أخر الأخبار

.

ما طبيعة التسوية الحقيقية المطلوبة في العراق؟


ما طبيعة التسوية الحقيقية المطلوبة
في العراق؟




عراق العروبة
يحيى الكبيسي



يتصاعد الحديث عن التسوية التاريخية، او المصالحة الوطنية في العراق، وهذه المرة يتجدد هذا الموضوع استجابة لمشروع تقوده بعثة الأمم المتحدة «يونامي»، التي طلبت من جميع الفرقاء السياسيين تقديم أوراق تعكس رؤيتهم لمعالجة الازمة السياسية في العراق، على ان تقوم «يونامي» في مرحلة لاحقة بانتاج ورقة نهائية تستند إلى هذه الاوراق، تكون هي بدورها ورقة عمل لمفاوضات مباشرة بين هذه الأطراف، للوصول إلى التسوية او لمصالحة المنشودة .

من الناحية المنهجية، لا بد للاوراق التي تتقدم بها كل جماعة أن تعطي توصيفا دقيقا لطبيعة الازمة في العراق، ومن ثم تعرض رؤيتها للحلول التي تراها لمعالجة الازمة. ما نجده في الورقة التي تقدم بها التحالف الوطني «الشيعي» انها تغافلت عن هذه الخطوة المهمة تماما! ويبدو الإغفال متعمدا بالنظر إلى عدم استعداد الفاعل السياسي الشيعي لمعالجة الأسباب الجوهرية للأزمة، بل الاقتصار على انتقاد أعراضها .

ويبدو أيضا، ان الفاعل السياسي السني، لا يزال غير قادر على إنتاج رؤية صلدة، ومنتجة، بسبب من التقاطعات الشديدة في الرؤى بين أطرافه المختلفة من جهة، وبسبب رغبة الغالبية العظمى من أطرافه، والتي تؤمن بمقولة «فقه الهزيمة»! في عدم طرح معالجات حقيقية حتى لا يصطدم بالفاعل السياسي الشيعي، وما قد يترتب على ذلك من «مخاطر»! وبالتالي الاجتهاد في تحسين شروط هذه الهزيمة، وليس رفضها من حيث المبدأ! خاصة وان السياسة التي يعتمدها الفاعل السياسي السني كانت دائما قائمة على توازن قلق بين مصالح جمهوره الحقيقية ومصالحه الخاصة، وكانت دائما تنتهي إلى اعتماد اقتصاد سياسي يستثمر الطائفة لغايات شخصية بحتة.

من وجهة نظرنا، لابد لأي تسوية/ مصالحة أن تنطلق من الاعتراف بأن الأزمة جوهرية في العراق هي أزمة سياسية، وان الازمة الأمنية هي مجرد ناتج حتمي للازمة السياسية تلك. وأن النظام السياسي الذي انتج بعد عام 2003، وتم تكريسه مع دستور عام 2005، والذي أنتج ما يمكن أن نسميه «مشكلة السنية» في العراق، لم يعد قابلا للاستمرار، لعوامل ذاتية بحتة تتعلق بالخلل البنيوي في هذا النظام. ومن ثم لا بد من إعادة هيكلة النظام السياسي القائم بمشاركة المكونات العراقية دون أي هيمنة او إقصاء .

ولأن «تغيير» الدستور العراقي، أو «تعديله» هو امر مستحيل اليوم، كان لا بد من الاتفاق على «وثيقة موازية للدستور»، تحدد طبيعة النظام السياسي الجديد وتضمن المشاركة الحقيقية للمكونات العراقية كافة في السلطة والثروة، على غرار وثيقة الطائف التي انهت الحرب الاهلية اللبنانية. وثيقة لها علوية الدستور نفسه، ولا تتنازع معه، تعيد صياغة النظام السياسي من جهة، و تعالج ثغرات الدستور التي تم استغلالها بصورة منهجية في بناء ديكتاتورية الأغلبية الديمغرافية المفترضة، وفرض هوية أحادية على الدولة من جهة ثانية .

إن اختلال علاقات القوة في العراق اليوم، لا يتيح الركون إلى تسوية/ مصالحة داخلية لذلك لا بد من مؤتمر تشارك فيه الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الاوربي، ودول الإقليم جميعها، فضلا عن الأمم المتحدة، وان تقوم هذه الاطراف بضمان أية نتائج ينتهي اليها المؤتمر. ولا يمكن للمجتمع الدولي، أن يتنصل عن هذه المهمة، لأنه كان الفاعل الرئيسي في انتاج النظام السياسي المختل القائم حاليا ومنحه الغطاء الشرعي، ومن ثم عليه التزام اخلاقي وسياسي بتصحيح هذا الخلل .

على سبيل المثال ستعالج الوثيقة إشكالية احتكار الفاعل السياسي الشيعي، عبر منصب رئيس مجلس الوزراء، القرار العسكري والامني في العراق، من خلال تحديد صلاحية القائد العام للقوات المسلحة التي وردت في المادة 78 من الدستور، التي نصت على أن «رئيس مجلس الوزراء هو المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للدولة، والقائد العام لقوات المسلحة.»..، والتي تم تأويلها على انها سلطة مطلقة، ولا حدود لها، جعلت مجلس النواب نفسه، وهو السلطة الاولى في الدولة، باعتبار ان النظام السياسي في العراق نظاما برلمانيا، جعلته محيدا تماما تجاه هذه المسألة! وذلك عبر تشكيل مجلس أعلى للأمن الوطني، يشترك فيه رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، فضلا عن رئيس مجلس الوزراء، وعدد من الوزراء والدوائر ذات الصلة، ولا يكون لرئيس مجلس الوزراء سوى صوت واحد. مثل هذا التحديد يجد حجته الدستورية في المادة 110 من الدستور نفسه التي قررت أن: «وضع سياسة الامن الوطني وتنفيذها» هي من الصلاحيات الحصرية للسلطات الاتحادية التي يمثلها رئيس الجمهورية، ومجلس الوزراء، ومجلس النواب مجتمعين .

لقد استند النظام السياسي الذي أنتجه الأمريكيون في العراق بعد 2003 إلى فكرة أن العراق بلد تعددي لا يمكن أن يحكم إلا من خلال الشراكة، تحديدا بين المكونات الرئيسية الثلاثة: الشيعة والسنة والأكراد. لذا عمدوا إلى نقل الأنموذج الذي يعرف في مجال العلوم السياسية بالديمقراطية التوافقية، أو على الأقل بعض مبادئه الرئيسية (الحكم من خلال ائتلاف واسع؛ الفيتو المتبادل؛ التمثيل النسبي؛ درجة عالية من الاستقلالية لكل مكون في ادارة شؤونه الداخلية الخاصة). من خلال «مجلس الحكم» الذي تم تشكيله في 12 تموز/ يوليو 2003، والذي اعتمد على «التصورات» الأمريكية لحجم هذه المكونات (نصف + واحد للشيعة، وعشرون ٪ لكل من السنة والكرد، والبقية للأقليات)، أو من خلال «قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية» الصادر في 8 آذار/ مارس 2004. ولكن عملية كتابة الدستور انتهت، بسبب من اختلال التمثيل والقوة في اللجنة التي كلفت بكتابته، إلى خطة منهجية لرفض هذا الأنموذج، فالقراءة الدقيقة للدستور وتحليل مواده تكشف عن نظام سياسي قائم على أساس أنموذج «أكثروي» ـ نسبة إلى الأكثرية بالكامل. وهذا يعني أن «الأكثرية الديمغرافية»، من خلال تمثيلها في البرلمان لديها القدرة، ولو نظريا، على احتكار السلطة .

وحيث أن الأحزاب، والحركات، والكتل، والكيانات السياسية العراقية الفاعلة، جميعها بلا استثناء، بنيت على أسس هوياتية، اثنية او دينية او مذهبية، فان طبيعة الصراع بينها لم يتعلق بخلافات سياسية او خلافا في الأيديولوجيات او برامج العمل، وإنما كان صراعا أكثر عمقاً يعكس انقسام الذاكرة، وانقسام الرؤى، بين كيانات تستمد وجودها وديمومتها من الهويات الأولية، ومن ثم فهي حريصة على استثمار الانقسامات، وتكريسها .

هذا البعد الهوياتي في التمثيل السياسي أنتج تماهيا تاما بين الأكثرية السياسية الممثلة برلمانيا والأكثرية الديمغرافية المفترضة، وأنتج في الوقت نفسه خطابا سياسيا يشرعن «حق» هذه الأغلبية في «الحكم»! وهو الذي انتج في النهاية «ظاهرة المالكي» السياسية! أي ظاهرة انفراد الفاعل السياس الشيعي بالسلطة (احتكار القرار العسكري والأمني، واحتكار القرار الاقتصادي، واحتكار العلاقات الخارجية، وتحييد السلطة التشريعية، ومصادرة استقلالية السلطة القضائية واستخدامها كأداة سياسية، والهيمنة على الهيئات المستقلة). وقد شكلت البنية الريعية للاقتصاد العراقي، القائم على ريع النفط، عاملا مساعدا في نجاح هذه الظاهرة وترسيخها .

في النهاية لا يمكن الحديث عن تسوية/ مصالحة حقيقة، من دون معالجة هذه الاختلالات الجوهرية في النظام السياسي نفسه، وليس معالجة الأعراض والنتائج التي أفرزتها هذه الاختلالات، ولا يبدو لي ان ثمة إرادة حقيقية للاعتراف بهذه الحقيقة! والمفارقة هنا ان الفاعل السياسي السني نفسه ليس على استعداد لتحمل «مخاطر» هذا الاعتراف! لأن ذلك قد يطيح به تماما، في ظل قدرة الفاعل السياسي الشيعي الفعلية على تصنيع «نخبة» سنية بديلة في أية لحظة! لكن ما يغفل عنه الفاعلان هنا، أن الوضع القائم سيبقى دائما منتجا للعوامل الموضوعية لعدم الاستقرار، ومنتجا لمحاولات تصحيح الاختلالات بالعنف في حال فشل السياسة، وبالتالي بقاء العراق في وسط حلقة مفرغة من الصراعات ! .


0 التعليقات: