استحضار المجتمع المدني في عمل روائي غابة الحق
استحضار المجتمع المدني في عمل روائي غابة الحق
عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي
قبل قرابة ثلاثة عقود تنقص أو تزيد في حساب السنين لا فرق ، ظهرت في الوسط الثقافي العراقي صفحتان مكرستان لرصد الحياة الأدبية في البلد ، أولاهما باسم “أدب وثقافة” وثانيهما باسم “النافذة الفكرية” وكلتاهما تصدر يومي السبت والأربعاء على التوالي ومن كل اسبوع ، مع بقية صفحات جريدة العراق وبإشراف المرحوم أحمد شبيب الذي يمتلك قابلية فائقة على تمييز الحسن والجيد من الموضوعات وترشيحه للنشر من بين ركام المقالات التي تتوافى على ذلك المطبوع اليومي وفيها الكثير غير المستوفي لمتطلبات النشر ، فيستبعده منه بلا أدنى تحرج وتخاذل إزاء رهبوتية صار إليها كاتبها بفضل من إسهامه بفعالية ملحوظة في الحقل السياسي أو غيره من ألوان النشاط ، علماً أنه ما أُجيز وسُمح به وقتها إلا لأنه ينطق بلسان المكون الثاني للشعب العراقي ونعني به الكرد ويفصح عن أمنياتهم ورغباتهم ، ويُطلع الملأ على أشتات من ثقافتهم وموروثهم ، مُدللاً في الوقت ذاته على انفتاحهم وتوقِ متنوريهم للتعايش مع سائر الشعب العراقي وشرائحه بغاية ما يلزم من الانسجام والمسالمة والتصافي.
وثمة أمر معروف يلزمه الصحفيون المتمرسون والحذرون والمشفقون أيضاً على واقع الكُتاب اليومي أن يُمنى بما لم يكن في حسبان أحد من اشتطاط المسؤولين في تفسير ما يكمن وراء كتابتهم من رمز ومعنى وإشارة فيعرضوا لبعض الأذى ، فكان احمد شبيب مُراعياً لهذا الجانب بشكل كبير ومدهش ، فيشطب من غير مقالة تعبيرات يخالها متضمنة غير معناها الظاهر وذلك حرصاً على تجنيبهم الخسف والامتهان ، ومشفقاً على حال ذراريهم المعيشي قبل كل شيء.
فراق لي حينها أن أكتب وأنشر فيها موضوعات مستوحاة ومعنية بالتراث القريب لموجوديتنا على هذه الأرضين من قبيل : عبد العزيز البشري الأديب الذي لا يتكرر ، حول انضمام بعض الأدباء الرواد إلى المحافل الماسونية ، عن رسالة من مواطن عراقي في سوق الصدرية إلى العقَاد في القاهرة ، من حالات التخليط والتهويش في الكتابة الأدبية ، علي الشرقي في الرسائل الجامعية وكتابات الدارسين ، مدني صالح بين الانكار والحفاوة ، محمد مندور في رواية المرايا لنجيب محفوظ ، وكثير غيرها جاوز بضع مئات إذا أحصي مع مثيلاته الملاقية حفاوة وقبولاً من لدن محرري الصفحات الأدبية للجرائد الأخرى في غير ظرف ومناسبة ، فانبرى لها شاعر سبعيني (1) أو ثمانيني لا أعرف ، إسمه فاتح بشير نعمان لم أعد أسمع به وعنه شيئاً في السنوات الأخيرة ، مدعياً أنها لا تحكي عن معاصرة ومواكبة لمستجدات العصر ، بل هي معيدة لنا أجواء زمن ماض ٍ ، وملتُ بصفحة وجهي مُشيحاً عن مداخلة كهذه لأني لم أكترث من قبل بنظائرها من صنوف التخرصات التي ينصب في تلفيقها نفر من الشانئين ممن يستكثرون على الآخر انقطاعه الكلي لمزاولة صنعته الأدبية واحجامه من مشاكلتهم في ما يولعون به من ثلب نتاج هذا وذاك من قرنائهم الأدباء والتهوين منه ، فضلاً عن ما خبرته وامتحنت به من تفنن في اطلاق الإشاعات عن استمساك بالقديم علَهم يصلون لمبتغاهم من تدنيس السمعة جهلاً منهم أن من ليس له ماض ٍ قريب أو بعيد ليس له حاضر زاه ٍ ومُشرف ٍ ودان ٍ ، وساورني ظن بأن (الولد) لا يعدو أن يكون مؤلباً ومستثارة ً حفائظه ومحرضاً من زمرٍ تلمست فيه تصديق أية فرية واستعداداً للانقياد بوحي أي انتحال بشأن مجهودات أدبية لم تُعد له ولأشباهه ، إنما لتُقرأ من قِبل الحُراص على الثقافة العربية أن يطولها التحريف والمسخ ، وأن تتجلبب بطابع ٍ من الإشراق والتأصيل.إستذكرت هذه الشجون وأنا بصدد استعراض فصول رواية غاية الحق بطبعتها الخاصة عام 2001م ، والصادرة عن دار المدى بعد أن صدرت الأولى عام 1865م ، بمدينة حلب والثانية في بيروت عام 1881م ، والثالثة بالقاهرة عام 1922م ، ومؤلفها مواطنُ سوري هو فرنيسيس فتح الله مراش المتولد في العام 1835م بمدنية حلب والمتوفى في عام 1874م ، فهو لم يدخل في عمره الأربعين عاماً وقضى بسبب معاناته الأوجاع والأوصاب لإصابته بشللٍ عصبي في عينيه منعه من مواصلة دراسته العلوم الطبية إلى أن أدركه العمى ، فصار مستطيعاً بغيره في الكتابة الذي لم يتول عنها بسوى بضعة كتب هي (رحلة باريس ، شهادة الطبيعة في وجود الله والشريعة) وديوان شعر محتوٍ لمجموع شعره الموحى به في مناسبات مختلفة ولدواعٍ وجدانية ونفسانية شتى ، لكن الأجدر بالذكر والإشادة هو هذه الرواية الفذة والخارجة على الأساليب التعبيرية السائدة في عصره والذي غلب على بيان الكُتَاب والمنشئين فيه تحذلقهم وتنميقهم ، وانماز بتهافته وتبذله فضلاً عن احتياجه لتبني قيم ومبادئ من شأنها الدعوة للتغيير والتجديد في نظام العيش وخطة الحكم ، وتخليص الملأ مما يقاسونه من جور الحكُام واستبدادهم ، وقد عُني الدكتور جابرعصفور بتقديمها ودراستها بمقال ضافٍ مُجملٍ غاياتها ومراميها منوهاً بمقاصد الكاتب من تفضيله وإيثاره لقالب القصة وما يعنيه من إمعانٍ في السرد واستلهام الخيال في لفت انظارهم إلى ما يجري في العالم الوسيع من حولنا من انتفاضات وثورات بوجه المهيمنين والمتعسفين بمصائرهم ، وجابر عصفور اكاديمي مصري وناقد حداثوي كما تروق هذه التسمية لبعض مدعي خصومة التراث العربي والملوين صفحاً عن كتب القدامى ، في غير استبدال الوسطية بها وتخيَر جانب الاعتدال ، وأشرف على طباعته العراقي محمد سعيد الصكار وهو عضو في إتحاد الأُدباء العراقيين القديم والمنتهية ولايته عند الساعة الثانية عشرة ليلاً يوم 7 شباط 1963م ، وقد عرفته شاعراً يُصور خيبة الناس المكافحين دون مطالبهم وآرابهم على جسامة ما دفعوا من أثمان ، وقدموا من أضاح ٍ.
والمدى أين المدى تعبت ….. منه أيامي ولا خبر
ومحمد سعيد الصكار بعدُ مقبول من لدن الجميع بمن فيهم أولاء المجبولون على كراهية الجميع والمرتعدة فرائصهم حين تطالعهم بعض الدوريات بما يتقاصرون دونه وينكصون عنه من نتاجات الفكر ومعطيات العقول ، وانتهجوا ما درج عليه من قبل أشباههم في مصر أيام ظهور جماعة الديوان وعلى رأسهم الكاتب الشهير عباس محمود العقاد الذي اشتهر بحملته على شوقي والنيل من طريقته في كتابة الشعر ، فأسرف أولاء الأشباه في توشيح كُتيباتهم بـ الثناء على شوقي ، وهو في باطنه حقدٌ على العقاد وليس بحب شوقي ولا تشيُّع لشخصه أو كلامه ، وذلك ضرب من الرأي المعكوس معروف بين العجزة الذين يعييهم أن يقابلوك مقابلة الند للند ، ويعييهم أن يسلموا لك تسليم المنصفين ، فيعتصموا باسم من الأسماء يسترون وراءه حقدهم وسخائم نفوسهم باسم الغيرة والإعجاب.(2)
وهذا عين الداء الذي يسود الأدبية العراقية ، ووقفت على أطراف منه في بلاد الشام بدليل أن كتاباً تزينت به واجهات المكتبات بدمشق يفيض في هذه الشؤون من الأمراض الأدبية التي تُنكب بها البلدان التي تختل فيها المقاييس ويستطير صيت المدخولين على ما لم يُؤهَّلوا للاضطلاع بأسبابه من وجوه الحياة ، صنفه الكاتب الأشهر في سوريا بالأمس الدكتور إبراهيم الكيلاني.
فرنسيس فتح الله مراش |
وسمعت باسم فرنسيس فتح الله مراش الحلبي لأول مرة من خلال كتاب (الفكر العربي الحديث وأثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي) لمؤلفه الارثذوكسي الراحل رئيف خوري المتشبع بالثقافة العربية والاسلامية ، والمنافح عن أصالتها وثرارتها وغناها بالزاكي المأثور من القيم التي تقر حقوق الإنسان وتُعلي من شأن الحرية جاباً بذلك ما رامها به من الافتئات والتخرص والاستهوان (رينان) ورهطه من مستشرقة أوربا المنكرين علينا استحقاقنا الحياة ، وقد قرأته قبل عقود وتعددت طبعاته مرات ، كانت الأخيرة بدمشق في مستهل القرن الحالي باعتزام وإزماع الأديب الشامي أحمد كامل الخطيب الناشط في التحري ما وراء حيوات أعلام النهضة العربية ودعاة تخليص مجتمعاتنا مما ترزح تحت وطأته من الاجحاف والغبن ، فيعثر بلقيات نادرة ومنسية ، ويقترح على وزارة الثقافة في بلاده أن تعيد طباعتها مبتغياً إعمام ثقافة التنوير واطلاع نابتة الأدب على جهاد الرواد الأوائل وعنائهم وصبرهم حتى يوفوا على التعبير البياني الدال والمصقول ، فيودعوه ما يضطرب في وجدانهم وتجيش به نفوسهم من نوازع وأمان ٍ وتطلعات ومرام ٍ محددة ، أبينها تشذيب لغتنا من هذا التسطيح الغالب على لغة بعض الصحف اليومية والمتجلي في تهافت المعنى وضحالة الفكر وعدم العناية بالأسلوب ، علماً أن درس الثورة الفرنسية وأحداثها وما صحبها من انتهاك محارم ، غدا في الآونة الأخيرة موضع نظر وبحاجة إلى إجالة الرأي وتقليبه قبل البدار لتنزيه رجالها وتحاشي تحميلهم تبعة ما اقترف أثناءها من آثام ٍ وجرائر ، بحسب ما دعا لهذا الاستقراء والاستنتاج واشاعته في الثقافة العربية المفكر العربي الراحل عبد الوهاب المسيري.
ويذكرني تصفح كتاب الفاضل فرنسيس فتح الله مراش هذا بكتاب الدكتور محمد حرب من الديار السعودية سارداً فيه ما حفَ بسيرة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني من ظروف ٍ عسيرة لا سيما في الطور الأخير من حكمه حيث كثر منافسوه ومعارضوه داخل امبراطوريته الممتدة إلى أنحاء مترامية من قارات ثلاث تعددت أجناس سكنتها وتنوعت أديانهم ومذاهبهم ولغاتهم فضلاً عن مناوئيه من جبابرة أوربا ودهاقينها وأنسال عهدها بالصناعة الحديثة والمستتبعة الجري وراء سوق ينفق فيه منتوجاتها ، ومادة مستخلصة من نبات أو حيوان لتديمها ، وجوهر نفيس نستخرجه من طبقات الأرض وهو النفط الذي تشتغل عليه وبواسطته المصانع ومحركاتها ، ولكل هذه الموجبات أو الأسباب المقتضية عرف العالم ما نسميه بالاستعمار الأوربي الرامي للاستحواذ على البلدان الفقيرة وغير المتفطنة لما تكتنزه أرباضها من مذخورات تؤهلها لأن تكون على رأس الدول المتقدمة والمتأثرة بشروط تأسيس الحضارة قبل غيرها ، وبسبب هذه التحديات والمعاضل ولثقلها وفداحتها وجسامتها وجد السلطان نفسه مرهقاً بمواجهتها وعاجزاً عن أن يتغلب عليها إلى إن جد ما هو معروف من ضروب الحوادث والخطوب الآيلة للتصويح بالملك وتداعي الدولة واستلاب الديار وتمزيق الكيان ، ويعزو الدكتور محمد حرب المسببات التمهيدية لذلك واحدها ما نشط في مجاله بعض نصارى بلاد الشام من الكُتاب والشعراء ومحيي التراث العربي والمُلحفين على شبيبة العرب أن يستمسكوا بلغة أسلافهم وأجدادهم وأن لا يترخصوا فيها ويستهينوا بما هي عليه دوماً من رواء وطلاوة ورشاقة وعذوبة ، بل اقتضتُهم مشكلة مواجهة كلام العاميات المتعددة والمتفشية في الأوطان العربية مزيداً طائلاً من السهر والنصب والإرهاق والحيرة في التوصل لحلول وسبل تذليل صعوباتها وتسهيل قواعدها وضوابطها ، أمثال من ذاد عنهم وجبَّ كل افتراء وتلفيق يشين بنصاعتها الباحث السوري عبد الكريم الأشتر والمفجوع الوطن السوري اليوم برحيله المباغت إلى رحمة الله ، وهو مُحيي شعر دعبل الخزاعي وملمٌ بالدراسات الحديثة المكتوبة عنه ومحيط بالمجهودات التي سبقته الى تحقيق هذا الشعر في العراق ، وتتلمذ أيام شبابه للدكتور محمد مندور بجامعة القاهرة ، قلت أن أولاء النصارى الذين أشاد الدكتور علي جواد الطاهر خلال محاضرة له في الحلة بالأمس البعيد ، بمآثرهم ودالتهم على النثر العربي تحسيناً وتطويراً وتنقية لنصوصه وشواهده من التزويقات والبهارج والأسجاع والزخارف من مثل ناصيف اليازجي وبطرس البستاني وابراهيم اليازجي ولويس معلوف ولويس شيخو وغيرهم يبخسهم الدارس السعودي ويتحامل عليهم ويدعي أنهم هيأوا الأذهان لاستقبال الفكر الأوربي الوافد علينا والتلاقح معه لمناداته بتعاليم الثورة الفرنسية المتمثلة في الدعاوة بحقوق الانسان ومنع التجاوز على حرمته وغصب حقه المشروع في الانتفاع بموارد بلده ، وهي في ملته مسوغات منتحلة لا غير رائدهم منها انشغال الأفكار بالتلاحي حولها وصرف أذهان أصحابها عن الإلتفات والتنبه على دسائس الغربيين وأحابيلهم لإزالة عرش عبد الحميد الثاني وإبطال حيثيات استمراريته في تصريف شؤون المسلمين وزوال الخلافة ، بينما يتبنى الفاضل فرنسيس فتح الله مراش عبر عمله الروائي الرائد غير هذه المزاعم المضطربة التي يشوبها من الخلط الكثير ، ويصدع بالدعاوى للمجتمع المدني الذي يقر حرية الفرد وتوفير أمنه وسلامته ، وتجنيبه الخوف ، وكان قدوة مَنْ أتى بعده وجرب مكنته من كتابة القصص الفني وغير المتوخي تسلية القراء وامتاعهم بتزويق الحكايات الغريبة بقدر ما يبتغون منها تبصير الناس بالطرائق المؤدية لتجميل حياتهم وازدهار واقعهم ، وذلك لا يتم إلا بعد اقتناعهم المطلق بوجوب تسفيه الأضاليل والأوهام والخرافات ، وتحسين خلالهم وأخلاقهم في سائر تصرفاتهم ومسالكهم في الحياة العامة ، مبتعدين عين الوقت وجهدما يستطيعون عن الكذب والنفاق والمخاتلة ومشفعيها جميعاً بالتخلي عن الكبرياء المذمومة والتعالي المرفوض الذي لا داعي له مع بقية الرذائل التي تمعن هذه الرواية بتعديدها وتُنسي القارئ استغراقه في لحاظ ما تحفل به من رموز قوات الشر وممثلي الفلسفة والحكمة والمحبة الناهين عن المكر والخديعة في مملكة الروح ، إنما هي من فصول تسهب في إعمام الحياة الديمقراطية في المجتمع الإسلامي وما تعنيه من إجراء الإنتخابات لمجلس نيابي يقوم بترشيح أعضائه مواطنو الدولة أنفسهم ويجدون فيهم المزايا والصفات التي تؤهلهم للذود عن مصالحهم وحقوقهم ، وهذه مثل خطة عمل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد أن شهد الكاتب المنتج بأم عينيه اللتين يشكو من وجعهما تدهور الأوضاع وتألب الدول وموت الآمال في مجاراة حياة المجتمعات في بلاد العالم وما تتيحه للفرد الإنساني من الاستقرار والدعة ، وكل هذا وهو مستسلم للنوم الهادئ اللذيذ بأحلامه وخيالاته وتصوراته وما يفيق منه إلا ويشهد المتغيرات الجارية في العالم الجديد أمريكا التي نشب فيها الصراع بين معسكري الانحطاط والارتقاء ، وتحرير الفرد من آصار الهوان والمذلة على يد إبنيها البارين جورج واشنطن وفرانكلين ، وليلحظ استبشار الناس بانتصار الحق الأبلج في ظل السلطان عبد العزيز خان داعياً له بدوام ملكه على مدى الأزمان لحظوته بإغداقه وجودِه وتشرفه بلطفه وإنعامه ، رجوت أن لا يكون ذلك على سبيل التقية وإضمار الحقيقة وإيثار السلامة ، بعدما أوغل في كشفه من حقائق الحياة المتدنية وعن شيوع الأرجاس والخسائس في ديار تُسمى بلاد المسلمين.
_________________________________
(1) هناك طرفة تُعزى إلى المرحوم الدكتور علي الزبيدي من شهود جلسات المربد الأول المنعقد في بدايات نيسان عام 1971م ، والذي شاع فيه كثير من التقول واللغط بشأن عمود الشعر والقصيدة الحرة المنفلتة منه ولا سيما زمن الستينيات وفي بوادي السبعينيات في عموم الأوطان العربية ، فاقترح على صاحبه أن يتخفيا عن الحضور خشية ان يعرض لهما (أبو سبعة وسبعين) وينغص حياتهما ويخدش شعورهما ، وربما نشرها محمد الجزائري رحمه الله المشرف على جريدة المربد والتي جرت العادة أن تصدر طوال أيامه وتحتجب بعدها .
وهو نفسه ـــ أي الزبيدي ـــ الذي صرَّح لإحدى الصحف في أخريات حياته زمن العهد السابق أن الحرب العراقية الإيرانية لا تتوقف ولا تنحسم بقصيدة التفعيلة ولا العمودية ، إنما ينهيها الصاروخ ويضع لها حداً فتكه العشوائي بالزرع والضرع ، وهكذا كان ما كان وحصل ما حصل ، وتخلص بهذا الجواب من مطالبته ببيان رأيه في أدبيات الحرب .
ويَمثل لبالي ذانك الشجار والعراك اللذان شهدتهما أيام شبابي عام 1948م ، وفي قصبة الهندية / طويريج ، يوم جاء أحد البسطاء إلى دكان (دويج) المنشغل بتصليح المراوح الكهربائية ومكائن الخياطة ليسمعه انتخاءه بالأنبياء الأطهار والأولياء الصالحين أن ينصروا الجيوش العربية في خوضها معركتها مع اليهود في فلسطين ، فَرَد عليه دويج زاجراً ومبكتاً أن أولاء لا شأن لهم بمشكلاتنا إنما الحق للقوة في هذا الزمن وليس غيرها ، فاستدرك عليه مخالفه في نزعته ” أتشكك يإيماني” !؟ فكان أن اختصما وافترقا وتجافيا ، وصار المشهد بحاجة لمن يخليه من المتجمهرين والمتفرجين يومذاك .
(2) شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ، عباس محمود العقاد .
0 التعليقات: