أخر الأخبار

.

الصحافيون ألسنتهم طويلة




الصحافيون ألسنتهم طويلة




عراق العروبة
هيثم الزبيدي


الصحافيون ألسنتهم طويلة. لا تجد سياسيا إلا ويشتكي من الصحافيين . هذا تاريخهم مع الصحافة منذ تأسيسها بصيغتها الورقية. ربما يمكن القول مجازا إن الجيل الأول من الصحافيين، وهم الشعراء، كانوا أيضا سليطي اللسان .

هذه ليست قلة أدب من الصحافيين، بل لأن ثمة ما يتوفر بين أيديهم لنقل ما يقولونه أو يكتبونه. الصحافة وسيطها الورق والطباعة والتوزيع والانتشار: الميديا بلغة العصر الحديث. الصحافي يستطيع أن يقول الكثير وأن يصل بصوته أبعد كثيرا من دردشات المقاهي وحلقات “القال والقيل” التي ظلت سائدة إلى حين بروز الصحافة الورقية المطبوعة .

كلما تحقق الانتشار، زادت سلاطة لسان الصحافيين وزادت جرأتهم. مصطلح “السلطة الرابعة” نشأ على هذا الأساس. بل إن سلطتهم أهم من السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية. هم غير مسائلين تقريبا، إلا من ضمن معايير يضعونها لأنفسهم .

الورق كان البداية، ثم جاء الراديو وبعده التلفزيون. والراديو والتلفزيون بدورهما تجاوزا الموانع الجغرافية، أوّلا عبر البث على الموجات القصيرة على الراديو، ثم عبر الفضائيات مع التلفزيون. الصحافي، بشكله الجديد كإعلامي، صار سلاحا عابرا للقارات. الإنترنت زادت الأمر اتساعا وعوضت العثرات التي كان الورق يعانيها بشأن التوزيع، ماليا أو رقابيا.


في عالمنا العربي، الإعلامي على الشاشة صار “فتوّة” وفق التعبير المصري . يصول ويجول ويقول. والسياسيون، بل وحتى الدول، تخشى لسانه. والناس صارت تردد ما يقوله، بصدقه وتلفيقه .

هنا ولدت الشعبوية الجديدة. بدأت مع مجالس تعقد تلقائيا لمشاهدة “الفتوّة” وهو يطيح بالسياسيين والمثقفين أرضا من على شاشات الفضائيات. كانت الحوارات الشعبوية تدور حول ما قيل في الندوة التلفزيونية أو المقابلة. لكن الشبكات الاجتماعية سرعان ما حرّرت تلك الحوارات من تحديدات اللقاء حول شاشة التلفزيون في بيت أو مقهى. اكتشف الجميع أن بوسعهم أن يكونوا سليطي اللسان، ربما أكثر من أيّ “شبّيح” تلفزيوني معروف.

الشعبوية الجديدة تستمد قدرتها من المجموع. لا توجد ضرورة لخروج التظاهرات كما كان يحدث أيام زمان. تستطيع أن تشن حملة واسعة النطاق عبر التويتر أو الفيسبوك. تستطيع أن تتهم أيّ شخص بأيّ شيء. يمكن أن تنشئ #هاشتاغ (أو وسم كما صار يعرف) وترميه على مجموعات هنا وهناك. خلال ساعات، يصبح حديث المجالس.

الشعبوي الجديد سليط اللسان بتكوينه. يعني لو كان “متأدبا”، ما كان سيدخل في المعمعة التشهيرية التي كانت حصرا على الصحافيين. السياسي كان خجولا في الردّ على الصحافي. يحاول أن “يبعد عن الشر ويغنّي له”. السياسي يستطيع أن يردّ على صحافي مرة أو مرتين. ولكن هناك الكثير من الصحافيين والكثير من المنابر الإعلامية من صحافة وتلفزيون. صار يكتفي بالرد على كبائر الاتهامات. أما صغائرها فيبلع لسانه أمامها ويسكت. السياسي كان يبدو منكسرا أمام هجمات الإعلام. الصحافي تعلم أن يتفرعن على السياسي وأن يسومه سوء العذاب.

الشعبوي الجديد تعلّم جيدا درس العلاقة بين الصحافي والسياسي. ما كان يفعله الصحافي بالسياسي وينجو معه بفعلته، في الغالب، صار الشعبوي يفعله مع الصحافي. صار من النادر أن يكتب الصحافي مقالا دون أن يتوقع ردود فعل كثيرة. الشعبويون صاروا بالمرصاد لكل فكرة لا تعجبهم، خصوصا وأنهم تعلموا أن لا يعجبهم الكثير وأن الانتقاد أسهل من المديح وأكثر استقطابا لجموع الشعبويين. سحر الانتقاد انقلب على الصحافيين ووجدوا أنفسهم ضحايا الحرية في إبداء الرأي ورصد الإخفاقات والفساد التي يفترض أنهم السلطة التي تحرس تلك الحرية.

هذا انقلاب كبير. فالصحافي اليوم محاسب أكثر من أيّ وقت مضى. كان الحساب في السابق محدودا وعبر تهم القذف التي نادرا ما تصل إلى المحاكم. اليوم هو أمام محكمة قيم يومية.

منْ تعلّم من الشعبوي الفرد هذا الفن الجديد في الانتقاد والرد وسلاطة اللسان؟ إنه السياسي. لقد اختار أن يكون شعبويا لاستكشافه هذا الوسيط المرعب في مواجهة الصحافيين، بل ولكلّ من يتقوّل عليه أيّ شيء.

إن كان هناك من عبرة يمكن أن نستخلصها من الانتخابات الأميركية التي أوصلت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض هي أن السياسي الجديد هو سياسي شعبوي، لا يعير أدنى التفاتة إلى قيم الرجولة أو إلى الكياسة واللباقة في الكلام، ويمكن أن يقول أيّ شيء وأن يقال عنه أيّ شيء وسيردّ عليه بلا تردد.

دارت الدائرة وعادت إلى حيث بدأت . السياسي اليوم، بشعبويته المستكشفة حديثا، هو الأقوى في المعادلة لأنّه لم يعد أسيرا، لا لمنظومة القيم التي كانت تحكم العملية السياسية ككل، ولا للأدوات الإعلامية التقليدية التي ظلت لعقود طويلة محتكرة بأيدي القلة. إنه عصر جديد .




0 التعليقات: