أخر الأخبار

.

الفلوجة.. وأصوات تخاطب الأمّة


الفلوجة.. وأصوات تخاطب الأمّة


عراق العروبة

جهاد بشير


تعد مدينة الفلوجة بيرق العراق، ومرجعًا لكل مَشاهده سواء فيما يتعلق بالأوضاع السياسية أو الإنسانية والاجتماعية، دون أغفال الجانب العسكري الأشهر في هذا الإطار .

ومنذ أكثر  من سنتين تعيش المدينة في أسوأ حال، فالقصف الحكومي والدولي عليها لم يترك شبرًا دون أن تمسّه قذيفة أو لهيب نار، ولا يمكن أبدًا لأحد الحديث بأن بيتًا من بيوتاتها لم يشهد مقتل واحد على أقل تقدير من أهله أو جرحه أو إعاقته نتيجة ذلك، ناهيك عن إبادة عائلات بأكملها أو تدمير منازل برمّتها حتى عانقت الأرض التي سويت بها .. وكل هذا اعتادته الفلوجة وخبرته وعرفت كيف تتجاوزه، فقد  مرّت بظروف أقسى وأكثر حلكة وتمكنت من الانتصار عليها، وتاريخها المليء بهذه الأحداث ومثيلاتها ليس بحاجة لبيان فهو أشد وضوحًا من أن يُسلط عليه ضوء .

ولكن الأكثر إيلامًا هذه المرّة؛ أن ما تتعرض له المدينة من محن طال أمدها، يرافقها حصار جائر إلى حد قد يظلمه الوصف المجرد، ولا تعطيه حقَّه نعوتُ التوصيف القاسية ودلالاتها التي تشعِر الراصد بحجم الظلم والطغيان وهو يغشى نفوس المتسببين فيه والداعمين له والساكتين عنه، وقد ألقى هذا الحصار  بظلاله على الجوانب الإنسانية ومظاهر الحياة، فكل شيء في الفلوجة بات رماديًا أو قاتمًا، لا يمت إلى البهجة بصلة، ولا يعرف طريقًا إلى راحة أو طيب عيش، ويكفي تصوّر حال الأطفال عند تلألؤ أعينهم وهم ينظرون لقِدر الطبخ فوق نار الحطب عشمًا بأكلة طيبة، ومقل ذويهم التي تغرورق بالدموع رأفة بحالهم وخشية عليهم؛  فهل يقوى على الصمود أمام ذلك ذوو المشاعر الصلدة والقلوب القاسية؟!

ولأن الفلوجة عنوان دائم للقضية العراقية، ونتيجة للروح والعزيمة التي يتحلى بها أهلها والتي ما تزال ناصعة بيضاء تقاوم هذه المحنة وتتحدى من يقف خلفها؛ فقد خطفت الأنظار نحوها لعلها تستطيع أن توصل لعالم يدّعي العمى والصمم حجمَ المأساة التي تقيّدها، ولكن دون جدوى، فلم يصدر عن أحد طوال تلك الشهور المضنية ما يعطي انطباعًا بجدية إنقاذ المدينة وأهلها، والأفظع من ذلك كله؛ أن الذين يُحاربون ما يسمونه "الإرهاب" باتوا يبررون وسائل الموت البطئ وجرائم الإبادة التي يمارسها حلفاؤهم في العراق في واحدة من أكثر الانعطافات اسودادًا في تاريخ هذه الأمة التي لا تدرك حتى اللحظة حجم اللعنات التي ستصبها عليها الأجيال اللاحقة إن هي بقيت في حالة الإحجام المستدام عن تقويمها، واستمرت بالتقاعس عن إصلاح المسار .

وأقصى ما وصلت إليه الأحوال في ملف انقاذ الفلوجة مؤخرًا؛ هو موجة من التعاطف والدعوات الصادقة من جهات ومؤسسات وأفراد في مختلف العالم الإسلامي تنادت لفك قيد الحصار الصفوي الجائر ـ الذي يسعى القائمون عليه والمتسببون فيه إلى إبادة تاريخ المقاومة ومحو سجلات الجهاد؛ بتجويع أهلهما ومحاولة إذلالهم ودفعهم نحو اليأس والقنوط ـ وتلك محاولات تستحق الثناء والشكر، لكنها لن تكون كافية ما لم تترجم إلى واقع عملي سريع، يدفعه التحدي وتقويه المواصلة، ويتخاصم مع الهمم الضعيفة والشعارات السلبية والاقوال المثبطة، إذ بدون ذلك؛ ستبقى حملة التعاطف مجرد أصوات متطايرة لن تجد نفسها إلا مترنحة بين مطرقة الصدى وسندان السراب.

إن حملة التعاطف اللافتة هذه جديرة بالاهتمام والتوسيع، ولكنها بحاجة أيضًا لأن تشمل مناطق أخرى في العراق تعيش الأوضاع ذاتها التي تقاسيها الفلوجة، فالحويجة مثلاً منذ شهور مقيدة بحصار مماثل، وتتعرض لقصف عنيف شبه يومي تنفذه طائرات التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، بمعية المدفعية الثقيلة من قبل قوّات البيشمركة، والأهالي هناك الذين قطعت عنهم حكومة المنطقة الخضراء مرتباتهم ومنعت وصول مستلزمات معيشتهم باتوا في أوضاع إنسانية متردية للغاية، فضلاً عن أن نسبة كبيرة من القاطنين في الحويجة هم في الأصل نازحون ومهجّرون أجبرتهم الميليشيات الطائفية والأجهزة الحكومية التي تشبهها على ترك مدنهم وقراهم في محافظات مثل صلاح الدين وديالى وغيرهما، ولم تسمح لهم بالرجوع مرة أخرى .


لا بُد في آخر المطاف؛ أن تكون حملات التضامن نقطة انطلاق جديّ لمؤازرة ودعم أهل السنّة في العراق عمومًا وعلى امتداد وجودهم فيه؛ لأن المدن المحاصرة والتي ينهمر القصف عليها ليست وحدها من يعاني البأساء والضراء، ورغم أن السنّة العراقيين ليسوا ضِعافًا في الحقيقة، كما أنهم لم يكونوا يومًا في مصاف التخاذل أو التقاعس؛ إلا أن من لا ظهر له يسنده أمام طوفان المد الدولي والإقليمي المتآمر عليه والذي لا يرقب فيه إلاً ولا ذمّة؛ يجعله من أصحاب الحق في طلب النصرة؛ ومن شأنه أن يطوّق بذلك الأمة كلّها دون استثناء بأمانة النجدة، ويحمّلها جريرة التخلي عنه والتغافل عن حاله .

0 التعليقات: