أخر الأخبار

.

تأملات في المكان سوق السراي



تأملات في المكان
سوق السراي



عراق العروبة
مي مظفـــــــر



يكتظ الطريق بالناس . جسر الشهداء، أو الجسر العتيق كما كنا نسميه، يربط بين الكرخ والرصافة، وعلى طرفية ينتشر باعة متجولون، شحاذون، متسكعون وسواهم من المارين العابرين . شمس شتاء حانية تنساب خيوطها في دجلة، وحمامات بيض تحوّم بين الماء والشاطئ، لا تمل الدوران .

مسجدان على اليمين والشمال عند نهاية الجسر للقادم من الكرخ، أو بدايته في قلب الرصافة، شاهدان على روعة مجد فني مذهل. يدور النظر ملاحقا الحمام ليرتفع إلى زرقة القباب الشاهدة على براعة الفنان المسلم عمرانيا وبصريا . في الجانب الأيمن تمتد المدرسة المستنصرية، وعلى واجهتها المطلة على النهر آيات من القرآن الكريم حفرت بخط النسخ. فتدرك للتو أنك في قلب العراقة، وأنك تلامس التاريخ، وأنك في بغداد. وما زال في العمق أعماق .

تتوغل يسارا فيحتضنك سوق الوراقين حيث الكتب، القديم منها والجديد. تطالعك الوجوه العتيقة، وتستقبلك دكاكين صغيرة وعميقة، بدكة عالية، ورفوف تكتظ بكتب تشي بالعتق وتكتنـز بأسرار المعرفة. ما أن تقف عند حافة الدكان حتى يهب من ورقها غبار الزمن المشبع بعبق التاريخ . لا يسمح صاحب الدكان أن يمد أحد يده إلى تلك الرفوف، هو وحده من يقوم بالمهمة. لكنه يضع في الواجهة، أو على الدكة، مواد قرطاسية وكتبا رائجة ومتداولة، أو حديثة الإصدار أحيانا، تعرف من عناوينها أنها غير ذات قيمة لديه . “الفلفلي” الابن، يجلس خلف حاجز مكتبته الكبيرة، متكتما على أسرار هذا الشارع العجيب والمعروف بسوق السراي. قبل حقب طويلة كان جل أصحاب المكتبات شخصيات عريقة في المهنة، يعرفون قيمة ما يملكون، بقدر ما يتمتعون به من فراسة تجعلهم يفرقون بين العاشق المتبحر والمستطرق الساذج، فيقدمون الكتاب لذاك ويخفونه عن الآخر .

ألفت سوق السراي وشارع المتنبي منذ طفولتي . كان والدي حاكما في محكمة البداءة، مبنى تابع للقشلة يقع في مدخل سوق السراي . كان يصحبنا أنا وأخي في جولاته هناك، يجلس عند هذا الصديق أو ذاك ، ويمولنا بكتب تتناسب مع عمرينا . هكذا تعرفنا إلى كامل الكيلاني وجرجي زيدان ، وغيرها من الكتب المخصصة للأطفال إلى جانب الدوريات المصرية ، نتابع مسلسلاتها المصورة ومنها “همام المتعافي في مملكة سلدافي”، وغيرها على غرار ما كان يُنشر في مجلات الكوميكس الإنجليزية التي تصل تباعا إلى مكتبات شارع الرشيد. وبقيت أتابع زياراتي إلى هذا الشارع الأثير إلى نفسي على مدى السنوات، وغالبا ما أجد ضالتي هناك .

مع بدء الحصار على العراق في 1990، أصبحت مكتبات الموتى من الشخصيات البغدادية العريقة رافدا غنيا لهذه السوق، ومورد رزق للورثة والباعة على السواء. فاغتنت المكتبات بنوادر الكتب، وأصبحت المخطوطات النفيسة التي كانت مخبأة في أدراج أصحابها عملة صعبة يتم تهريبها من العراق إلى الدول المجاورة لتباع بأرخص الأثمان. وحدد يوم الجمعة من الأسبوع بعرض ما وصل إلى باعة الكتب من جديد وطرحها في مزاد علني في شارع المتنبي. مع ذلك، ظلت الكتب الثمينة ذات القيمة المعرفية تسيل من بين أصابع المهرة من الباعة، مدركين بخبرتهم متى يطرحون نفائسها ولمن .

كانت آخر زيارة لي إلى السوق قبل عشرين عاما. كان كما عهدته في ظاهره، ولم يكن كما عهدته في محتواه. أصبحت السوق تتمول من المعوزين والموتى. لكن العجوز الممدد بموازاة دجلة مازال يضج بالحركة، ويستقبل زواره بعبقٍ من الورق المشرّب برائحة النهر وأبخرة الحزن المتوارث من جيل إلى جيل. ألم يكن هذا الممر السحري شاهدا على أحداث المدينة وتاريخ رجالها على مدى قرون من الزمن؟ ألم يكن حاضنة أفكارهم، والشاهد على تمردهم ودماء شهدائهم ؟

صحيح أن وجوه الوراقين تبدلت، ولكن بعضها تجدد مع الأبناء، إذ رأيت بعض شبابهم يتولون استئناف رحلة الآباء. وبين هذا وهذاك يظهر أحد الآباء بجلبابه الأبيض ولحيته الفضية متسترا في عمق دكانه الصغير، محاطا بأكداس كتب شحب لونها وكساها الغبار، ولكنه فقد الكثير من سماحته ووسع صدره اللذين كان عليهما في السابق بعد أن امتلأت نفسه بالريبة والشك بالناس. فحين يُسأل عن عنوان كتاب أثري، أو شاعر عباسي مثير للجدل، يرد بجفاء وسلبية، إلا إذا كان على معرفة بالسائل .


سوق داخل سوق… زقاق يتفرع من زقاق؛ كتب على الأرصفة، كتب مكدسة على رفوف الدكاكين، كتب ثم كتب ثم كتب .

يهرب المخضرمون من الناس إلى الماضي للتخلص من بشاعة الحاضر وغموض المستقبل : تاريخ الحضارات والقصص الرومانسية وكتب السحر وتفسير الأحلام والخوارق والبحث عن الزمن المفقود . يبحثون عن معجزات . تفتح الكتاب فتجد الورقة الأولى منه مقطوعة عند الزاوية كانت تحمل اسم مالكه الأول . تشتري الكتاب لتضع عليه اسما آخر، وتركنه فوق رفّ آخر في بيت آخر، فينجو ويواصل دورانه الحي في حياة الأجيال .

ملاحظة : لقد حافظ شارع المتنبي على قدرته في بعث روح الثقافة والمعرفة في المجتمع البغدادي، وظل على الرغم من الاحتلال والدمار، مؤشرا على نبض بغداد الحي أبدا .

0 التعليقات: