أخر الأخبار

.

التناقضات سمة العصر


التناقضات سمة العصر


عراق العروبة
د. علي محمد فخرو


نحن نعيش في عالم مملوء بالتناقضات التي تبدو أحياناً ككوميديا ساخرة مضحكة، وأحياناً تظهر كتراجيديا تبعث على الغثيان، واليأس.

لننظر إلى موضوع بعبع الإرهاب في واقع العالم الحالي.

اجتماعات دولية من دول منتقاة بعناية فائقة، تنعقد في شتى بلدان الغرب وبلدان الوطن العربي، ودائماً تحت جناح ومراقبة الولايات المتحدة، لتصدر بيانات وتوصيات بشأن مكافحة الإرهاب، ودحر قواه في الأرض العربية على الأخص، وبشأن منع انتشاره على الأخص في بلدان أخرى، لكن في صور مجزَّأة ومبهمة.

ولا يتعب المجتمعون أنفسهم ، ولو مرة واحدة، بذكر تعريف واضح وشامل لكلمة الإرهاب. تجنب التعريف سيبعدهم عن ذكر إرهاب الدولة الذي يتمثّل في أقصى وأبشع صوره في شتّى أنواع الإرهاب الجسدي والمادي المباشر والإرهاب المعنوي الحقوقي الذي تمارسه يومياً سلطات الاحتلال الصهيوني في فلسطين.

التناقض هو في العملية الانتقائية التي تذرف دموع التماسيح على الضحايا العرب في سوريا والعراق وليبيا ومصر والصومال واليمن ولكنها، بتعمد ووقاحة، تتجاهل الضحايا العرب الفلسطينيين.

ولا يقف الأمر عند موضوع تجنُّب التعريف وما سيشمل، وفي ممارسة الانتقائية بالنسبة لضحايا الإرهاب، وإنّما يتعداه إلى السكوت التام عن أية إشارة إلى جهات التمويل، والتسليح، والتدريب، وتسهيل الانتقال للقوى الإرهابية. ليس لأنّ المجتمعين ومصدري البيانات يجهلون ذلك، بل لأن بعضاً من الحاضرين هم الممولون والمسلحون والمدربون والمسهّلون لسفر المجرم إلى ساحات الإرهاب. بهذا التجاهل يبدو التناقض واضحاً من خلال المعالجة الجزئية بمواجهة أعراض المرض من دون أسبابه ومسبباته، ومن خلال مشي القاتل وراء جنازة المقتول، من دون أن يصرخ أحد : «قاتل، قاتل!».

بل يبدو التناقض الصُّارخ بين ما يقال إدعاءًّ عن المواجهة، وبين ما يراد أن يستمر بألف شكل وشكل لإنهاك المجتمعات التي تواجه الإرهاب. التنديد بالإرهاب واجهة تخفي هدف إنهاك وذبح أمة العرب.

ولا نستطيع أن نصدق أن استخبارات كل تلك الدول المجتمعة، العاملة بتناغم وتعاضد عندما تشتهي، والقدرات التكنولوجية الهائلة عند البعض، تبقى، سنة بعد سنة، عاجزة عن حسم موضوع الإرهاب. تلك القدرات الهائلة تتناقض مع النتائج المتواضعة. ذلك الحماس في البيانات والتوصيات يتناقض مع التكهنات بأننا سنعيش مع ظاهرة الإرهاب لعقود قادمة. ثرثرة اللسان تتناقض مع عجز اليد.

لننظر إلى موضوع الصواريخ الباليستية طويلة المدى. في كل يوم نسمع ونقرأ عن الأخطار المحدقة بالعالم جراء تصنيع، أو امتلاك مثل تلك الأسلحة من قبل هذه الدولة، أو تلك، لكن، وبصورة مفاجئة تفضح التناقض بين الأقوال والفعل، تنسحب أكبر وأكفأ جهتين صانعتين للأسلحة الصاروخية من اتفاقية الحد من تطوير الصواريخ، وتقرران علناً أنهما في طريقهما لمزيد من التطوير وإنتاج أسلحة باليستية أفتك، وأسرع، واكثر رعباً.

إنه تناقض القول مع الفعل عندما يصُّب في المصالح الوطنية الضيقة. عند ذاك يصبح الخوف على العالم كلًّه ثانوياً بالنسبة إلى الأمن الوطني المحدود. هذه الثنائية فيما الأنا والآخرون أصبح رذيلة مقبولة في الساحة السياسية العولمية.

لننظر إلى الطهارة التي يجب أن تتجسد في مؤسسات وعلماء الدين كبديهية لا تنفصل عن متطلبات السمو الإنساني من خلال الدّين.

لننظر إلى الحرب الشرسة التي شنّتها النيولبرالية الرأسمالية العولمية على كل ما سبقها من إيديولوجيات أشتهر بها القرن العشرين، على الأخص. وكان الادّعاء يقوم على أساس أن الإيديولوجيات تتصف بالإصرار على نظام سياسي - اقتصادي- اجتماعي شمولي لا يقبل التجزئة.

لكن النيولبرالية تتناقض اليوم مع أقوالها السابقة، إذ تقدّم نفسها كأيديولوجية شمولية. فما عادت موضوعاً اقتصادياً بحتاً، بل أصبحت لها مواقف سياسية من الدولة، واجتماعية من خدمات الرعاية الاجتماعية للمواطنين، وسلوكية لا تقبل إلا الحرية الفردية المطلقة، وإعلامية لا تقبل إلا الرأي الواحد الذي يبرر فساد الشركات والبنوك، ويغطي على طمع وأنانية الأغنياء. لقد أصبحت أبواقها الانتهازية ضد اليسار ورجالاته ومؤسساته، بل وضد كل ماهو إنساني في اليمين، بل وتجرأت على التاريخ وأوصلته إلى نهايته، وعلى الحضارات غير الغربية فدعت إلى إنهاء وجودها.

مرة أخرى ، نحن أمام ثنائية التناقض بين الموقف مما يرفض والموقف مما يطلب. إنه تناقض الكذب والتلفيق مع حقائق الحياة، فأن يملك واحد في المئة من أغنياء العالم نصف ثروة العالم فهو مقبول، وأن يعيش الباقون في فقر مدقع يزداد سوءاً وفجيعة فهو مقبول أيضاً، إذ يمكن تعايش النقيضين في أيديولوجية النيولبرالية الزّاحفة بثقة وجبروت.

سمة العصر ليس أنه عصر المعلومات، كما يدعي البعض، إنها سمة التناقضات التي يراد لها أن تكون مقبولة من الناس، بلا مراجعة ولا مقاومة.

0 التعليقات: