ذاكــــــــــــــــــــــرة
ذاكــــــــــــــــــــــرة
عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي
انتهى إلي ذات يوم من عام 1957م ، جزء من مجموعة كتب تحمل عنوان ( ذكرى الكاظمي ) لجامعها ومصنفها الأديب النجفي رحيم محمد علي رحمه الله ، فأعجبت وقتها بدأبه وحرصه على جمع ما كتبه الأدباء العرب عن شاعرية عبد المحسن الكاظمي ، الشاعر المغترب بالقاهرة سنوات طوالاً استنفدت ما تبقى له من مدة في هذه الحياة ، أمضاها دانياً منساباً في الوسط الثقافي المصري حيث انعقدت الأواصر والعلاقات الحميمة بينه وبين سائر العلماء والأدباء والمشتغلين بالسياسة هناك ، وكان من محتويات الجزء ذاك الكلمة ذات التأثير القوي في وجدان كل من تكرثه مفارقات الحياة نتيجة ما يسودها من انعدام النصفة واختلال القياس الصحيح ، والتي كتبها ابراهيم عبد القادر المازني مستهلة بما يفيد ان الدهر مجافٍ لأولي الفضل وأخذهم بالتعنت وتخييب آمالهم، ورغم عادية هذا المعنى وخلوه من أيما جدة ،وسبق لغيره من المتفكرين في شؤون الحياة وملابساتها الباعثة للحيرة والذهول، أن تولوا عن صوغه بغير القالب التعبيري ذا ما أسعفهم إمكانهم ونزعوا لمشارفة الفن القولي ، لكنه هذه المرة تجسد بأسلوب المازني الرائق ، حيث يمتلك صاحبه قابلية فائقة عجيبة على ارسال نفسه بمحض سجيتها ، فيوالي الكتابة ويعبر عما يجول في ذهنه من معانٍ وخلجات وأفكار ، نافذاً من خلالها إلى ما يحتوش الكائن الإنساني ، من آن لآن ، من آلام ومواجع ، دون أن يعهد قلمه حراناً أو توقفاً ، في أي مكان احتواه وآثره لمراس الكتابة ، سواء أكان مكتظاً بالجالسين ويتسامع فيه ضجيجهم ولغطهم ، أم انتفى منه ما يشغل البال ويزعج الخاطر، وبعد سنين غدت هذه الدراسات والمباحث ، مرجعاً عوّل عليه الاستاذ الراحل محسن غياض في إعداد رسالته لمرحلة الماجستير حول شعر الكاظمي وأغراضه في تجسيد تطلعات العرب نحو الاستقلال والحرية ، مقدماً شكره الجزيل لمعد هذه المأثورات والمذخورات ، ومن يومها تقتُ للتعرف عليه وإبلاغه محبتي وإعجابي ، حتى لقد هممتُ حينها بسفرة للنجف ، لأستفسر من أصحاب المكتبات عن مكان تواجده أو ملتقياته ، حيث كنت في حال من الحيوية قبل ثلاثة وستين عاماً ، يؤهلني للبدار لهذه الخطوة في سبيل الأدب ، على وفق ما توحي به الأحلام والأوهام ، قبل أن أمنى وابتلي بمواجهة ذوي الشنأ والحقد في السنين التالية ، وبأسم هذا الأدب الذي ينتحله مَن لايمت له بصلة ، وما سبب هذه الوضعية إلا استهوائي لمقالة المازني الذي لا بد من أن كان متخلياً وقتها عن نزوعه للحداثة وتجديد الشعر العربي ، في حين شغل عبد المحسن الكاظمي سائر النقاد والدارسين بأدائه التقليدي لأغراضه ومقاصده ، مع الإيهام برصانته ومتانته واحتسابهما من قبيل التجويد الفني .
لكن حصل في يوم من نيسان عام 1969م ، وفي قاعة الخلد ببغداد أن تقدم نحوي أديب هو عضو في وفد الأدباء النجفيين لمؤتمر الأدباء العرب الخامس ، لم أره منذ عشرين عاماً وأكثر ، فقد انقطعت زياراته لذوي قرابته في طويريج يوم كان يأتيهم في العطلات الصيفية ، لتوقف الدوام في المدارس ، ويمضي أشهر الصيف في ضيافتهم ، وينضم إلى شلتنا ، فنقضي أوقات الليل ساهرين حتى الفجر ، مقتعدين (دويبة) من (دوب) الجسر الخشبي القديم في وسطه .
وكأن صحَ فينا أو علينا قول القائل :
كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماءُ
قال الرجل الذي لم تتغير ملامحه القديمة ، وكان سهلاً أن أتذكره ،مع نسياني اسمه.
أنا رحيم محمد علي ، نحن تربينا ( سوة ) ،اتعرفني؟
حقاً إن أبعد الأشياء عنك ، قد تكون أقربها منك واليك.
0 التعليقات: