أخر الأخبار

.

كيف تم تحويل الموصل إلى نصب شهيد



كيف تم تحويل الموصل إلى نصب شهيد



عراق العروبة
حامد الكيلاني



العراق لم يكن موحدا ومستقرا قبل دخول تنظيم داعش في يونيو 2014، فالإرهاب هو ذاته والتدهور والتراجع والميليشيات والخطف والجرائم والمفخخات وغياب الأمن والقتل على الهوية والانتقام والثأر والطائفية واغتيال العلماء وأصحاب العقول والكفاءات والتهجير واستهداف المناطق ونقاط التفتيش الوهمية واستخدام عجلات الدفع الرباعي لتنفيذ المهمات والتهديد والتلويح بالعنف وتنفيذه مع فساد مستشر وسرقات ووزارات للبيع ومناصب للسرقات والكثير جدا من الإخفاقات .

كل ذلك كان قبل داعش وعلى مدى 12 سنة من الحكومات المتعاقبة، وعملية سياسية نسخة طبق الأصل من أفكار وتوجهات الأحزاب التي لا دور يذكر لها سوى التآمر على العراق وتحفيز المجتمع الدولي على استمرار الحصار ضد شعبه، ثم استحوذوا على مقدرات البلاد بخدمة جاهزة قدمها الاحتلال لهم في أبريل 2003 .

بماذا تختلف الموصل عن المدن الأخرى قبل داعش؟ ثاني مدن العراق بتاريخها وكثافتها وتنوعها العرقي والديني، التعايش فيها مضرب الأمثال وهي حال معظم المدن بل أكثرها توغلا في بعدها الحضاري الممتدة شواخصه منذ 7 آلاف عام من التواجد الإنساني. الموصل شهدت توسعا معماريا كباقي المحافظات بعد التنمية الانفجارية في بدايات سبعينات القرن الماضي التي تلت إصدار قانون تأميم شركات النفط، ولهذا توجد مدينة قديمة وأخرى حديثة .

الموصل أريد لها أن تكون قِبلة للسياحة المحلية والعربية والدولية، فهي تزخر بالآثار الفريدة وبطيب مناخها في الربيع وبتحضُّر أهلِها وصفاتهم وانفتاح ثقافتهم بما شجع الدولة العراقية على توفير مستلزمات النهوض وتم تعيين علاء البكري محافظا عليها بثقافته ولتراكم خبرته في المشاريع السياحية، مع تدعيم جهده بشخصيات انتشرت مسؤولياتها من مركز المدينة إلى الأقضية وسهل نينوى بما فيه من تآخ وتقاليد متنوعة كانت أرضا خصبة لاحتفالات متعددة كان أهمها أم الربيعين بنهاراته ولياليه التي يحييها مشاهير المطربين والفنانين العرب وبحضور مدعوين من مختلف أنحاء العالم .

تطلب ذلك خططا وبرامج عمرانية لبناء الفنادق والمرافق السياحية، لكن ما أصاب العراق من توقف في التنمية مع بدء الحرب الإيرانية بمجيء نظام الملالي الذي لم يتأخر طويلا باستعراض نياته باحتلال البلاد التي قدمت له الرعاية واحتضنته لأعوام مع جمع من أتباعه، أصاب الموصل بتوقف عجلة التنمية فيها قبل المدن الأخرى لقربها من آثار تداعيات القضية الكردية، وما نتابعه في أيامنا هذه إلا استمرار لمشاكل قديمة تطفو على السطح كلما سنحت الفرصة، وهل هناك من فرصة أكبر من الواقع السياسي المتخلف الذي أفرز نظام المحاصصة الطائفية وزرع الفتنة واستدعاء الإرهاب والتدخلات والانقسام المجتمعي الحاد .

الموصل بعد أبريل 2003 عبث فيها التطرف والمافيات والعصابات وانفلات الأمن والإتاوات والاغتيالات رغم تواجد الأجهزة الأمنية والمعسكرات الحديثة للجيش تسليحا وتجهيزا وإعدادا وتدريبا ورعاية، لكن العلاقة بين المجموعات الأمنية والمواطن لم تكن إلا لسان حال النظام الطائفي ولغة التحريض المذهبي وبشعارات وتخندقات المقولات الجاهزة لرجال السياسة والدين، الذين مازالوا يشكلون التكوين النفسي السائد، خاصة مع قرب كل دورة انتخابية .

تنظيم داعش دخل الموصل بوجود الفرق العسكرية كاملة التدريب والتجهيز، تم تسليم المدينة بالهروب المُذِّل أمام أعداد لا تتجاوز 300 مقاتل من تنظيم الدولة الإسلامية بأسلحتهم التقليدية وعدد من الانتحاريين بالعجلات المفخخة .
تم التفريط بحياة الملايين خلال ساعات، ليست هزيمة في ساحة قتال، كان انسحابا ملفقا وبأوامر أرادت له الفوضى ليبدو تخاذلا وانكسارا وتسليما بالأمر الواقع. هي إرادة سياسية تعمدت تسليم داعش الثروات وكل صنوف المعدات ومنها الدبابات والمجنزرات والعجلات، ولنا أن نتفكر بكيفية هزيمة الدروع والدبابات أمام هجوم بأسلحة أقصاها أسلحة متوسطة محمولة على عجلة من شهادات بعض الجنود إنهم صمدوا بما يمتلكون من عتاد خفيف، لكنهم تُرِكوا دون إمداد أو دعم .

احتلال الموصل كان لأسباب طائفية وسياسية بأوامر من النظام الإيراني العنصري القومي المذهبي لفتح الأبواب إذلالا لأميركا وأسلحتها كورقة ضغط ورسائل لإبرام الاتفاق النووي الأميركي معها ومع الدول الأعضاء في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا، وبدراية تامة وقراءة موضوعية لسياسة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما حسين بأصوله الكينية المسلمة واسم بمضامين دينية طرأت عليه تغيرات لفظية بسبب اللغات الدارجة المحلية، فباراك من البركة وأوباما أي أبوالعمامة وحسين بلفظه الصريح، ذلك شائع وإيران كان لها من مواطنيها في الإدارة الأميركية من يعمل في مكتب الرئيس ولا بد أن المعلومات لم تكن تنقصه .

لكن إيران جربت أميركا في سوريا في الضربة الكيميائية في الغوطة الدمشقية صيف 2013، وهي ضربة متعمدة من تخطيط النظام الإيراني لعبور الخط الفاصل من التهديد للنظام السوري، وللوصول بالغايات الإيرانية إلى أهدافها لرسم سياساتها المستقبلية المبنية أساسا على مشروع تصدير ثورتها والانتقام من العراق لصموده طيلة سنوات الحرب الدامية معها على طول الحدود الوطنية وحدود العرب الشرقية .

لماذا الموصل؟ هل لأن فيها أكبر عدد من الضباط والمقاتلين الذين شاركوا في صد العدوان الإيراني؟ ذلك اجتزاء يفنده عدد الأبطال من محافظات ذي قار وميسان والقادسية والبصرة وكل أبناء العراق الذين قاتلوا تحت رايات فرقهم وفيالقهم بل ألويتهم وأسماء فصائلهم ممن دافعوا عن وطنهم وعن حياة وشرف من تشاركوا الموت معهم وكثير منهم استشهدوا وامتزجت دماؤهم لأنهم كانوا أخوة في أسرة وطن واحد .

البعد الطائفي حاضر في احتلال الموصل. إنقاذ النظام السوري وتبرير حربه الفاشية ضد الشعب وتحويلها إلى حرب طويلة مستعرة ضد الإرهاب، صناعة حرس ثوري إيراني من العراقيين، وبدمائهم تاجروا، وبفتوى المرجعية المذهبية استثمروا، وبضم ميليشياتهم رسميا وبقانون لتمرير أهدافهم التي تعدت الانتقام والثأر إلى تأسيس قاعدة قوات مسلحة تقاتل نيابة عنهم وتقرر مصير العراق وتفرض إرادة أدواتهم السياسية وحتى الدينية لتطويع الجميع، باعتبار دور الميليشيات مقدسا متباهية بدماء البؤساء والفقراء من شعبنا ولتدنيس كرامة من يعترض طريقهم .

المهمة أُنجزت، الموصل مدمرة بعد داعش، تم التجهيز بتقطيع أوصالها لصراعات قادمة. فقدان الثقة بالدولة والمستقبل والأمن، اليأس لا يمكن أن يزرع بذورا صالحة لتنمو الحياة، هناك تشّف خفي من السياسيين يظهر جليا في القنوات الطائفية الممولة من أموال العراقيين وهي تابعة لإيران. ثورة الحرّ أو ارتفاع درجة الحرارة ليست كافية لتكون ثورة للحرية والأحرار رغم أنها توافقت مع ثورة 14 تموز في العراق وذكرى الثورة الفرنسية رمز ثورات التحرر والانعتاق في تاريخ البشرية .

بعضهم يقول إن تدمير الموصل في بنيتها التحتية للكهرباء وفر طاقة مضافة إلى المدن الأخرى، وآخرون ينادون بتهديم نصب الشهيد أحد أعظم الصروح الفنية في العالم لإقامة نصب لشهيد آخر على مقاسات الحرب داخل المدن العراقية وليس على حدود الوطن . إيران نفذت مخططاتها كما تشتهي وتلاعبت بالتاريخ كمادة أولية لإيقاد الكراهية ليقتل الأخ أخاه وتسفك الدماء وتنتهك المدن والحرمات وحقوق الحياة والأعراض والأموال ليتم نصرهم بتحريرها من تنظيم داعش .

كما يبدو تنظيم الدولة الإسلامية على الأرض بأعداد مقاتليه أقل بكثير من الأرقام التي تداولها الإعلام وربما لا تتعدى المئات، وإن سياسة وواجب الحشد الطائفي كانا فعلا حصارا لداعش داخل مدينة الموصل وعدم السماح له بالفرار، وذلك ما أنجز المهمة في القتال إلى النهاية واستخدام الأسر دروعاً بشرية لتغطية الخراب الهائل تحت بند الأعمال العسكرية النظامية .

هم على يقين أن حصار مقاتلي داعش سيضاعف زخمهم القتالي ويطيل أمد الصراع والخسائر بين المدنيين . الشعوب عادة تنهض بالقانون ومنهج دولة المواطنة والكفاءة والتنمية، لا يمكن بناء دولة أبدا في العراق دون ثورة الأحرار على دولة اللادولة .

0 التعليقات: