أخر الأخبار

.

نصوص المصطلح الصوفي في الإسلام



نصوص المصطلح الصوفي في الإسلام



عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي



في نقده لمسرحية أهل الكف لتوفيق الحكيم ، خيل للناقد يحيى حقي أنها تنطوي على نزعة صوفية واضحة ، قد لا تحتاجها مصر وهي تقاتل أعداءها ، قدر احتياجها إلى الفتاء والقوة والعزيمة ، بدلاً من التوكل والزهد والقناعة ، وقد كتبت هذه الملاحظة غداة صدور المسرحية في الثلاثينيات (من القرن الماضي) . 

تذكرت هذا وبين يدي كتاب نصوص المصطلح الصوفي في الإسلام والذي أصدره قسم الدراسات الفلسفية في بيت الحكمة وقد أعدته الدكتورة نظلة الجبوري ، رامية من ورائه تعريف القارئ بما يتداوله أعلام التصوف والزهاد في مناجياتهم وأورادهم من ألفاظ ومفردات غلب عليها الغموض وأحوجت إلى شرح وتفسير ، يجلوان معمياتها ويقربانها من الأفهام ، فوقفت عند ستة نصوص تنسب إلى نخبة من المتصوفة وهم بحسب تسلسلهم في الظهور وتأثيرهم الفاعل في الحياة العامة خلال حقبة تاريخية معينة ، السراج الصوفي ت 378 هـ والقشيري ت 465 هـ ، والسهروري ت 632 هـ وابن عربي ت 638 هـ ، واحمد بن علوان ت 665 هـ والقرشي الأموي ت 773 هـ وكل من أولاء معروف بأسمه وكنيته وموضع نصه من رسائله وكتبه. فهي قد طبعت سابقاً بعناية بعض الناشرين والدارسين ، وتحظى اليوم باهتمام الدكتورة نظلة الجبوري فوحدت بينها وصيرتها كتاباً لأنها تشكل وحدة موضوع في تكوين المصطلح الصوفي . 

ولا يعفينا هذا من أن نثيب بالثناء والإطراء جهود أولئك المنقطعين لإحياء تراثنا الثقافي وتحقيقه من مشايخ وعلماء بينهم مستشرق هو نيكلسون الذي نشر كتاب اللمع في التصوف سنة 1914 م ، فقد بهرته الحياة الروحية في الإسلام بما يزينها من ورع وتقوى وتصون وعياف لكل ما يجافي المروءة وطهارة الوجدان . 

وأود أن أشير ما دمنا بصدد الحديث عن حركة النشر والناشرين للمظان والمصادر القديمة من كتب التراث ، إلى دائرة المعارف العثمانية الناشرة لرسائل ابن عربي ، فهي جمعية تتولى احياء المخطوطات العربية وإنعاش الثقافة الإسلامية في الأصقاع الهندية ومقرها في مدينة حيدر اباد الدكن ، وهي من الإمارات المستقلة والواقعة جنوبي القارة الشاسعة اثر تقسيمها إلى كيانين بعيد الحرب العالمية الثانية ، وتنسب الجمعية المذكورة إلى الملك سير عثمان علي خان بهادر حاكمها المسلم الذي آثر الحياد بين الدولتين ومداراتهما قدر الإمكان ، وليس إلى الدولة العثمانية التي شملت غالبية الأقطار العربية بنفوذها وسيطرتها قبلاً حتى أديل منها وغدت أثراً بعد عين . 

الدكتورة نظلة الجبوري

وتنص الدكتورة نظلة الجبوري في التمهيد الذي أعدته لهذه النصوص أن ترتيبها ترتيباً زمانياً يؤشر تاريخ المصطلح الصوفي عبر الموازنة بين أقوال الصوفية أو عبر المقارنة بين نصوصهم ، وكأنها تبغي الإيحاء بتدرج الصوفية في ألفاظهم تبعاً لما ترمز له من المعاني وتتضمنه من الإشارات ، مسبغة عليها الأوصاف الحقيقية الموائمة لمقتضيات الوقت الذي شاعت أبانه وطغت على الألسنة فيه ، مما يعكس غنى المصطلح الصوفي وحسن تمثيله لتجرد صاحبه من شواغل هذا العالم ومغرياته ، وتجافيه عما يسوده من رياء ودجل وشعوذه وقبح وشر ، واستغراقه في الحمد والتجلي والتهجد ودوام العبادة . 


غير أن السمة الوحيدة الغالبة على هذه النصوص المنتقاة هي جريها على أسلوب خال من التعقيد والتنميق البلاغي والسجع اللفظي ، وانتهاجها العفوية والترسل ، فتستدل على أن كتابها المستوحين خبراتهم ، المعبرين عن توقهم ونزوعهم وشوقهم إلى الحضرة الإلهية ، يباينون معاصريهم في طريقة أدائهم ، فحين لا يجد الكاتب ما يستدعي التعبير عنه وبيانه من الخطرات والمعاني ، يلفي ذاته منصرفاً إلى التهافت اللفظي والإمعان في التدبيج والزخرف ، وهذا أوضح دليل على شدة ارتباط الصوفي بالواقع من حوله والذي يلهمه بما لا ينضب معينه من الأفكار والرؤى والأشواق القلبية ، فتجربته حية وراسخة ، فلله من شطحاتهم ومواجيدهم ، ولا غرو أن يفيض أبو النصر السراج في تفسير ألفاظه وجلاء معانيها بعد أن ساقها أولاً مجتمعة مثل قوله: الحال والمكان والوقت والبادي والقبض والبسط إلى آخر القائمة الحاوية مائة وتسعة وثلاثين مصطلحاً بين مجرد وثنائي ومضاف ليتلوها باب بيان هذه الألفاظ ، هنا نقف بإزاء حشد من المعاني العرفانية والاستدلال بالوقائع والماجريات التي حصلت لأهل الحق والساعين وراء الحقيقة ، والذين عذبهم وجدهم وهيامهم بالسر الذي هو خفاء بين العدم والوجود ، وموجود في معناه حسبما يشرحه صاحب اللمع ، مستطرداً منه زيادة في الإيضاح ، إلى أن السر ماغيبه الحق ولم يشرف عليه الخلق ، فسر الخلق ما أشرف عليه الحق بلا واسطة. وسر الحق ما يطلع عليه إلا الحق ، وكذا نورط في حال من الشطح والغياب عما حولنا من الموجودات. فنأنس أو نلفي عزاءنا بهذه اللقيات الشعرية التي يأتي بها من هنا وهناك ونطرب لما تشتمل عليه أو تومئ له من الرموز والإشارات . 

الله يعلم أني لست أذكره وكيف أذكره إذ لست أنساه 

والمياسم نفسها تنسحب على بقية النصوص حيث اللغة الصوفية الثرة الدافقة والاستشهاد بنماذج وشواهد رائعة من الشعر الرائق البارع النسج ، القوي التصوير ، مروراً بأعلام المتصوفة وتناول عذاباتهم ومجاهداتهم في سبيل الوصول والدنو من المقام والحضرة القدسية ، وابتغاء الصفاء والنقاء والخلاص من عذاب النار ما وسعهم ذلك . 

لكن أيستوي هذا التوق ويستقيم هو ونوازع بيت الحكمة في استلهام روح الأمة واستنفار طاقاتها لصنع الحضارة الإنسانية ، في الوقت الذي أخذ على عاتقه فيه تبني فلسفة إسلامية ، خالصة مبرأة من التأثيرات اليونانية وبقية الأمم التي انفتح عليها العرب المسلمون واحتكوا بها زمناً ، فلسفة تستهدي بنور العقل والذكاء وتدعو إلى التفكير والتأمل ، باطراح الخرافات والأوهام وكل ما يطوله الاضمحلال والتلاشي ، ولا يثبت أمام أدنى قدر من المراجعة والتصفح والمحاورة والجدل المستند إلى العلم وسواء البصيرة . 

الذي أعرفه أن بيت الحكمة آثر الفلسفة وإحياء ما أسلفه العرب القدامى من معطياتها وكنوزها ، فهل هذه النصوص على ما يغلب عليها من جمال وروعة وسحر بيان ، مستوحية ما يجيش في القلب وصميم الوجدان ، من أهواء وخلجات وأشواق وعواطف ، تعد من المأثورات الفلسفية التي ينبغي لنا أن نعود عليها بالتمحيص ونوليها قسطاً من عنايتنا من آن لآخر .؟

0 التعليقات: