أخر الأخبار

.

أسرار فتاة قاعة التشريح ..رواية من تأليف الدكتور جاسم محمد عبود



أسرار فتاة قاعة التشريح  ..رواية من تأليف الدكتور جاسم محمد عبود


عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي




مؤلف هذا المنجز الروائي المسمى ( أسرار فتاة قاعة التشريح ) ، طبيب عراقي مغترب في بلاد عمان ، وعامل بأحد مستشفيات مدينة ظفار منها ، ولاكتناهي عرفانه بقواعد الفن وأصوله في كتابة القصة والرواية ، مع أخذه نفسه بشيء من الاحتراس أن لا يحمله عرفانه ذاك على اقتفائها وترسمها أثناء الكتابة ، فيغدو متخلياً حينها عن ترسله وعفويته بدلاً من جعله وقوفه وأطلاعه على مجمل القواعد والأصول بله الشرائط الملزمة ، لمجرد الإلمام والإحاطة بها لا أكثر ، مما جرني إلى استذكار صنائع بعض نظرائه من جمهرة الأطباء المجمع في نظر العموم على نباغتهم ومهارتهم في مراس تخصصهم وانقطاعهم الكلي ليستوعبوا دقائق أحد أفرع العلوم الطبية ، ثم تجاوزوا ذلك الميدان من عطاء الذهن البشري المتسم بقسط من الجهامة والتزمت ، وتعدوه إلى مراس الفن الأدبي والتخلق بأطوار مبدعيه ومنتجيه ، ومشاكلتهم في أطباعهم وسلائقهم وطراوة نفوسهم ، فتمثلت لي شخوص نُطس الأطباء المصريين والبارعين في معطياتهم الأدبية أمثال ابراهيم ناجي ناسج قصيدة الأطلال ومحمد كامل حسين طبيب العظام ومؤلف رواية قرية ظالمة ، وسعيد عبدة المختص بالطب الباطني والمنقطع جهد امكانه لمكافحة مرض البلهارزيا المتفشي بين فلاحي مصر في احقاب ماضية، والمتفنن بضربين من عطاء الموهبة : كتابة القصة القصيرة ونظم الشعر الزجلي،وله اسهام حري ان يذكر هنا ويشاد به، ذلك انه وافى عام 1949م جعفر الخليلي صاحب الهاتف بشاهدٍ من كتابته القصصية لينشر ضمن محتويات كتاب حوليات الهاتف القصصية، وهو بمثابة العدد السنوي لجريدة الهاتف، وتحصل بعدها واقع حال مزر ٍ بمستقبل العلم ونزوعه للتطور والتجدد، اذ اقبل الدارسون على التخصص بلون واحد من المعرفة، وصدفوا عن الاخذ بالموسوعية والتحصيل الكامل الشامل كما لمسناه في خياة اعلام تراثنا القديم: الكندي والفارابي وابن رشد، وزهدوا في محاكاة السابقين من الباحثين والروائيين المتميزين بصياغة اعمالهم، ولم يتوقوا لمضاهاتهم الى حد في مشارفة الابداع.

الدكتور جاسم محمد عبود

وقد يستلفت نظر قارئ ما لهذا الأثر الأدبي المستوفي شرائطه وأسبابه من اجتذابه وتشويقه لتعرف نهايات هذه الوقائع المفترضة التي ينسجها خيال الكاتب وإن كان لها ثمة صلة بالواقع أو أن بعضها مستوحى من صميم حياته ، هو كلفه المفرط بتجميع ما عرض له من تجارب وحوادث ذات تأثير نفساني لا تعسر استبانته في ميله وعاطفته و تصييرها جميعاً بمثابة خلاصة او عصارة لما اوفى بالقارئ عليه ، وفي الصفحات الأول قبل أن ينتهي ويؤول به إلى المتأخرة منها ، أردت أن أقول أن هذه الخلاصة الممهدة لخاتمة الرواية تبدت منشحنة بالفجائع والارزاء والمآسي المهولة والمكتنفة حيوات رهط من الآدميين ممن لم يقترفوا إثماً ويجترحوا جريرة ، وما جنوا في حياتهم غير الإخفاق والفشل والاختزاء ، وبالتالي الإحباط النهائي الذي أظلهم في كل محاولاتهم التهوين من وقع الصدمات والرزايا .

ومبدأ الحكاية أن المتكلم الذي لم يسمه الكاتب إنما ابتدعه ابتداعاً ملزماً ايانا بأن نقفوه في ما يفوه به من كلم ويعن له من خطرات لا يجوز البتة نعته بطلاً كما يستسهل ذلك نقدة الأعمال القصصية مطوقين به جياد اللصوص والسكارى والفاشلين في مشروعاتهم وأعمالهم التجارية أولاء الذين يستلهم القاص معاناتهم ومكابداتهم لطوائل البوار والخسارة أبداً في نصه القصصي المكتوب .

هذا الفرد غير المسمى كان منتظماً في غضون عام 1995م ، ضمن دفعة من طلبة كلية الطب ولكي يستتم فهمه واتقانه لدروسه حول الأمراض وأعراضها وكيفية التوقي منها أملاً في البرء والشفاء ، يلفي نفسه مقسوراً على ( التواجد) من آن لآن في قاعة التشريح مشاهداً أو ممارساً بنفسه لهذه الفعلة أو العملية مستعيناً بآلات حادة بعض الشيء تقتضي الممسك بها أن يتجرد من عواطفه الإنسانية وينسلخ من جميع مشاعره في الرحمة والحنان مؤثراً مزيداً من القساوة لأجل التوصل إلى سر الحيوية ولغز الحياة في الجسد الإنساني .

وهذه التجربة يمر بها سائر دارسي علوم الطب في جميع جامعات العالم ، فمنهم الذي يعتادها ويتألفها دون أن يعنت فكره في من يكون صاحب الجثة وما المصدر المستغني عنها وكيف استحصلت عليها نخبة التدريس في الكلية مستبيحة هذا العبث الظالم بكيان المخلوق تقطيعاً وتمزيقاً ولا يأرق جفن لو تصور الواحد منها نفسه مرتقباً لهذا المآل.

وأشهد أن القادرين من الطلبة على مغالبة النفرة والأعراض عن رؤية جثث الميتين ، هم من اتصفوا بقوة الجلد ودوام الاستمرار والبقاء في الكلية دون أن يؤثر واحد منهم عيافها مثلما حصل للمصري ابراهيم عبد القادر المازني غداة قبوله إبان شبيبته طالباً بكلية الطب غير أنه لم يطق صبراً على مشاهدة الجثث المطروحة ، على بلاط قاعة التشريح لتغدو موضوع دراسة، فهجر كليته وودع خلانه فيها وتغير جراء فعلته هذه وقد تكون متسرعة ، مستقبل حياته الذي أمضاه في ما بعد كاتباً مرموقاً وصحفياً متميزاً بطلاوة بيانه وطراوة نفسه ، وساقه ذلك إلى الايمان بالعدمية واعتقادها في سائر تصرفاته ومسالكه ، حتى انتهى من ذلك الى أن يهمل ولا يعنى بتجميع نتاجاته الثرة وتنسيقها تهيئةً لطبعها في كتب ، فجاء المطبوع منها من الضآلة والقلة على عدد الأصابع وربما قبل ان يؤول إلى اعتناق الفكر العدمي فالكل باطل وقبض ريح في ملته.

لعل لمعضلة التشريح التي غدت في سنيه التالية مبعثاً لقلقه واضطراب حياته سبباً في العهدة له بجثة فتاة تدعى عتاب تصوره وهمياً أو مختلقاً واتضح له بالتالي انه اسمها الحقيقي بنتيجة الاستفسار عن كنه حياتها وذويها ممن نشأت بينهم والمدينة التي سكنوها وحالهم من الإملاق والبؤس أو خلافه من الثراء والغنى، وكان بوسعه أن يشاكل أخدانه من الطلبة في القيام بعملية التشريح غير مكترث ولا مهتم بتقصي الأسباب الآيلة بهذا المخلوق لأن يستحيل جثة هامدة لا يفقه صاحبها أي مكان انتهت إليه بعد ملاقاتها للعنت والضيم ومواجهتها للضياع بين الأحياء ، لا أن يستغرق في تساؤله الفلسفي : حول شتى الشؤون والمفارقات والتجارب والملابسات وغرائب الأمور الحياتية، فيلفي استرساله في تأملات خلص إلى صوغها على نحو بارع أو سكبها بقالب من النثر الفائق العالي يتميز إلى حد في تجسيده لمضامين ومعانٍ مستوحاة من الوجدان الإنساني ، وذلك من خلال مكالماته ومحادثاته وحواراته مع شخوص افترضهم أو توهمهم وأبتدعهم ليلعب كلٌ دوره في موضع من روايته على نحوٍ موفٍ يحسن ترتيب حوادثها وتسلسل وقائعها ، والشخوص أولاء وإن اختلقتهم المخيلة الموهمة بنأيها عن الواقع ، فلا يندر ان نُصدَم بأشباه لهم من حولنا وأنداد يماثلونهم في نوازعهم وأطباعهم ، بل لا يندر البتة أن نلفي ذواتنا بمواجهة مريم سعيد والدكتور فوزي نعمان وصديقه الدكتور أسعد وهيتومي اليابانية المؤرقة نتيجة فقدان أمها، ولشعورها بالاغتراب تُنهي حياتها منتحرة، وكذلك صديقيه الحميمين أنور و سيف، فيملي في غير صفحة : أتعلم يا صديقي أحياناً حتى الذكريات الحزينة تبعث فينا شعلة من الحنين ، حتى الحزن يكون له طعم جميل ، رغم كل المرارة التي يبعثها في حياتنا .

*انظر من حولك الى كم الحروب التي تستنزف بني الانسان، والى التفنن بالطرق الوحشية في انتزاع حياة الانسان وتحطيمه وسلب كرامته، الانسان بارع في التدمير والتخريب، قنبلة نووية صغيرة تقضي على مدينة كبيرة بصغارها وشيوخها ورجالها ونسائها، دون تفريق بين المجرم والبريء ، الاف الناس كل واحد منهم له احلامه وعائلته وامنياته ، بلحظة تقضي على هذا كله.

*ليس سهلا على الانسان ان يشاهد من يحب وهم يتساقطون، ويتخطفهم الموت دون ان يمتلك القوة على انقاذهم، ويزداد هذا الألم وينغرس في القلب بعمق عندما يكون هو بذاته سبب وجودهم وعندما يتخيل انه هو بذاته سبب آلامهم.

* كن صادقا مع نفسك ولا يجذبك الاخرون الى دائرة صراعاتهم على حياتك واعمل الخير في حياة الاخرين ، انقذ نفسك اولا لكي تتمكن من انقاذ الاخرين، ولا تحمل البؤس والضغينة في داخلك، عندها ستجد ان التزامك بما قلت يصبح اسهل. الحياة ليست دائما سهلة والناس ليسوا دائما كما تريد وتشتهي، تقبلهم بعيوبهم ولا تحاول ان تدخل في صراع معهم لتغييرهم، الحياة في النهاية قصيرة، عشها بشغف وتعب.
فجثة الفتاة (عتاب) غدت هماً كارباً يلزمه أن يتحقق منه يسد الطرقات والمنافذ أمام ما ينبعث عنها من أوهام و وساوس تستحيل على تمادي الايام هلوسات تفزعه، لفرط ما تمعن فيه من تخيل وتصور كونها تحادثه بخصوص ترديها وهوان شأنها ، فلا بد من انكشاف السر واستبانة الحقيقة الخافية .

وما نبغي تقديم خلاصة وافية لمجمل ما اشتملت عليه الرواية واقتضت وقائعها من سفرات ومراجعات لدوائر الشرطة واستفسارات من القائمين بأمور تدوين وحفظ سجلات كلية الطب وما تختزنه من الأسرار والخفايا ، فحسبنا ما سقنا من لقطات من هذه الصفحة ونظيرة لها، حِكماً كفيلة بالوقوف على فلسفة الكاتب وحكمه على ظروف العراق إبان منتصف العقد الاخير من القرن الماضي ، يوم كان منتسباً لكلية الطب الأساسية في البلاد ، حيث ما خمد اوار الحرب العراقية الإيرانية حتى منينا بالحصار القاسي ولقي الناس منه ما لقوا طوال عقد كامل.

ورغم جودة اسلوبه واحسانه التعبير عن خطراته التي كثيرا ما يرقى بعضها الى النظر الفلسفي لفرط ارتياعه مما يسود الحياة من مفارقات، لن يسلم اداؤه ويجانب الوقوع في بعض الهنوات اللغوية التي يفوت القارئ المتعلم الانتباه لها اثناء القراءة ، بينما قد يفطن لها القارئ المدقق والمتحري وراء فصاحة اللفظ وسلاسته ، وهاكم بعضها:

كونه ارتياح داخلي …. صوابه : كونه ارتياحا داخليا
بصوت عالي ….. صوابه : بصوت ٍ عالٍ
استقلينا….. صوابه : استقللنا
ها ترى ان هنالك خطرا ….. صوابه : هل ترى ان هنالك خطرٌ
التقيتها مرتان ….. صوابه : التقيتها مرتين

ولكن حسبه ان قدم لنا عملاً روائياً لايقصر عن ان يمتلك اعجابنا، فنشهد له بالبراعة والبداعة في التصوير والتعبير عما يساور النفوس من الهواجس والعواطف ، لانه يشتمل على انظارٍ فكرية وفلسفية مقرونة بخطرات وشذور اقتبسها من اثار رادة اصلاح ولقيات كتاب مشهرين في التاريخ الانساني .

0 التعليقات: