الهوامش السردية
الهوامش السردية
عراق العروبة
وارد بدر السالم
لا يهتم الأدب العربي بشكل عام بالمهمل اليومي الذي لا تقع الأنظار عليه واقعاً وكتابةً، بمعنى ثمة أشياء يومية كثيرة تصلح للكتابة والتأويل وتفكيك عناصرها وإيجاد زوايا الكتابة لها بمؤثرات الخيال المدرّب على التقاط أدق الأشياء وأكثرها ابتعاداً عن أنظار الكتّاب، لا سيما الذي يهتم منهم بالسرد لتجسير العلاقات اليومية وإخضاعها لجماليات الكتابة، مثلما فعل رولان بارت في “أسطوريات” وغاستون باشلار في “جماليات المكان” الذي لا غنى لنا عنه في قراءة المكان والبيت والعليّة والعش وكل مكونات المكان الصغيرة الهامشية غير اللافتة للأنظار إلا بقدر وجودها الشكلي والضروري في المكان – البيت .
في البيت الكثير من الهوامش والمتون توثّق نسقية تراتبية تبدأ من الأكبر إلى الأصغر قد لا تكون كافية لتملأ سرداً روائياً طويلاً من وجهة نظر كاتب روائي مشغله النثر وخياله والتحليق بذكريات البيت، بإضافة الخارج وتداعياته الطويلة التي لا تنتهي وهذا يستدعي الماضي ومعطياته المتراكمة .
غير أن كل مشغل عليه أن يهتم بالهوامش مثلما يهتم بالمتون من دون الحاجة الكبيرة إلى استدعاء الماضي بشكل مُلِح أو مقصود ولا يهرب منها بدعوى أن الهوامش مكتفية بذاتها ولا تحتاج إلى استطرادات أو تشخيصات فنية أكبر مما هي عليه، كموجودات البيت الصغيرة والناعمة التي لا تقع الأنظار عليها مثل الإبرة أو الملعقة أو المبراة أو القلم وحتى الكبيرة منها تُعد مهملة وغير ذات جدوى لو أخضِعت لمعالجات سردية كالسجادة والستارة والقنفة والثلاجة والمجمدة والطباخ وما إلى ذلك من مكونات صغيرة وكبيرة تشكل ما نسميه بالأثاث، تملأ البيت بغرفه وصالاته صغُر هذا البيت أم كبُر .
لكنّ الأمر لا يخلو من إهمال سردي وهو ليس كذلك بطبيعة الحال فكل شيء يمكن أن يكون فرصة واسعة لسردٍ أوسع باحتمالات أكثر اتساعاً وخيالاتٍ لا حدود لها، وهنا سنستدعي أفكاراً بهذه الموجودات بشكل سريع لتكون برهاناً على أن كل مهمَل صالح للكتابة، فالإبرة أنثى رشيقة القوام وهي كائن أعزل بالرغم من أنها مدببة جارحة. ويُنسب إلى الأمثال الشعبية أن الإبرة تخيّط الكفن وثوب العرس، أي أنها تجمع الحياة والموت، وفي عموم تأويلها تروي سيرة الحياة الخشنة بطريقتها الناعمة، أما الستارة فهي أنثى البيت وهي المشرف الأول على إطلالته الخارجية كونها “الحارس″ المباشر الذي يحجب الخارج عن الداخل، هذا الداخل الذي يكون منفلتاً في العادة من دون ضوابط مهيمنة عليه ما دامت الستارة هي المصد الأول له حينما تمنع عيون الخارج عنه وربما تحجب الأصوات أيضاً وبالتالي في الستر والساتر له .
السجادة أنثى أخرى من لوازم البيت ومكانها الصالات والمساحات المفتوحة إلى حد ما. والسجادة لا تعلّق نفسها بحوامل معدنية كالستارة إنما تنبطح على الأرض لتكون فراشاً وهي ذات مناشئ متعددة شرقية وغربية؛ بمعنى لها تواريخ مختلفة ترتبط بشعوب وأمم. ويمكن من هذا التقسيم إيجاد عناصر مساندة للوصول إلى الكثير من الجماليات التاريخية للسجادة .
أما القنفة فهي العنصر الوحيد في البيت الذي يكتشف الضيوف برؤيته المباشرة لهم كونه العنصر الأكثر التصاقاً بالحالة النفسية للزائرين، وهي ذات وظيفة اجتماعية وأخلاقية مزدوجة لذلك تعد أكثر العناصر البيتية جمالية لأنها “الوجه” المباشر الذي يستقبل الغرباء والضيوف ، وتبقى “المخدة” أحد أهم العناصر السرية في البيت فهي رأس الأفكار حينما تستلقي عليها الرؤوس في تجليات الأحلام اليومية المتكررة .
وهكذا يمكن أن نصنع سروداً متينة من هذه الهوامش غير اللافتة للأنظار ونجعلها متوناً ذات أنساق اجتماعية ووظيفية وجمالية متعددة .
لا تهربوا من الهوامش.. بل اجعلوها متوناً.
0 التعليقات: