أخر الأخبار

.

صار الوعظ مهنة تدر على صاحبها الأموال


صار الوعظ مهنة تدر على صاحبها الأموال



عراق العروبة
هيفاء زنكنة


من الشائع في عالم السياسة، بمعناها المباشر وغير المباشر، أن يتبنى السياسي، حالما تتم إقالته من منصبه أو يشارف على انتهاء مدة عقده ومنصبه، موقفا نقديا وحتى أخلاقيا من القضايا التي واجهته سابقا وتعامى عنها، وهو موقف يصفه الناس العاديون، ببساطة، قائلين «صار شريفا».

 فها هو اوباما، رئيس الدولة الاقوى في العالم، يتحدث، وهو على وشك مغادرة البيت الابيض، بعد حكم دام ثماني سنوات، بصراحة أذهلت العالم، عن رأيه بالحلفاء أكثر من الاعداء، وعن اخفاقات السياسة الأمريكية في العالم ومن هو المسؤول. بنفس النغمة، تحدث سير هيلاري سينوت، حاكم البصرة البريطاني إثر الاحتلال، الذي جمعتني به ندوة نظمها نادي الصحافة البريطانية (8 آب/اغسطس 2010)، بلندن، بعنوان «ماذا عن العراق بعد جلاء القوات؟ «يومها كان سير سينوت قد تقاعد، فتحدث منتقدا السياسة البريطانية، بلهجة من كان مناهضا للحرب والاحتلال منذ لحظة نزوله من رحم أمه، وليس بعد تقاعده .

عراقيا، لدينا أمثلة كثيرة على تبدل الخطاب السياسي، خاصة، عند اقالة مسؤول حكومي أو، وهذا هو الشائع أكثر، هرب المسؤول خشية الاعتقال بعد اصدار امر باعتقاله بتهمة الإرهاب، كما حدث مع نائب رئيس الوزراء طارق الهاشمي. حينئذ يتحول الصوت التبريري الناعم لسياسة النظام وارتكابه كافة انتهاكات حقوق الانسان، مثلا، إلى صوت يجهر بالدفاع عن حقوق الانسان وكشف الحقيقة!.

ما يجمع أوباما وسينوت والهاشمي هو كونهم سياسيين بمناصب رسمية. ماذا عن المثقف – الموظف؟ من بين المتأرجحين ما بين الموالاة تسويغا اثناء فترة التواجد في منصب حكومي، والمعاداة تحت ستار « كشف الفساد»، بعد الإقالة، يبرز شخص يدعى جابر الجابري، الذي تمت اعادته إلى منصب الوكيل الاقدم لوزارة الثقافة ومدير عام دائرة السينما والمسرح وكالةً، بعد إقالته عام 2012. كرس الجابري، السنوات الفاصلة ما بين الاقالة وإعادة التعيين، لنشاط محموم لفضح الفساد المالي والإداري في وزارة الثقافة. وهو أمر كان من الممكن ان يحسب له لولا أنه كان شاهدا صامتا وجزء من ذات الوزارة على مدى سنوات ما قبل الإقالة .

أما في الفترة الفاصلة ما بين الإقالة واعادة التعيين، فقد رشح الجابري نفسه في الحملة الانتخابية للبرلمان، عام 2014، باعتباره « مناضلا كبيرا وشاعرا معروفا واجه دكتاتوريّة العهد البائد وعصابات الانحراف والفساد في العراق الجديد».
 خلال الحملة الانتخابية، تغيرت لهجته التبريرية الناعمة دفاعا عن النظام، التي تميز بها طوال توليه المنصب، لتصبح مغلفة بايحاءات التضحية والشهادة و «الجهاد المر، في حجابات العبيد، لنعلمهم دروس الحرية والانعتاق» .

 يتبدى ذلك بوضوح خلال مخاطبته، زملاءه السابقين في الوزارة، في رسالة مفتوحة، موجودة على موقعه، مذكرا اياهم « انني دفعت لأجلكم أثمانا غالية» وكيف «وقعت الوزارة وأحرارها وشرفاؤها تحت قبضة المجرمين والقتلة والسفلة والدوشمجية والسماسرة، والقوادين، بعد أن تمت الاطاحة بي» .

المفارقة هي أن الجابري عاد ليتبوأ منصبه القديم ذاته في ذات الوزارة. وحسب علمنا، بقي طاقم الوزارة الوظيفي ( من احرارها إلى سفلتها وسماسرتها، حسب تعبيره) كما هو. فالتغيير مستحيل بحكم نظام المحاصصة. كما لم يتم تقديم أي ممن يتهمهم الجابري بتلك الاوصاف الحادة المهينة إلى القضاء. فكيف يواجه الجابري « المجرمين والقتلة والسفلة والدوشمجية والسماسرة، والقوادين» في الوزارة و « عصابات الإنحراف والفساد في العراق الجديد» ؟

إنه يواجههم، بشكل لا يختلف فيه عن أي موظف آخر في النظام العراقي أو أي نظام يماثله، عن طريق تحويل الانظار والاتهامات إلى العدو الخارجي. ففي مؤتمر صحافي له (4 نيسان / أبريل)، بمناسبة قرب انعقاد مؤتمر الإعلام العربي، ببغداد، حذر الوكيل الأقدم من أن «الإعلام العربي عمل كثيرا على تشويه صورة بغداد… صورة سوداوية صنعها إعلام مضلل وموجه ضد بغداد».

 هنا يختار الشاعر المناضل، رسم صورة تبعد عنه شبهة التغريد للنظام واصفا كل ما يكتب عن النظام وجرائمه، من تقارير موثقة، بانها موجهة ضد بغداد وليس النظام. لم يعد يكفي ان يقدم نفسه راعيا للعراقيين، مستعدا للشهادة من اجلهم، بل تلبسته شخصية الداعية لتطهير بغداد من الدنس الذي اصابها من الخارج / من العرب، من «الضباب واللون الاسود الكالح الذي يغلفها في الذهنية والرؤية العربية « وتحريرها من كونها « مجهولة ومبهمة، ولغزا كبيرا بالنسبة للعرب»؟.

في خطابه الصحافي، يصبح الجابري، نموذجا للمثقف / الموظف، كائنا يستحوذ عليه وهم امتلاك الحكمة والحقيقة المطلقة. فهو يتهم ويحذر ويوجه الموعظة. انه يرشد الإعلام العراقي ليكون «حذراً ودقيقاً في نقل الصورة والواقع العراقي المضيء.. وما تحقق بشكل نفتخر به «، دون ان يخطر بباله التساؤل عما تحقق بالضبط، خلال شهور اعادته إلى وظيفته، من انجازات ثقافية وسياسية واقتصادية وفي مجال القضاء على الفساد مما يتوجب على العراقيين الافتخار به. هل يتسع المجال لسرد حجم الخراب الذي ساهم في انجازه وجعل بغداد «المكان الأسوأ في العالم لمعيشة البشر» حسب دليل ميرسر وليس الإعلام العربي كما يدعي ؟.


ليس الجابري، فريدا من نوعه كواعظ – إعلامي. انها «مهنة تدر على صاحبها الأموال»، كما يذكر عالم الاجتماع علي الوردي، و « جلاوزة القلم» لا يقلون سوء عن «جلاوزة السيف»، لكن معرفة هذه البديهيات المتراكمة عبر العصور عن مسائل جوهرية، ومنها ما يتعلق بدور المثقف الانساني والمعرفي، لا تعني القبول بها، بل ضرورة رصد استمراريتها، واتخاذها أشكالا جديدة تتغير بتغير العصر وأدواته .


0 التعليقات: