتراكية وبذلك اتسعت فرص تحقيق تقدم كبير، فنهضت بقوة اشتراكية شمولية السيطرة لكنها سمحت للمبادرة الفردية والقطاع الخاص بالعمل موفرة الحافز الفردي لتحقيق المكاسب. وهكذا صارت الصين (مصنع العالم كله) كما وصفت بحق، تنتج وتصدر لكافة الدول. ومصنع العالم كشف عن طاقاته بطريقة مذهلة اثناء جائحة كورونا حيث اقامت الصين المستشفيات وانتجت الادوات الطبية بفترة قصيرة جدا فلم تحدث نواقص كبيرة وسيطرت على كورونا وثبت ان الاشتراكية الصينية التكييف كانت السبب الرئيس لنجاحها.
ج- اما كوبا فنجاحاتها هي مفخرة تاريخ الاشتراكية لانها اكدت الطبيعة الانسانية للاشتراكية واكثر من التجربة الصينية والسوفيتية وهذا ليس بغريب عنها ولا ثمرة ما فرضة كورونا بل ان كوبا كانت منذ قيام النظام الاشتراكي فيها سباقة لخدمة الانسانية في كل القارات بأطباءها وقواتها المسلحة التي قاتلت الفقر والمرض والانظمة الفاشية. لقد اكدت التجربة الكوبية ورغم العقوبات الامريكية ان الاشتراكية تبني الانسان الاخلاقي اولا ثم توفر الحاجات المادية، فالانسان الاشتراكي هو انسان غيري يناضل ضد الانانية والفردية الجامحة لذلك لم يكن غريبا ان تغمر كوبا سكانها ثم تفيض على العالم بخيرها وبركات اخلاقيات الاشتراكية. وجدنا كوبا تسارع كما هي فعلت في العقود السابقة لمساعدة اوربا في محنتها رغم دعمها للعقوبات الامريكية عليها. ولو تخيلنا ان كوبا يحكمها نظام باتيستا السابق للنظام الاشتراكي لكانت ضحية لكورنا مثل بقية الدول، ولاصبحت تمارس انانية الانغلاق.
1- النتيجة الابرز هي ان العالم يتجه نحو خيارات الطاغي فيها الاشتراكية بشقيها الثوري والاصلاحي، يعقبه خيار راسمالية الدولة، وهذان الخياران لن يفرضهما كورونا وحده بل لاوربا خلفية اشتراكية متجذرة وان قمعت وحوصرت، وسيساعد كورونا على اعادة الاعتبار لما ظهر في الحزبين الشيوعيين الايطالي والفرنسي في ثمانينات القرن الماضي وهي ما سميت وقتها بالشيوعية الاوربية European Communism وكانت لهما شعبية قوية لدرجة اصبحا مرشحين للوصول الى الحكم بوسائل ديمقراطية، وكانت ابرزت سمات الشيوعية الاوربية انها (اشتراكية بوجه انساني) يعطي للمبادرة الانسانية مساحة كبيرة ويعيد للشيوعي الملحد حرية الايمان الديني من عدمه، اضافة لدعم القطاع الخاص! ولكن تطورات الاوضاع والاصرار الامريكي على اجهاض ذلك اضعفها. الى ذلك ان الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية لديها تجارب حكم في السويد والنمسا. الان وبعد فشل النظام الرأسمالي في حماية الاوربيين من مخاطر فيروس كورونا سيفسح المجال لانبعاث الشيوعية الاوربية وحركات اليسار الاوربي معا، ولا يستبعد وصولها للحكم.
2- مرحله ما بعد كورونا ستشهد تزايد تدهور امريكا فكما ان كورونا تقتل الشيوخ فانها ثبتت الصورة السلبية لرأسمالية امريكا واكدت انها شائخة ولا مكان لها في عالم ما بعد كورونا.
3- سوف نرى اليمين الاوربي يعزز قواه ويتجه نحو دولة مركزية قوية وسياسات قومية بعد ان عجزت الدولة الليبرالية عن مواجهة التحديات المصيرية وغدر الاتحاد الاوربي بدول عديدة اعضاء فيه.
4- اما روسيا فسوف تعزز موقعها الدولي ولا يستبعد ان تعود الى الاشتراكيه ولكن بطابع قومي روسي. وستكون روسيا جزء من التحالفات الاوربية الجديدة.
5- ولا يستبعد تعاون اليسار واليمين الاوربيين لاجل تقليص صلات اوربا بامريكا التي اثبتت انها احد اهم عوامل الازمات في الاتحاد الاوربي اضافة لتدهورها وصعود الصين الحتمي والطاغي ونهوض روسيا فيكون طبيعيا ان تتجه اوربا المتجددة نحو بناء علاقات تعاون قوية مع الصين وروسيا وكوبا.
6- والاهم ان النظام العالمي الجديد الذي تنتظر البشرية ظهوره منذ انهيار الاتحاد السوفيتي سيتشكل حتما وسيكون جماعي القيادة مع ارجحية واضحة للصين فيه.
ما الكلمة المطلوبة الان وفي ضوء ما تقدم عن دروس كورونا؟ لعل افضل ما يجب علينا تأكيده هو تذكر ان احمد ميشيل عفلق كان قد سبق اوربا والعالم كله في رفض الرأسمالية والدعوة لاشتراكية ذات وجه انساني يتمثل في اتاحة الحريات واحترام الايمان الديني واعتبار القطاع الخاص جزء من النظام الاشتراكي، فعل عفلق ذلك قبل سبعة عقود من ظهور كورونا الذي علم الاوربيين ان الاشتراكية هي الخيار الافضل للبشرية كلها وليس للعرب وحدهم، فتحية لعفلق في ذكرى ميلاد البعث في السابع من نيسان عام 1947 ولنشدد تمسكنا بأصول عقيدة البعث الاشتراكية القومية.
0 التعليقات: