إستذكار عبد الحميد الرشودي
إستذكار عبد الحميد الرشودي
مهدي شاكر العبيدي
قال كمال الدين بن النبيه وهو من شعراء الحقبة الأيوبية ، خلل مرثيته لأحد أودائه -:
والموت نقّاد على كفه
جواهرٌ يختار منها الجياد
وكذا رحل عنا وفارق دنيانا هذه المفعمة بالقرف والنكد واستلاب الروح والجمام من نفوسنا بتأثير فاعل وملحوظ من ذوي الأهواء والنيات المدخولة ، والمطعونة النواحي ، والمتجردة من شيات الطهر والبراءة والنقاء ، ولا ندري متى يستوفون تحقق منافعهم ومصالحهم ، وجني آرابهم وغاياتهم ، قلت بارحنا في السنين الأخيرة نخبةً من أُدبائنا الأعلام ، ومن أجيال تتفاوت من حيث تعاقبها بقدر ما تتخالف في اهتمامات ذويها الأدبية ، وتتباين كذلك في نوازعهم ومشاربهم ، لكن ثمة قواسم مشتركة بينهم من ناحية الصدى المدوي الذي تركه نعيهم في النفوس ، وتحسس الفجيعة واللوعة الكاوية لغيابهم ، وشعور بالاحتياج لمن تستعيض به عنهم ، فيملأ حياتنا حبوراً وزهراً وابتساماً وزهواً ، بأنا نمت لأمة وُجَدَتْ في رحاب هذه المسكونة لتمدها بالعرفان والحضارة ، والفكر المتجدد ، والأدب الرفيع ، وتجهز على أنصاب الختل والشعوذة ، وتنهي عن التفرق والشتات ، بقدر ما تحبب لأجيالها الطالعة مسايرة لمقتضيات العصور وتكيفاً معها شريطة الاحتراس من أن تُغرى بقبول ما يجافي قيمنا وموروثنا العريق .
رحل في غفلة منا سالم الآلوسي وأكرم فاضل وعبد القادر البراك وزهير أحمد القيسي وعبد الهادي الفكيكي وسليم طه التكريتي ومحمود العبطة وموسى جعفر وصباح نوري المرزوك ، وأخيراً عبد الحميد الرشودي ، والسبب الذي ساقني للاقتصار عليهم وخصِهم بالذكر دون سواهم من راحلين غيرهم ، هو استجماع الواحد منهم في شخصه لخصال وشمائل تتميز بالتجرد من الآدعاء والنظر لذواتهم بغير حجمها الحقيقي والمحدود ، ومن ثم التوق لتصدر الحياة الأدبية ، وعلى فرط ما استوعبوه من أشتات المعرفة والتحصيل ، ووفرة ما تولوا عن تحبيره وكتابته من أبحاث ومقالات ودراسات ، ما سمعت من أي منهم ــ وقد دنتْ أسبابي بهم وتوشجت غالباً في مكتبة المثنى بشارع المتنبي قبل استهدافها بالاتلاف والحرق إبان ظروف محفوفة بالغموض ، وبالنسبة لبعضهم في أرجح الأحوال ــ أقول ما سمعتُ كلمة شائكة بحق أحدٍ من رصفائهم ، كأن يزروا بأدبه ويبخسوا موهبته ، وينزعوا عنه جدارته ، ولا خامرهم يوماً شعور ما بالعظموت والغطرسة والاغترار والتعالي ، أو توهموا أن خلصتْ لهم القياسات والمعايير المعهودة ، فجوّزتْ لهم إرسال أحكامهم بخصوص أترابهم وقرنائهم في مهنة القلم ، والتعجل بتصنيفهم بين مبدعٍ عالمي لا يبارى في ثرارته واستشرافه الانساني و بين آخر دونه في الملهمات والموحيات ودواعي الانتاج والكتابة ، وكذا صوروا القبيح حسناً ، والجهام الكاذب صاعقاً متلهباً ومنذراً بخشية البرايا وتهيبهم ومخافتهم ، لا فقد درج أولاء في مسالكهم وتصرفاتهم أسوياء إن لمْ يضائل بعضهم من طائل جهده في تربية نفسه وشحذ ملكته واِذكاء فهمه ، ويجهر فوق ذلك أنه لم يصل الى شيء يكفل له البروز والرجحان بين نظرائه ومجايليه لا عن تناهٍ في التبسط ، وتمادٍ في التواضع ، وبطبيعة الحال كما تقتضيه آداب الحشمة ونواميس العقل ، هذا إلى تباعدهم عن ذوي الشأن وزهادتهم في هباتهم وجداهم ، سواء منهم أرباب المسؤوليات المتميزون بالحرص على موارد البلد وثرواته الوطنية ، فيضنون بها على الأصهار ،والأسباط أو الذين يعدونها ممتلكات صرف لهم وحدهم أحقية التصرف بها وتبديدها في وجوه شتى من الإغداق على الأعوان والتبابعة والذيول والذراري ، حسبما خبرنا ذلك من ديدن حكامنا المتعاقبين ومنوالهم خلال عقود نشوء دولة العراق الحديثة , بل إن الأخير من هذا الركب الراحل وهو المحقق والباحث والمربي عبد الحميد الرشودي ، قلّ من يعرف مّته بصلة رحم تدنيه من الرئيسين الأخوين الراحلين عبد السلام وعبد الرحمن عارف ، وكان بوسعه تسنم المراكز الثقافية في عهديهما لو أراد ، وهذا في عداد المقبول والمسّوغ لأنه لم يخف اِليها عادماً المؤهلات ، أو حتى يجترئ أحد على اللغو والنبس بانحيازهما وإدنائهما لذوي القربى من غير موجب وضرورة تحتمان ذلك ، لكنه اللياذ بالعصمة والتصون والصدوف عن مباهج الدنيا ومنها المادي والمعنوي المتيح للساعين وراءه والمتلهفين عليه منيتهم ونزوعهم للآشتهار والظهور ، وهو ما زاده شأناً وجلالاً ورفعة في نظر الأغيار والآخرين .
وبدافع شعوري اعتدتُ استذكار قولة ابراهيم عبد القادر المازني المستقاة من سفر الجامعة وبشيء من التعديل والتحوير عن أنّ كل شيء باطل وقبض ريح كلما بلغني نعي أحد الأعزة الخلص ممن خلُفوا وراءهم مأثورات مغنية ومؤلفات تنسلك في قبيل الأعمال الابداعية ، أو لا يعدو مجهودهم فيها نطاق التجميع والتبويب والتنسيق والتصنيف وكتابة التقديمات الضافية لها والمتكفلة بشرح مراميهم ودوافعهم وأغراضهم منها ، وبالتالي شفعها وتضمينها أكثر من هامش في هذه الصفحة أو تلك بغية الاستدراك على ما انجَر إليه أصحابها الأولون من هنوات الخبط والضلال ، فيعنى التالون بجلاء الحقيقة وتبيينها ، وتعفية الخطأ في النظر والاجتهاد والتخريج بل طمسه بالمرة ، وكذا جاء كتابه : “ذكرى الرصافي” والصادر عام 1950 م حاوياً ما قيل عن الشاعر غداة نعيه وأزجي من آراء بخصوص مواقفه المشرفة بصدد سيادة الوطن واستقلاله إلى جانب تذمره وسخطه على اعتلاء من ليس أهلاً للمعالي ، بينا يُهمل شأن الكفاة والقمينين بصعود سُلمها أو حتى الدنو والاقتراب منها بمسافه ، دون أن تمسك أرباب تلك المنقولات من صحائفها الأولى ، أية صوارف من الالماع والايماء لأطواره الغريبة أو أفعاله المستهجنة والتي خالها بنو جنسه لا تليق بمن في مثله من قوة الشخصية وترصنها ، فضلاً عن تساميه في أدبه وزكاء نفسه ، بينا يعتدها هو من باب الاحتجاج والرفض للمواضعات الاجتماعية واستنكار ما ساد في أغلب أدوار الحكم الوطني من اِيكال المهمات والوجائب لمن لا يحسن تسييرها وتدويرها أو التصرف بأمرها .
هذا الكتاب الباكورة الذي اضطلعت بنشره مكتبة حسين الفلفلي اِبان ذلك التاريخ البعيد وقبل سبعة وستين عاماً ، غدا اليوم من نوادر الكتب المنسية ، كما صار على وفقه معدُه عبد الحميد الرشودي كلفاً مشغوفاً باِكتناز المدونات والوثائق التي تصل الشاعر الكبير والناثر المجود الممتاز ، وذا الأهواء والنزعات والجمحات من تمردٍ ونحوه ، على عصره وناسه ، بقدر ما تنطوي عليه من دفائن وأسرار خافية بشأن معاركه القلمية على صفحات مجلة الرسالة لأحمد حسن الزيات والتي اشتبك فيها مع الكاتب المصري دريني خشبة الذي رامه وقتها بالمروق والكفر والجحود اِثر خلافهما حول وحدة الوجود ونشوئها في عهود المسلمين المتغايرة وما واكبها ورادفها من تقولات وهرطقات قد لا تقبلها وتسكن اِليها صغار العقول ، من نحو أننا مجرد ظلال شاحبة عن بارئ الأكوان والذي هو وحده الوجود الحق ، ويرفض دريني خشبة مثل هذا النظر ، ويتهافت اِزاء منطق الرصافي وحججه فيلجأ إلى الاتهام بالباطل ، ويجاوزه إلى الانتقاص والتخرص ، فيرد الرصافي ببيانه الهادر وهو بالأصل عالم دين ، أن ليس بمعجزه مقابلة الشتيمة بمثلها فهذا جائز ومسموح به شرعاً ، إن لم يفد قراع الدليل بمثله ، وتفنيد الحجة برديفتها .
وتلاه بعد أكثر من عقد كتاب ضخم وأغزر في محتوياته ، ومدارها على الزهاوي وفلسفته وتشبهه بسليقة العلماء وانطباعاتهم حول الكون وما في جوه من الافلاك والنجوم الثابتة والمقاومة لجاذبية الأرض لها ، فضلاً عما ضمنه من اعترافاته الصريحة عبر رسائله للأديب القاهري أحمد محمد عيش ، حول تولده ونشأته وتحدره من أرومة كردية ، ولما بلغ الحلم ريع بما تسوم به دولة العثمانيين سكنة المرابع والديارات المتسعة والتي بسطت سيطرتها ونفوذها عليها ، ومنها ذات الأجناس والعناصر المتباينة والمتعددة في أعرافها وطقوسها وعاداتها وشرائعها السماوية ، قلت ينزل أولاء المتحكمون والمتعسفون بحقوق هذه الأمم المغلوب على أمرها ، جميع الوان الخسف والِاضطهاد ، ويعرضونها لفنون الامتهان والاِذلال والاستباحة ، فجازف في الانبراء والتصدي لصراعها ومقاومة استبدادها وهجو سلاطينها آناً ، وآنا يجد معه أن لا محيص من مهادنتهم مؤثراً السلامة والرضى بأيسر ما يعهدون له به من المحاضرة بمدرسة الحقوق ، فترشيحه لعضوية مجلس المبعوثان لتمثيل جهات وانحاء من عِراقه لم يزرها ويلم بها يوماً ، وظلت هذه التوثيقات والمضامين مهملة ، وحبيسة رفوف مكتبة الأُستاذ أحمد محمد عيش قرابة ثلاثين سنة ، إلى أن أسفر عنها ونشرها بأعداد من مجلة (الكاتب المصري ) ، ويلي الذكريات والاِعترافات تلك فصول ومباحث رصينة في تحليل شعره ، دبجها أعيان وجهابذة معروفون لوقته في سلاسة بيانهم وتميز أساليبهم الكتابية بالصحة في تحديد المعنى واِجماله ، وبالبهجة من التناهي في حبكه وصوغه ، وبالتمام من ناحية خلوه من النقصان والقصور ، ويختمه بغر القصائد الملقاة في حفل تأبينه للشعراء شفيق جبري من سورية وعلي الجارم من مصر وفؤاد الخطيب وبشارة الخوري من لبنان والحاج عبد الحسين الأزري من العراق ، مع اشعار نشرتها الصحف الصادرة حينها في اِثابة نبوغه وجهارته بما ينافي مألوفات الناس من الاعتقاد والرأي ، وما لقي جراءهما من الحيف والحجر والتضييق ، وتطرق ناسجوها من الشعراء جميعاً لفلسفة الموت الذي لا منجىً منه ولا من فرار ، وأولاء هم محمد مهدي الجواهري ومحمد رضا الخطيب ورؤوف جبوري وآخر من السعودية يشوم التجدد في الحياة إبان ثلاثينيات القرن الماضي ، وطبعته دار مكتبة الحياة ببيروت ، كما كتب مقدمته الدكتور يوسف عز الدين بن أحمد السامرائي ، تليها كلمة للمصنف مشفوعة بمثل الشكوى الشخصية من تنكر زمانه وانشغال باله واِلا كان من المحتمل أن يطالع منجزه الثقافي هذا قراءه بشكل أتم وأوفى .
وساهم الرشودي أيضاً بالاشتراك مع صنويه جميل الجبوري وخالد محسن اسماعيل بمراجعة الصحف العراقية الصادرة في العقود الماضية ، وجمعوا ما تيسر من مقالات الكاتب الصحفي ابراهيم صالح شكر ، ويهمني منها المطالعة الضافية والمطنبة في العناصر الاِسلوبية الملهمة بمجانبة التقعير والتعمل ، والحريصة كذلك على توخي الوضوح والقرب من الأفهام في الغاية من الترسل والعفوية واشتراط الرغبة ومحبة الفن بشغف كلي بعد وقوع الكاتب في إسار الفن ، قلت اِن الرشودي حقق وأحيا بالتعاون مع ذينك الندين ، اِضمامة من مأثورات الصحفي والأديب المتلهب بالنار ، ابراهيم صالح شكر قبل الحرب العظمى وبعدها ، متوقلاً على لون من البيان المتلهب الصادم لتقريع مباينيه في أنظاره وتوجهاته ، مبكتاً أخصامه من السياسيين والحكام ومقدمة الرشودي تصلح درساً نافعاً أحرى ان يُلقن لفتيان الأدب في الايفاء على الابداع والصياغة البارعة ، وطبعتْ السفر هذا دار الشؤون الثقافية ببغداد .
ولا حاجة بعد لتعديد كتبه الأخرى وإحصاء مقالاته الكثار التي احتوتها الصحف والدوريات ، فتعقيباته الجمة على ما ينشره الآخرون من دراسات وأبحاث يشوبها السهو عن الحقائق الناصعة وإغفالها ، وكلها تتعلق بالوقائع التاريخية وحتى الهنات اللغوية ، وحسبي الاشادة في ختام هذه المقالة ببعض أفضاله وخصائصه ، فثمة من يمضي ولا من مزايا موجبة لاستذكاره ، وقد يسوق هذا الحال مَنْ عاش مبتلياً بعداوته ونهشه وتحرشه غير مرة ، فيجنح للعنه إن كان زميتاً ويعدم رحابة الصدر الذي لا يتحمل ورصيد الرشودي من الخلال الكريمة أخاله طائلاً لا ينسى ويجحد بحال ، وأحسبه حيي مسالماً مجتنباً الاِحن والعداوات ، وكثيراً ما مدَ يد العون لمن يبغي التأليف حول موضوع ما ، ومن ذلك سخاؤه وجوده بتوثيقات الرصافي المدونة من لدن قاضي الفلوجة زمن الحرب الأخيرة ، حيث امتزجت حياتهما معاً هناك ، وبدوره أسلمها للرشودي فعكف على تصحيحها وتشذيبها من الأغلاط النحوية واللغوية والاملائية لأن مالكها الأول كان يكتب على وجه السرعة وهو يستمع للرصافي الذي تختلط عنده الآراء وتتشعب المواضيع وينتقل منها إلى تناول الحوادث والشخصيات في أوقات معاقرته بنت الحان ، قلت جاد بها على الدكتور يوسف عز الدين بن أحمد السامرائي ، وشغلت حيزاً من مؤلفه عن الشاعر الكبير وطبعته دار المدى قبل سنوات فكان الأوجب أن يحتفظ له بهذه العارفة وينص فيه على أنه كتب بالاشتراك ، هذا الى أني ألفته كثير الترديد والاستدلال بقول الرصافي في مرثيته للعالم الديني البغدادي عبد الوهاب النائب ( العبيدي ) .
وبك إنَ المعقول ما صحَ عندي
فمتى صحَ عندك المنقول
وكذا أكرثته وأجلبتْ عليه الأوصاب قضية المعقول والمنقول .!
ومن طرائفه التي يحسن أن تروى كواقعة على ما نعيش فيه من إجداب أدبي وقحط ثقافي ، أنه كان يحاضر مرة في ثانوية مسائية ، يتوزع طلابه فيها بين جندي وشرطي ومضمد وخياط وحتى مشتغل بالمقاولات على قد حاله ، فحسبهم على قدر من الالمام بالمسائل العامة ، وسألهم يوماً أيعرفون أحمد أمين ؟ فلاذوا بالسكوت جميعاً ، حتى إذا غيَر منطق السؤال مَن سَمِع بأحمد عدوية ، جاءت جواباتهم كلها بالايجاب .
مع احترامنا للفن بمتنوع أشكاله وصنوفه، فليستقِ درساً من هذه النكتة التي هي أدنى إلى الدعابة المستملحة منها إلى الواقع المؤسي والجد الرصين ، أولاء المتوهمون تفايض شهرتهم وذيوع صيتهم وتجاوب المحافل بأسمائهم ، من وراء ما تولوا عن تسطيره من سفاسف وترهات قد تقبل منهم لو نفعوا بها الناس ، وجملَوا عيشهم ، وأصلحوا حالهم والسلام .
0 التعليقات: