أخر الأخبار

.

حوار مع الروائي العراقي محمد حيّاوي






«خان الشابندر» لخّصت مأساة واقعنا الجديد: الروائي العراقي محمد حيّاوي: الكمال البشري وهم زائف ومفهوم الفضيلة نسبي






عراق العروبة
حوار / صفاء ذياب


الروائي العراقي محمد حيّاوي



 على الرغم من معرفة الوسط العراقي بالقاص والروائي محمد حيَّاوي خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، غير أن هذا الاسم كاد ينسى بعد انقطاعه عن التواصل وعن الواقع الثقافي العراقي لأكثر من عشرين عاماً، ففي تسعينيات القرن الماضي غادر حيّاوي العراق ليستقر في هولندا، وعلى الرغم من استقراره هذا لم يدخل عالم الكتابة مجدداً، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فعمل في التصميم الغرافيكي، وحصل على درجة الماجستير فيه .


بعد كل هذه السنوات ظهر حيّاوي مرّة أخرى في بغداد عام 2012، ليعود مرةً أخرى ويسافر، إلا أن سفره هذا أعاده من جديد من خلال روايته التي صدرت عن دار الآداب في بيروت «خان الشابندر» تلك الرواية التي كُتب وقيل عنها الكثير، من خلال مغايرة موضوعها وأسلوبها . عن السفر والحياة العراقية والعمل الروائي.. كان هذا الحوار: 

■ عُرفت كقاص ومصمم في ثمانينيات القرن الماضي، غير أن خروجك من العراق جعلك تبتعد عن الكتابة لأكثر من عشرين عاماً .. لماذا كان هذا الابتعاد ؟ وما الدوافع التي جعلتك تعود برواية جديدة ؟

□ في الواقع أخضعني خروجي من العراق مطلع التسعينيات إلى حالة مراجعة وتأمل لتجربتي في الكتابة والتصميم، كما أنَّني انغمرت في دراسة اللغة الهولندية والتصميم الغرافيكي كاختصاص دقيق وجديد تماماً في عالمنا العربي، حتّى أنجزت دراستي فيه ونلت درجة الماجستير في «البنية المعمارية للحرف اللاتيني» و«توظيف الرموز الدينية في التصاميم الحديثة»، وعلى الرغم من النجاحات التي حققتها على الصعيد الشخصي وعملي لأكثر من 12 سنة محررا ومصمما في جريدة «التلغراف» العريقة، إلاّ أن الأمر أخذ مني الكثير، خصوصاً على صعيد تجربتي في الكتابة باللغة العربية التي انقطعت عنها للأسف على مدى أكثر من عشرين سنة، كنت خلالها أتوق وأتحرق للعودة إلى عالمها الآسر، ناهيك عن إصابة مخيلتي بالعطب في المنفى، ولم أشأ الكتابة عن الحياة في الغرب، لأنني شعرت لسبب أو لآخر بأنَّها لن تكون صادقة وعميقة ما لم أعد لحاضنتي وملعبي الحقيقي في العراق، حتى أتيحت لي فرصة العودة للعراق عام 2012، فكانت تلك الزيارة بمثابة الصعقة التي أيقظت مخيلتي وحفّزتها على الكتابة من هول ما رأيت من متغيرات جذرية وعميقة حصلت لمجتمعنا وطبيعة العلاقات بين الناس والمحن التي تعرض لها الإنسان العراقي، فكانت أولى نتائج تلك العودة كتابة روايتي «خان الشّابندر» التي حاولت أن أرصد بواسطتها تلك المتغيرات والإهانة الكبيرة التي تعرضت لها المرأة العراقية تحديداً، ثم تبعتها بروايتي الثانية، التي هي قيد النشر، والتي لا تكاد تبتعد كثيراً عن موضوع «خان الشّابندر».

■ سعيت في روايتك «خان الشابندر» للبحث عن الكمال الزائف كما أعلنت ذلك.. لماذا الكمال كان زائفاً؟ وهل هنالك كمال يمكن أن يكون واقعياً وسط الفوضى التي نعيشها ؟

□ في المجمل شهدت الشخصية الشرقية عموماً والعراقية على وجه الخصوص، ازدواجاً نفسياً مريعاً منذ مطلع القرن العشرين، وما رافقه من متغيرات سياسية وتقسيمات جغرافية، وقد ساعدت التداخلات الدينية وتعددها وتناقضها في الكثير من الأحيان على ترسيخ تلك الازدواجية، وصار أغلب الناس لا يظهرون حقيقتهم في المحيط الذي يعيشون فيه، وأصبح تمثل التدين مثلاً أو السمعة الاجتماعية الجيدة على حساب طبيعة النفس البشرية. إن الكمال الذي قصدته في الرواية هو ذلك الوهم الذي يسعى له الكثيرون لدواعٍ اجتماعية أو ظاهرية مزيفة، بعد أن طرحت الرواية سؤالاً مهماً مفاده، من هو الأقرب للفضيلة؟ رجل الدين المخادع الساعي للتشدد وإشاعة مفاهيم القتل والدمار؟ أم العاهرة التي هي في المحصلة ضحية كبرى لتلك القيم الزائفة؟ لاسيما حين نشاهدها تدير بيت الأطفال المشرّدين وتنفق عليه مما تحصل عليها من البغاء. الرواية اعتمدت بعداً فلسفياً صوفياً معروفاً يلتقي إلى حد ما بمعتقدات الديانة المندائية القديمة، خلاصته تقول إن الله موجود في قلوب البشر فلا تبحثوا عنه في أماكن أخرى بعيدة .

■ ما زالت الرواية العربية رواية مكان بالدرجة الأولى، وهذا ما قدمته أنت أيضاً في روايتك حتى كان اسمها يحيل إلى مكان قديم معروف في بغداد.. كيف ترى هذا المكان؟ وما الرؤى التي قدمتها من خلالها ؟

□ مفهومي لقضية المكان يتركز بالدرجة الأساسية على المفاتيح المخيلاتية التي يمنحها لي ذلك المكان تحديداً، وفي أغلب قصصي ورواياتي كنت قد حصلت على الومضة الأولى لها بسبب زيارتي لمكان ما، فالزمن إحساس سرمدي ومرن يمكن التلاعب به وتطويعه، لكن المكان هو الوعاء الواقعي للخيال. يعتقد باشلار مثلاً أن البيت عبارة عن علية وقبو وما بينهما. إن الأسباب التي تجعلنا ننزل للقبو أو نصعد للعلية هي بمثابة حزمة العلاقات والتناقضات الكبرى الناجمة عن حياتنا في الحيز الذي نعيش فيه، وانطلاقاً من رؤيتي هذه أجدني ميالاً لاختيار عناوين أعمالي مكانياً. أحياناً أتخيل الأمر على هذا النحو، شجرة سدر ضخمة تعيش فيها مئات العصافير، حين تُجذع تلك الشجرة وتختفي تظل العصافير محومة في الفضاء الذي كانت تنتصب فيه الشجرة، هذه بداية خلق اليوتوبيا في الواقع. خان الشّابندر المُهدّم والمُهمل أو المهجور حرضني على إعادة الحياة فيه وصنع يوتوبيا من الخيال المطلق، لكنها تستند في الوقت نفسه إلى جذر واقعي هو بقايا الخان .

■ ما التقنيات التي حاولت تقديمها في الرواية؟ وهل قدمت بنية جديدة مغايرة للرواية العراقية الآن ؟

□ الرواية العراقية ما قبل التغيير في عام 2003 غيرها عما هي عليه بعده، وفي الغالب كانت التجارب الروائية السابقة مهادنة وحذرة لا تكاد تبتعد كثيراً عن الواقعية التي طبعت أعمال فترة الستينيات والسبعينيات، حاولت تلك الأعمال أن تعكس الواقع مثل مرآة مخلصة، لهذا فهي من وجهة نظري ركزت بالدرجة الأساسية على الإمتاع أكثر من الإدهاش. أما الرواية العراقية الجديدة فهي أكثر جرأة في تناول الموضوعات وأكثر تطرفاً في التجريب على صعيد المضامين، وبالتالي هي أكثر إدهاشاً. في ما يتعلق بأسلوبي الروائي، أحاول دائماً تطويع الخيال المطلق أو المفتوح وإخضاعه لمتطلبات الواقع المبطن . أعتقد من الصعب الحديث عن تلك الرؤية تنظيرياً، لكن من يقرأ روايتيّ الأخيرتين سيدرك ما أقصده بالتأكيد، وبالتالي نعم .. أعتقد أنَّني أحدثت منعطفاً ما في التكنيك السردي كتب عنه الكثير من النقاد، لاسيما في «خان الشابندر» التي كُتب عنها أكثر من سبعين مقالة ودراسة نقدية منذ صدورها مطلع العام الماضي .

■ بعد اغتراب تجاوز العشرين عاماً ما التحولات التي رأيتها في العراق عموماً وبغداد على وجه الخصوص؟ وكيف استعدت هذه التحولات في عملك هذا وستستعيده في أعمالك المقبلة ؟

□ كانت صدمتي كبيرة للغاية في الواقع، فالأماكن التي كانت مرسومة في مخيلتي كما تركتها في التسعينيات وجدتها هرمة، والمدينة كما لو كانت قد تعرضت لأمطار حامضية قصرت ألوانها المبهجة وطغى لون التراب عليها، كما تقلصت المساحات الخضراء واختفت الأشجار من الشوارع أو كادت، أما العلاقات الاجتماعية فقد تغيرت تماماً نتيجة لتخريب البنية الديموغرافية لمجتمع المدينة الذي كان قائماً على التكامل والتسامح وتقبل الآخر والإيثار. نعم.. لقد احتفظ الناس البسطاء بطيبتهم وعفويتهم إلى حد ما، لكنهم باتوا متوجسين من المستقبل، ويغلب اليأس والحذر على سلوكياتهم كردّة فعل عفوية للشعور بعدم الاطمئنان والخوف واليأس. الإنسان العراقي تعرّض إلى عملية انسحاق طاحنة وامتهنت كرامته منذ أيام الحصار الاقتصادي الظالم الذي فرض على العراق لأكثر من ثلاثة عشر عاماً، ثم جاء الاحتلال وما نجم عنه من موبقات سياسية ليقضي على البقية الباقية من ثقته في نفسه وفي بلده. في الواقع مثل تلك المتغيرات العميقة والمؤذية لا يمكن تناولها في عمل روائي ما بسهولة، لأن الأمر يتطلب عينا راصدة ومتفحصة ودقيقة لاستلهامها وتجسيدها في الأعمال الإبداعية عموماً. في روايتيّ الأخيرتين حاولت جاهداً ابتكار معالجة مختلفة بواسطة تسليط الضوء على الشرائح الأكثر هشاشة في المجتمع، وبالتالي الأكثر تأثراً وانسحاقاً، كالمرأة والطفل وشريحة المثقفين الذين فقدوا ارواحهم أو بوصلتهم في خضم الأحداث المتلاحقة التي لم تترك لهم فسحة للتأمل والتقاط الأنفاس .

■ هل تعتقد أن الكم الهائل من الرواية العراقية منذ عام 2003 سجّل وجود هذه الرواية فعلاً؟ وهل بدأت تتشكّل لدينا تقاليد روائية حقيقية ؟

□ على الرغم من أن الإفراط في الإصدار الروائي ليس علامة عافية من حيث المبدأ، لكنني أرى الأمر من زاوية أخرى هي أن كثرة الكتابة الروائية، على علاتها، قد تخلق نوعاً من الدربة في الواقع، لكن هذا لا يعني أن مئات الروايات العراقية التي صدرت بعد عام 2003 مستوفية للشروط الفنية، ولو تمكنا من تحديد عشرين أو ثلاثين رواية جيدة من بينها سيكون إنجازاً مهماً للرواية العراقية، وفي جميع المراحل ظلت الكتابة حاجة إنسانية قبل أن تكون إبداعية، وثمة الكثير من التفصيلات التي عاشها الناس تتطلب التدوين، وإن بطرق مختلفة ومتباينة في المستوى، لكن ليس بالضرورة أن تكون روايات محكمة تعتمد الشكل الفني واللغة المتينة . إنَّ الزمن كفيل بفرز الجيد من تلك التجارب في حال صمودها وبقائها شاخصة في أذهان القرّاء، ناهيك عن تحقيقها الانتشار الجيد والفحص النقدي الدقيق، إن كمية ما صدر من روايات في فترة زمنية محدودة لا يمكن لأي نقد مواكبته، لهذا يلجأ الكثير من النقّاد والمتابعين إلى التجارب التي تترك صدىً مناسباً في الغالب. لكن هذا لا يمنع من اكتشاف مواهب شابَّة جديدة دخلت عالم الرواية في العراق قد يكون لها شأن في السنوات المقبلة عندما تكتمل أدواتها وتنضج تجربتها.

■ التصميم الغرافيكي شكّل جانباً مهماً من حياتك، حتى أنه كان عملك وفنك الذي عوضّت من خلاله ابتعادك عن الكتابة.. ما أثر هذه الفنون في البنية السردية لأعمالك؟

□ الفن الغرافيكي فن جديد تقريباً، خصوصاً في عالمنا العربي، وهو يعتمد بالدرجة الأساسية على تطويع الفنون البصرية لحاجات الناس اليومية، وهو منتشر من حولنا أكثر من أي فن آخر، ونستطيع أن نجده في الشوارع متمثلاً في الإرشادات المرورية وشعارات المطاعم وتخطيطات الطرق والأرصفة والمحطات وغيرها، ناهيك عن استخدامه كأداة تعبيرية مباشرة على الجدران في أغلب مدن العالم، لكن الجانب التقني منه والمتعلق بالبرمجة واستخدام التقنيات الحديثة هو الأصعب في الواقع، ونتيجة لتعمقي في دراسة هذا الفن فقد تغيرت ذائقتي الجمالية وإحساسي بالكتل والأمكنة والألوان، كما أدركت هيمنة الفيزياء الطبيعية كمعلم فذّ على صعيد تدريب العين لاستنباط المقترحات اللونية، فعلى سبيل المثال ثمَّة اللون الأبيض الذي من دونه لا قيمة لجميع الألوان الأخرى، وهناك الأخضر الذي يوجد في الطبيعة من حولنا بملايين التدرجات، وهناك التوازن الهش، لكن الضروري بين كتل الأشجار والمباني وتناسبها مع الحجم الطبيعي لكتل البشر، لقد استفدت فائدة قصوى من دراستي للغرافيك في فهم أثر الزمن على الجدران مثلاً أو تقوّض فضاءات الحوش البغدادي القديم وانفتاحها على السماء .

إن إطلالة نخلة ما من البيت المجاور على الباحة وسقوط ظلها المهادن على حجر الأرضية، أو العلامات القديمة التي كان يتركها المساحون على الجدران بطرق عشوائية، وتقشّر الغلاف الجصّي عن الآجر في مساحات معينة بفعل الرطوبة، جميعها مفردات جمالية وفلسفية عميقة بالنسبة لي لفهم المكان وطغيانه في العمل الأدبي .



0 التعليقات: