أخر الأخبار

.

مقدمة كتاب رحلة البحث عن الحكمة


مقدمة كتاب رحلة البحث عن الحكمة 


عراق العروبة
ضرغام الدباغ



كثيرون هم الذين بحثوا في أعماق الظواهر والأشياء (الفلسفة)، وهناك من يزال يبحث. ممن أستثارهم الفضول، أو رغبة في المعرفة والعلم، بحث عن كنهة الأشياء، رحلة إلى الأعماق ليجدوا " الشيئ " الشيئ الذي حيرهم، يتمثل تارة بأن الأمور لا تدور عشوائياً، بل هناك هندسة وعلاقات لها جذرها المادي والفلسفي، بحثوا عن سر الموت وما بعده، عن أكسير يعيد الحياة أو الشباب والقوة، فردوس أبدي، عن سر الخيوط التي تربط الأشياء، بدا لهم أن نقطة الفاصل المهمة مفقودة، أو الحلقة الرابطة غائبة، لقطة ضائعة في العثور عليها سيبدو المشهد كاملاً أمام ناظرهم، شيئ ما ربما يدركون كنهه، ولكنهم لا يستطيعون وصفه، هو ربما شيئ يمكن الشعور به، لا يمكن لمسه، أو وصف أبعاده، أو بغير دقة. يشعرون بمعاناته وثقله على الروح ... لم يقتنعوا بالإجابات التي ترسم علامة سؤال لا يختفي أمام بؤبؤ العين، وفي القلب غصة عدم الرضا، عدم القناعة التامة، يمضي يبحث ويبحث عن أصل وجوهر الأشياء، هذه فكرة أرقت كثير من الكتاب المفكرين ... كيف نصل إلى الشيئ ....؟


أذكر وأنا صبي بعمر 12 عاماً، زارنا قريب لنا هو أديب معروف، الشاعر هلال ناجي، فكنت في تلك العمر المبكرة قارئ نهم، شأني في ذلك شأن عائلتنا جميعاً ذكوراً وإناثاً، فسألت هلالاً: كيف أصبح كاتباً ..؟ ضحك هلال، وهو أبن خالي الأكبر، وقال : " أقرأ كثيراً، ثم أكتب، ومزق ما كتبت، ثم عد وأقرأ كثيراً، ثم أكتب، ومزق ما كتبت، ثم أقرأ أكثر وأكثر أكتب بعدها، ولكن مزق ما كتبت ". وخلت أن هلالاً يسخر مني ومن سؤالي ويعتبره ساذجاً، ولكنه قال أخيراً بحدية: " يوماً من الأيام لا تدركه، إلا وأنت قد أصبحت كاتباً ". وحقاً صار الأمر على هذا النحو، لا أدري كيف أصبحت كاتباً ....! ولكني أعي تماماً أن أساتذتي الألمان خلال دراستي الجامعية في ألمانيا علمونا نظام التعليم، ولمن فهمه بدقة وعمق، صار بوسعه أن يكتب ويحلل.

وفي إحدى بحوثي أو مقالاتي ذكرت، أن الباحث يبذل كل جهده في إنجاز عمل ما، ويتطلع إليه ويعتقد أنه أفضل من كتب أو بحث في هذا المجال، والبعض يشتط بدرجة إعجابه بنفسه وبمنجزاته وهنا يحكم هذا على نفسه بأن أغلق بإحكام أبواب ونوافذ التطور على نفسه. وعالم آخر يرى بعد فترة قصيرة أن ما أنجزه ليس مقبولاً له شخصياً، ولكي ينجز عملاً أفضل عليه أن يطور مادته، بالقراءة الكثيرة وإحراز المعلومات وتحليلها والتأمل في نتائجها .. وهنا إذا أطال فترة التأمل وشحذ قواه الفكرية، يتطلع إلى عمق الأشياء، سيكتشف ثغرة .... ثم ثغرة أخرى .... ثم أخرى ... وهكذا فإن عمله يبدو بناظره سيئاً، ما علينا بما يعتقد الآخرون، وربما هناك من يعتقد أنه عمل ممتاز ورائع جداً .... ولكن من أنجزه غير راض عنه ... وسيكون للتنقيب في المصادر والمراجع والمعلومات والصور والأشكال ومعطيات كثيرة وبعد فترة فائدة وسيجد حقاً أن هناك آفاقاً لم يكن قد بلغها ومستوى أعلى عليه أن يصله إن أراد أن يصبح شيئاً مذكوراً ...

سيبحث كثيراً، ربما سيجد إشارة في لوحة فنية، أو في حركة موسيقية، أو في قصيدة .. ربما نقطة ستضيئ أمام عينيه وعقله وهو يعود ليلاً لبيته سائراً على قدميه، فيرى ظله على أنوار الشوارع.. ظله الذي ليس بمقدوره أن يصله ويقبض عليه، الرسام سيبحث عن خلطة سحرية تعطيه اللون الذي في خياله وربما في أحلامه ... هو تخيل كوناً مشتعلاً بالألوان، يريد أن يرسم ألوانه، يصيبه الاحباط، فيقذف بالريشة ويلعن الحشرة التي تسللت في غفلة إلى جمجمته وعبثت بها فأضاع رشده .. ولكنه بعد حين يزحف باحثاً عن الريشة ويعيد المحاولة .. عله يجد الشيئ الذي يبحث عنه ... قد يجده أو شيئاً قريباً لما يدور في فكره .. الجمهور المتلقي لا يعلم ما يدور في ذهن الفنان قبل الولادة .. فهو يشاهد العمل الفني المنجز فحسب ولا يدرك أبعاد المخاض.. ربما يصل الفنان إلى ما يريد ولكن ليس بصفة تامة، فما تزال هناك أشياء مفقودة ...

قمت مرة بترجمة كتاب صغير (لكن العمل فيه كان متعباً للغاية) يضم ثمانية وأربعون تخطيطا من أعمال أنجزت لاحقاً أو لم تنجز لأعظم فناني عصر النهضة، مايكل أنجلو، وأهمية نشر التخطيطات (السكتشات)، التي في الكثير منها تظهر إرهاصات الفنان أنجلو قبل أن ينجز فكرته الواضحة في ذهنه، والنضال يدور في أن يضعها على الورق .. في ذهنه عوالم كبيرة بألوان رهيبة وأحداث كبيرة .. الكون من حوله يتحرك وهو يجري خلفه لاهثاً يريد أن يلحق به .. أن يفهمه، ثم أن يحاول لا تخونه قواه العقلية في إدراك مكوناته وأبعاده، يريد أن يفهمه ثم أن ينجح في وضعه على الورق أو ينحتها على الرخام، أو موسيقار يكتبها في نوتة موسيقية، عازف يريد أن ينجح في تحريك أصابعه على آلته ليخرج صوتاً محبوس في دماغه ... وقد يعجز في محاولته تلك فينهار يلهث منهكاً باكياً عجزه ... وقد لا يفهم ذلك أقرب المقربين له ...!

ذات مرة سهرنا في بيتي ببرلين المطل على ساحة نيبتون (Nepton Platz) بمكوناتها الفنية الرائعة كان الصديقان الرائعان الموسيقار المبدع منير بشير والشاعر البالغ الحساسية كاظم جواد، كنا نتحدث عن كومونة باريس، وذكريات عذبة في بودابست على الدانوب، وكلاهما قدم بفعل تأثير الجلسة وأجواءها والحوارات التي اكتنفتها أعمالاً رائعة، منير عزف تلقائياً (وهو من لا يفعل ذلك عادة) عزفاً هائلاً، هو بنفسه أعترف لي فيما بعد أنه حاول عبثاً أن يتذكر ما فعل، ولكنه توصل في النهاية إلى شيئ مقارب... وكاظم جواد قرأ شعراً يحلق بك في أجواء ويغوص بك أعماق سحيقة في ساعة تجلي قد لا يتكرر .

محاوله الغوص هذه إلى الأعماق يحاولها كل مبدع أي كان موقع إبداعه، بقلمه وريشته وأزميله وفكره، في ذهنه صورة، فكرة يريد إخراجها بوسيلته، يريد أن يضعها بصورة جميلة، ومفهومة، يريد تعميم فكرته، صورته .. بعض الخطباء يتكلمون أمام الجماهير غير ما يتحدثون به في القاعات المغلقة، رؤية أمواج الجماهير تشعرك أنك أمام بحر عميق لا قعر ولا ضفاف له، هذه الجماهير تمتلك قوة سحرية، ومخاطبتها عمل ينطوي على شعور بالتحرر من الخوف نهائياً، أمامك موجة هائلة، عليك أن تكون ربان سفينة ماهر، حاذق ومخلص، وإلا فالجماهير تنزلك أسفل السافلين .... عليك أن تنظر في أعين الناس وماذا تريد، هي تريد غير هذا الذي أمامها .. تريد الجديد .. تريد الأفضل، لذلك في قد لا تعلم بالضبط ماذا تريد، ولكنها تريد الأفضل، وينبغي أن تكون أنت أو الحركة أو الفكرة التي تتضمن هذا الجديد ..الكون كله يهرول .. عليك أن تهرول معه .. ليبقى أسمك في القائمة

أقرأ ماذا يكتب شكسبير في مسرحية هنري الثامن، هو لا يكتب عن تجربة سباحة عابرة بالطبع، بل عن شواطئ محفوفة بالمخاطر خاض فيها دون أن يحسب عواقبها ... البحار التي يقصدها شكسبير ليست تلك التي تعج بأسماك القرش والأنواع المفترسة من الحيوانات المائية، شكسبير يقصد الأرض المليئة بالبشر المفترسين لبعضهم، هي تجربة إنسانية عميقة ربما أعمق من المياه التي خاضها، وأمواج هائلة ليس بمقدور أي ساعد أن يواجهها

لقد غامرت
وكأنني واحد من الصبية اللاهين على قمم الموج
مثلهم أحاول تطويح كيس منتفخ بالهواء
صيفاً بعد صيف
في بحر المجد
لكن البحر كان عميقاً ... عميقاً جداً
أعمق مما أستطيع اللهو فيه

البحر أعمق مما أستطيع اللهو فيه .. لاحظ هو لم يكتب تفصيل ما حدث ...هو يقول أنه خاض مغامرة ... والبحر كان عميقاً ... أعمق مما كان يتصور ...!

قرأت قصيدة للشاعر الأسباني انطونيو متشادو تحملك على التفكير ملياً في كلماتها ... ها أنا أدونها وأدعو القارئات والقراء أن يقرأوها بعمق .. ويتأملوا معانيها .

أيها الطارق

أيها الطارق، آثارك هي الطريق (الطارق، بمعنى عابر السبيل)
لاشيء أكثر...
أيها الطارق، ليس ثمة من طريق
يتشكل الطريق لدى المسير
لدى المسير يتشكل الطريق
وحين نلتفت إلى الوراء
نشاهد الدرب الذي أبداً
ليس علينا أن نعود فنطأه
أيها الطارق، ليس ثمة من طريق
بل نقوش في البحر ...

ما هذا ....؟ هل هو ديالكتيك الحياة ... أم ماذا ...

ليس هناك من طريق ... هل يريد الشاعر (انطونيو متشادو) وهو مناضل ملتزم أن يقول لا توجد نظرية ..! أم ترى يريد القول وهو الأرجح، أن النظرية يجب أن تمضي بشكل متواز مع الممارسة والعمل والكفاح بلا هوادة دون يأس دون خوف أو وجل .. أم أن على الإنسان أن يبحث بلا توقف حتى اللحظة الأخيرة

الطريق يتشكل خلال المسيرة .. أنظر إلى الخلف .. إنك سوف لن تعود أبداً وتطأ تلك الخطوات ...! ليس ثمة من طريق ... ولكن نقوش في البحر يغسلها الزبد وتذوب على رمال الشواطئ .....! وتبقى أنت ..!

اللوحة : الخروج من الإطار ... للرسام الأسبانب بيرل بوريل، لوحة تستحق التأمل .. لو خرجت من الإطار الذي أحطت نفسك به، وأحاطتك البيئة من حولك، لأندهشت من حجم الإبداع الذي بداخلك


0 التعليقات: