أخر الأخبار

.

قصيدة النثر


قصيدة النثر
**********

عراق العروبة
سامي مهدي



كثر النقاش والتعليق أمس حول " قصيدة النثر " فأحببت الإسهام بهذه الإضاءة ، علّها تكون مفيدة :

.
حول قصيدة النثر
.
- قصيدة النثر أحد أشكال الكتابة الشعرية المهمة ، لأنها تنطوي على الكثير من خصائص الشعر ، ولاسيما لغته وبعض تقنياته . 

وقد فرضت وجودها إلى جانب الأشكال الشعرية الأخرى ، شئنا أم أبينا ، وبذلك لم يعد مجدياً النقاش حول مدى مشروعيتها . 

- ولكن ينبغي التمييز بين قصيدة النثر Prose poem والشعر الحر Free verse على صعيد الكتابة والنقد في رأيي . 

فلكل شكل من هذين الشكلين اصطلاحه وتاريخه الخاص وتقنياته وتقاليده الكتابية . وهذا التفريق ضروري عندي على المستوى النقدي خاصة ، لأن هناك التباساً في استخدام مصطلح قصيدة النثر . فكل ما يكتب اليوم من شعر غير موزون يحسب عليها ، وهذا خطأ في رأيي ، وهو خطأ ناجم عن جهل ، أو التباس ، أو تساهل ، في فهم المصطلح وترويجه . وأقول ، بتبسيط شديد ، إن الشعر الحر هو ما يكتب على الورق بصيغة أشطر على غرار قصيدة التفعيلة . أما قصيدة النثر فهي ما يكتب بسطور متصلة كالنثر العادي ، كالمقالات . فما كتبه توفيق صايغ ومحمد الماغوط مثلاً هو شعر حر ، وما كتبه أنسي الحاج في مجموعتيه ( لن ) و ( الرأس المقطوع ) تحديداً هو قصيدة نثر . وأغلب ما يكتب اليوم تحت عنوان قصيدة النثر هو شعر حر في واقع الأمر .

- قصيدة النثر شكل من أشكال الكتابة ابتكره الشاعر الفرنسي الشهير شارل بودلير . فلبودلير كتاب بعنوان ( سأم باريس ) يضم قطعاً أدبية أغلبها قصص قصيرة ، بمعنى الكلمة ، والبقية الباقية قطع نثرية ذات خصائص شعرية ، ولكن بودلير جمعها معاً في هذا الكتاب وأطلق عليها في عنوان فرعي اسم : Petites poems en prose أي قصائد صغيرة بالنثر ، وترجم هذا العنوان إلى العربية بـ : قصيدة النثر . وهي بهذا تختلف في كل شيء عن الشعر الحر .

- والجدل حول وجود الإيقاع في قصيدة النثر كان ، وما يزال ، جدلاً عقيماً ، فقد كتب فيه الكثير دون التوصل إلى نتيجة مقنعة. 

ومن أبرز من كتب حوله الفرنسيان إميل بنفنست وهنري ميشونيك ، ولكن ما كتباه ليس سوى مقولات نظرية مجردة لا طائل وراءها . وفي رأيي أننا يجب أن نفرق بين نوعين من الإيقاع : إيقاع موسيقي ينتج عن تكرار وحدات صوتية معينة ( هي التفعيلات ) تكراراً منتظماً ، فهو إيقاع محسوس وقابل للقياس ، وإيقاع آخر مفترض على أساس أن كل نوع من أنواع الكتابة يخلق إيقاعه الخاص به ، وعلى القاريء أن يكتشف هذا الإيقاع إن كان يهمه . إيقاع قصيدة النثر هو من هذا النوع ، إيقاع افتراضي ، أي ليس إيقاعاً صوتياً محسوساً ، وعلينا أن نفترض وجوده ونكتشفه ، وإلا بدا لنا أشبه بثياب الإمبراطور العاري .

- على الصعيد العربي حاول كتاب الشعر الحر و قصيدة النثر ( الأوائل ) تعويض إيقاع الوزن ببدائل أخرى . توفيق صايغ مثلاً حاول تعويضه عن طريق تطعيم قصيدته بأبيات موزونة بمختلف الأوزان ، وبأنواع من التقفيات والسجعات والجناسات والطباقات ، وقد قلده جبرا إبراهيم جبرا في ذلك ، ووصف جبرا هذا ( الإيقاع ) بأنه ( موسيقى أوركسترالية ) . في حين لجأ آخرون إلى خلق أنواع من التناظرات والتوازيات بين المقاطع ، أو بين الجمل ، وبعض الصياغات اللغوية ، وبعض التكرارات ، وبعض الجناسات ، وعدوا ذلك إيقاعات ، وقد تأثروا في ذلك بنصوص الكتاب المقدس . أما الأجيال اللاحقة فقد تخلت عن هذه البدائل ، واكتفت بالإيقاع الافتراضي الذي يتخلق في أثناء عملية الكتابة ، وبذلك يكون لكل قصيدة إيقاعها الخاص ، وعلى القارئ الحاذق أن يكتشف هذا الإيقاع إن وجد .

إذا استثنينا أدونيس ، فكل كتاب الشعر الحر وقصيدة النثر ( الأوائل ) كانوا أحد اثنين ، إما جاهلاً بالوزن جهلاً تاماً ، أو شبه تام ، كمحمد الماغوط وأنسي الحاج ، أو أنه لم ينجح في كتابة الشعر الموزون النجاح الذي يريده ، أي النجاح الذي يميزه عمن سبقه كتوفيق صايغ وسركون بولص . أما الأجيال اللاحقة فقد تلقت الدعوة إلى التخلي عن الوزن بإقبال واسع ، لأنها تخلصت بذلك من عبء تعلم الأوزان الشعرية ومتطلبات الكتابة بها ، وشعرت بأن التخلي عنها يحررها من ( قيود ثقيلة ) مفروضة عليها ويمنحها ( ميزة الاختلاف ) عمن سبقها . وبذلك التبست الأمور ، واختلط الحابل بالنابل ، كما يقولون ، حتى أصبح ( شاعراً ) كل من يستطيع أن يكتب إنشاء جميلاً نسبياً ، أو يأتي بصورة غريبة ، أومفارقة ساخرة ، أو شطحة طريفة ، أو فكرة حاذقة ، وكانت النتيجة طوفاناً من الكتابات الإنشائية والخواطر الأدبية المحسوبة على الشعر وهي ليست منه ، وهذا ما نجده اليوم لدى الغالبية العظمى من (شعراء الفيس بوك) . 

حتى وجدنا شاعراً كأنسي الحاج ، وهو أول من كتب قصيدة النثر ودعا إلى كتابتها ( مجموعته : لن ) يعتذر ويقول :

( لم أتوقّف عن الاعتذار عمّا اقترفته من تنظيرات اعتباطيّة في شأنٍ لا يحتمل إلّا التواضع . وما جاء استنادنا أنا وأدونيس إلى كتاب سوزان برنار عن قصيدة النثر إلّا إغراقاً لنا في جملةِ أخطاء . ومهما أقسمتُ أن لا أعود إلى ذرّ النظريّات داومتُ على ذرّها بين الحين والحين مرتكباً أخطاء من نوعٍ آخر . كلّ هذا من باب التبرير . لا تزال قصائد «لن» وما تبعه هي المقدّمة الأصلح لموضوعي ولا يزال موضوعي هو حيث أغيب عن كلّ شيء إلّا عن نواة الحلم الذي فيّ لا يخطئ معي . ) ( جريدة الأخبار اللبنانية 2 / 10 / 2013 ) . ولا أظن أدونيس إلا متفقاً معه على هذا الرأي .

أما أنا فأرى أن الشاعر حر في اختيار الشكل الذي يعتقد أنه يبدع فيه ، وشرطنا الوحيد عليه هو أن يبدع في الكتابة بالشكل الذي اختاره . ولكن الشعر الذي يتخلى عن الوزن هو شعر ناقص في رأيي ، تنقصه موسيقى الوزن ، لأن الوزن في الشعر ضروري ، فهو يؤدي وظائف مهمة في القصيدة : إيقاعية ودلالية وتنظيمية ، وهو ليس قيداً خارجياً إلا عند غير المتمرسين ، وعند من يجهلونه أو يستصعبونه . لقد رافق الوزن الشعر منذ نشأته ، وبه تميز واختلف عن غيره من فنون القول . أقول هذا مع أنني كتبت الكثير من الشعر غير الموزون ، حتى لا تكاد مجموعة من مجموعاتي الشعرية تخلو منه منذ عام 1980 حتى اليوم ، فأنا أكتب القصيدة كما تأتيني : بوزن ، أو بدون وزن ، بقافية موحدة ، أو بقواف متنوعة ، أو مدورة بلا قافية . وهذا يعطيني حرية أكبر ، وتنوعاً أكثر ، في الكتابة .

اليوم ، وبعد أكثر من نصف قرن من إعلان ولادة قصيدة النثر في محيطنا العربي ، أتساءل أحياناً : هل أنجبت حركة قصيدة النثر شعراء كباراً ؟ وما رصيدنا الشعري ، الشعري بحق ، من هذه الحركة ؟ 

أظن أن حركة قصيدة النثر بها اليوم حاجة إلى دراسة موضوعية جديدة وشاملة ، دراسة نقدية معيارية ، وحيادية ، بل أكثر من دراسة ، تعيد تقييمها وتضع أمورها وأمور شعرائها في نصابها الصحيح ، وتعطي كل ذي حق حقه ، بعيداً عن أهواء التجمعات الضيقة والمنافع المتبادلة في ما بين أفرادها .

0 التعليقات: