صحيفة الزمان في عيدها العشرين: وسطية واعتدال في أوضاع لا تريد الوسطية ولا الاعتدال
صحيفة الزمان في عيدها العشرين: وسطية واعتدال في أوضاع لا تريد الوسطية ولا الاعتدال
عراق العروبة
حسن سرمك حسن
مصادفة جميلة
كنتُ أهيء نفسي للكتابة عن ذكرى صدور جريدة الزمان الغرّاء، وأحاول أن أطرح فكرة “جديدة” عن تميّزها بين الصحف العراقية والعربية وعن نهجها الخاص في التعامل مع الواقع السياسي الصاخب في العراق والوطن العربي، فوجدت أن “وسطية” الزمان هي واحدة من أهم وأشد خصائصها التي تمنحها بصمة خاصة على خارطة العمل الصحفي العراقي. ومصادفة التفت إلى “إعلان” من إدارة الصحيفة احتل الخمس الأسفل تقريبا من صفحتها الأولى ليوم 9 نيسان 2017 وهو يحمل التنويه التالي :
الزمان .. 20 عاما من الثبات على الوسطية والاعتدال
فوجدت أن الفكرة المركزية التي نضجت في ذهني تتفق مع الهمّ الرئيسي لتنويه هيئة تحرير الصحيفة .
نظرة اجتماعية “نمطية” غير وسطية
وينبغي التنبيه هنا إلى مسألة شائكة تتعلق بالنظرة “النمطية” التي يحملها العقل الجمعي العراقي إلى موضوعة الوسطية والاعتدال ليس في العمل الصحفي فحسب بل في الموقف العام من المتغيرات المهمة في الحياة الاجتماعية وخصوصا في ما يتعلق بالموقف من التحوّلات السياسية التي تحصل على أرض الواقع وتتطلب رأيا وموقفا من ناحية وما يرتبط بنظرة المواطن العراقي إلى عملية إبداء الرأي الشخصي في تلك التحوّلات من ناحية ثانية مكمّلة للناحية السابقة. فقد طغت سمة “متطرفة” وخصلة حماسة فائقة على تعامل المواطن العراقي – وحتى من يعمل منه في مجال السياسة أو في حقل الصحافة – جعلته إمّا أن يعلن موقفا سلبيا في السياسة أو رأيا صادما صاخبا في الصحافة. ومن النادر أن تجد موقفا وسطيا أو رأيا موضوعيا هادئا ومعتدلا يقيّم الحوادث ويبين تأثيراتها السلبية والإيجابية بهدوء وروية. وترد إلى الذهن حكاية العراقي الذي حمل حجرين ليضعهما في حجر أساس الجامع الأموي في حين حمل جميع ممثلي الأمصار – وحتى الخليفة الوليد بن عبد الملك – حجرا واحدا فأربك هذا العراقي بحماسته الموقف مما جعل الخليفة يقول قولته الشهيرة : “يفرطون حتى في الطاعة”.
عام 1908 هناك 69 جريدة و20 مجلة !
وحين تقرأ تاريخ الصحافة العراقية حسبما سطره الراحل روفائيل بطي في كتابه “الصحافة في العراق” وتعلم أنّ طبقة واسعة من القرّاء قد نشأت في العراق في بداية القرن العشرين، وليس أدلّ على سعة هذه الطبقة من ذلك العدد الكبير من الصحف والمجلات التي صدرت في العراق بعد الأنقلاب العثماني الدستوري عام 1908، فقد بلغ عدد الصحف تسعاً وستين صحيفة. على حين بلغ عدد المجلات عشرين مجلة بين أسبوعية وشهرية !! فستدرك جانبا من نظرة المواطن العراقي ؛ قاعدة ونُخبة ، للكيفية “الهجومية والتنفيسية” التي يجب أن تكون عليها الصحافة. وهذا ما تكرّر في الفورة البركانية للصحف والمنشورات بعد الاحتلال البغيض. وكان الراحل الكبير علي الوردي يقول في كتابه دراسة في طبيعة المجتمع العراقي:
(يوصف الشعب العراقي الآن بأنه (يقرأ الممحي). وقد يكون هذا الوصف صحيحاً أو غير صحيح. ولكننا نعرف على أيّ حال أنه شعب (قارئ) فهو يلتهم الصحف والمجلات والكتب بنسبة أكبر مما تفعله الشعوب العربية الأخرى. وقد أدرك ذلك الناشرون في القاهرة وبيروت وحسبوا حسابه فهم يخصّصون للعراق مما ينشرون حصّة الأسد وأستطيع أن اقول ان الفرد العامي في العراق قد يفهم من الحقائق السياسية وأحداث العالم ما لا يفهمه الناس في كثير من البلاد (الراقية) فهو يتساءل عنها وقد يناقش فيها كأنها ذات مساس مباشر بحياته الخاصة…)
وتعزيزا لرأي الوردي ذكرت سلمى الجيوسي في كتابها اتجاهات الشعر العربي المعاصر أن العراق كان يستورد (12000) كتاباً من مصر و (500) كتاب من سورية سنوياً خلال عقد الأربعينات والخمسينات!!
صحيفة “لا تحمل حجرين”
وبأخذ هاتين المعلومتين/الخاصيتين؛ الاجتماعية/النفسية والثقافية (المواطن العراقي – تاريخيا – غير وسطي وغير معتدل ومتحمّس للجدال والمواجهة) بنظر الإعتبار تستطيع التساؤل كيف نجحت صحيفة مثل صحيفة الزمان وحافظت على جمهور متزايد من القراء العراقيين خصوصا وهي لا تنحاز ولا تصرخ وتشتم ولا “تحمل حجرين” !! هل راهنت على أن القارىء العراقي (يقرأ الممحي) ويستطيع معرفة الموقف الأصيل غير المنحاز بين طيات السطور؟ أم أنها تسلّحت بواحدة من أهم خصائص الصحافة في المجتمع الديمقراطي المتطوّر ودورها في الحياة الحديثة؟
تستطيع القول إن صحيفة الزمان قد تمسكت بدعامتي الموقف الصحفي المعرفي التربوي السليم.
لا وسطية في الموقف من عذابات العراق
لكن هناك نقطة مهمة جدا يجب التنبيه إليها وهي أن الوسطية والاعتدال لا تعني الإمساك الانتهازي بالعصا من الوسط كما تفعل محترفات الرقص الشعبي وبعض باعة الأقلام كما نلاحظ كل يوم على الساحة الصحفية العراقية والعربية حيث يسود منطق “وطني جيوبي ومدينتي حذائي” حسب التعبير الدقيق للمبدع الراحل محمد الماغوط . فقد احتفظت الزمان بموقف مركزي لا تشمله الوسطية ولا الاعتدال وهو الموقف من الوطن وقضاياه المركزية المصيرية. فلا يوجد في الموقف من عذابات العراق وشعبه الجريح المظلوم وسطية ولا اعتدال.
الإبداع العراقي يوحّد والسياسة العراقية تفرّق
وقبل أسابيع قلت للصديقين زيد الحلي وجواد الحطاب في جلسة خاصة إن الإبداع في العراق صار هو الخط الأخير للحفاظ على العراق وهويته. لا يستطيع أي عراقي اتخاذ موقف من السياب ونازك والجواهري وغائب طعمة فرمان وجواد سليم وخليل شوقي وغيرهم على أساس طائفي .. ولا أحد يستطيع أخذ جلجامش إلى ناحيته .. ولن يستطيع اي سياسي استغلال منجز الإبداع العراقي لصالحه . كلنا نقف تحت نصب الحرية مثلا مهما كانت ألواننا وأفكارنا وهوياتنا التي في جيوبنا.. الإبداع العراقي يوحّد والسياسة العراقية تفرّق. كان للمبدعين العراقيين – وما يزال – شرف أن يكونوا مجمع أفكار وإرادات ومواقف وأذواق وعواطف العراقيين. فهل ستكون هذه الصحيفة مجمع أفكار وإرادات ومواقف وأذواق وعواطف العراقيين؟ هذا ما لمسناه وننتظره من صحيفة الزمان بالتأكيد.
تحية محلصة لصحيفة الزمان الغرّاء في عيدها العشرين مع تمنيات صادقة بالتطور الصحفي الدائم والإبداع المتجدّد.
0 التعليقات: