الكتابة والغموض
الكتابة والغموض
أحمد برقـــاوي
يميز الثعالبي في كتابه “فقه اللغة” بين القول والكلام، فالقول يمكن أن يكون قولاً ذا معنى أو قولاً بلا معنى، فقولنا الدكتاتورية مدمرة للأوطان قول ذو معنى، أما قولنا الحجر كائن حي فهو قول بلا معنى، فيما الكلام قول يفيد المعنى .
ونحن نضيف بأن الكتابة إما أن تكون قولاً أو كلاماً، و في كل أحوال الكتابة من النادر أن يُكتب نص خالٍ من المعنى، ولكن ما أكثر النصوص الغامضة التي يجهد القارئ للوصول إلى معناها، وقد لا يصل. لكن الغموض في النص لا يعني خلو النص من المعنى، بل يعني أن المعنى ثاوٍ وراء النص. أما النص الخالي من المعنى فهو كقولنا الحجر كائن حي. والمعنى كلام مفيد يستطيع السامع والقارئ أن يفهما مقصوده، سواء جاء الكلام نصاً جمالياً أدبياً أو جاء نصاً فكرياً أو نصاً علمياً .
ومع ذلك يجب أن نميز بين أنواع الغموض في المجالات المختلفة التي ذكرت، فكل نوع له أسباب غموضه .
ولقد انتبهت العرب منذ القديم إلى أن المعنى في قلب الشاعر، لما في الشعر عادةً من الكلام الغامض. مع أن الشعر العربي عموماً حتى ظهور الشعر الحر ليس فيه من الغموض ما يذكر، وحتى شعر أبي تمام الذي اتهم بالغموض ليس غامضاً. ولقد ظهر الغموض مع الشعر الحديث .
يعود غموض المعنى في الشعر الحديث إلى الشاعر. فالشاعر إما أنه يتقصد الغموض، أو يعتقد أن معنى الصورة الشعرية التي في ذهنه قابلة للوصول إلى المتلقي ويكون الأمر على غير هذا. وفي الحالتين يفقد المتلقي القدرة على التواصل مع الغامض ويفقد المتعة في آن واحد. ويترك الشاعر شعره للمشتغلين بالنقد الأدبي فقط. فمهما كانت الصورة الشعرية تحتاج إلى تأمل فإنها يجب أن تصل إلى المتلقي ولا تظل مغلقة على فهمه .
وليس مفهوم المباشرة نقيض مفهوم الغموض، نقيض الغموض درجة من الوضوح تجعل النص قابلاً لاختراق وجدان المتلقي. أما المباشرة فهي تجعل الشعر شبيهاً بالشعر. أما الغموض في الفكر فإنه غالباً يعود إلى غموض الفكرة نفسها عند المؤلف، هذا إذا كان القارئ الشاعر بالغموض من المشتغلين بالفكر خاصة وأشكل عليه المعنى .
فالفكرة الواضحة تُقال بلغة واضحة، أما الغموض الذي يشكو منه القارئ العادي الذي تعوزه المعرفة بالعلوم الإنسانية فهو يعود إلى جهل القارئ وليس إلى نص الكاتب. أما تأفف العامة من الغموض الفلسفي فهذا لأن عدة الفلسفة ليست سوى مفاهيم ذات دلالات محددة عند هذا الفيلسوف أو ذاك أو في الفلسفة عموماً ولا يستطيع الجاهل بالمفاهيم هذه وبماصدقها أن يفهم النص الفلسفي فتقع الشبهة في الفلسفة بأنها تقول ما لا يفهم .
غير أن هناك أمراً طرحته الوضعية المنطقية حول الأحكام أو الجملة. فالجملة إما أن تكون صادقة وإما أن تكون كاذبة، أما الجملة التي لا هي كاذبة ولا هي صادقة فتلك التي لا معنى لها. وهذا أمر يحتاج إلى قول مستقل .
0 التعليقات: