شاعر منسي من الناصرية
شاعر منسي من الناصرية
عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي
لعلـَّه آخر الشُّعراء المجيدينَ من ذوي المهن الذينَ عرفهم تاريخ الأدب العربي ، وأحسنوا الموازنة بين الحرفة التي يزاولونها لاستحصال قوتهم اليومي وبين الاستجابة والاندفاع بمقتضيات الملكة الشِّعرية وما تلهم بهِ من مشاعر وأحاسيس يصوغها أقوالا ً مأثورة ومعاني مستمدة مستقاة من الواقع الحياتي الذي يكتنف حياة الناس وما يزخر بهِ من تجارب وحوادث وصراعات ومشاهد متنوعة .
وعباس الملا علي المولود في مدينة الناصرية العراقية عام 1916م ، والذي عمَّر إلى الثمانينيات وتوفي في بداياتها هو غير صنوه المعروف بكونه من أعيان القرن التاسع عشر ، ومن ألمع الشُّعراء العراقيينَ رغم قصر المدة التي عاشها ، لكن بقي له ما يخلده من هذا الشِّعر المؤثر في القلوب طالما جرى ذكر الصَّبابة والشَّوق وتشعَّب الحديث عن مغامرات المحبينَ ، فقدْ كانَ عباس الملا علي الأوَّل هذا طالب علم في النجف عشق ابنة أحد أساتذتهِ وشيوخه ، وتقدَّم إليه طالبا ً اقترانه بها فرُفِضَ مأموله وداخله اليأس ، أليس هو القائل :ـ
عِدِيْنِي وامْطِلِي وصْلِي عِدِيْنِي ودِيْـنِي بالصَّبَابَةِ فـَهـِيَ دِيْنِي
********
ولا يختلف حظ الثاني عن صنوه الأوَّل ومشابهه في الاسم واللقب في شيء من ناحية خيبة الآمال والإخفاق والإخمال وإحجام الدَّارسينَ عن تدارس نتاجه وتحليله ، على وثاقة الصِّلة وحسن تمثيل هذا النتاج الشِّعري الطائل نسبيا ً ومواكبته لمجريات الأحوال طوال أربعة عقود سوى أنـَّه حيي موهون الصِّلات والأواصر بملتقيات أولئك الدَّارسينَ المتفننينَ في إضفاء النعوت على من يشاؤونَ من الشُّعراء ممَّنْ يحاكونهم في مشرب أو نزعة ،فيسهب النقدة عندئذٍ في تجديدهم ومماشاتهم للتطور الذي عمَّ مختلف المجالات والميادين ، وفي ابتداعهم للرُّموز وتوقهم لعالمية الأدب ، أمَّا أنْ تأخذ بنظر الاعتبار طبيعة المقاييس والموازين السَّائدة في دنيا الآداب إبَّان ذلك الطور خصوصا ً قبيل الحرب العالمية الثانية ، أو حتى ينظر نظرة إكبار وإعجاب لصنف من الناس عدموا التحصيل المدرسي وعنوا بتحصيل المعارف والآداب معتمدينَ على أنفسهم , ومستعينينَ بالأقطاب والمشايخ الذين هم على درجة من التحصيل والخبرة بالعلوم المتوارثة من العهود الدَّابرة ، فذلك ما لمْ يتسمحوا فيه ولا يعني شيئا ً أو أمرا ً ذا بال ٍ في حسبانهم البتة .
ولعلـِّي أوَّل من سمع باسم عباس الملا علي شاعرا ً في أواخر الأربعينيات ، كانَ ذلك من خلال تعريف مبتسر بنبوغه وطموحه إلى امتلاك أسباب الشَّاعرية ، مهَّدَتْ به جريدة ( الهاتف ) لبعض نتاجه أسوة بغيره من أدباء الناصرية ، كعزران البدري وكانَ صاحب مقهى جعل منه منتدىً أدبيا ً يعجُّ بالمناقشات والمحاورات بصدد الفلسفة والحكمة والشِّعر ، أمَّا بشأن هذا الشَّاعر الواعد فقد أشادَتْ بامتهانه الكتابة وضبطه الحساباتِ لدى التجار ، فهو من هذه الناحية قريب إلى الناس ممتزج بهم مطلع على مشكلاتهم وظروفهم ، ويعدم حتى هذا القسط اليسير من اعتزال الآخرينَ والتباعد عنهم ، ممَّا يحوج الأدباء ويضطرونَ إليهِ من آن ٍ لآن ٍ لأنْ يستقروا نوازعهم ويستوحوا هواجسهم ، وفي شيء غير قليل من التدلل والمنِّ واصطناع الامتياز .
لقدْ تناول في قصائده متنوَّع الأغراض والمقاصد ممَّا يعرِّس وسط مجتمعه من الآفات والمفارقات الصَّارخة ، لاسِيَّما انقسام الناس وتفاوتهم في أنصبتهم من الغنى والفقر ، وهذا معنى أو مضمون قديم تداوله شعراء القرون الغابرة وأمعنوا فيه تقصيا ً واستقراءً ، وتوزَّعوا في تعليله شتى الجهات والأنحاء , فمن أبياتٍ أنشدها سنة 1948م ، تنبيك أنَّ داءنا هذا هو داء قديم ، فالناس عبيد المال وأضداد العقل والنباهة ، ولعلـَّه اقترب من صوغ هذه الخاطرة الرَّقيقة التي تخامر وجدان المشتغلينَ بالثقافة والأدب هذه الأيَّام حول افتقادهم لأيَّةِ ضمانةٍ تقيهم غوائل المستقبل المجهول ، وحسبي بها أنـَّها من أوائل شعره ، وأنـَّه يلجأ فيها إلى الخطاب المباشر مع شيءٍ أو قدر مقبول من الرَّصانة في الأسلوب ، فإذا تحرَّيْتَ وراء الصُّور الشِّعرية أو رمْتَ إيجاد أو تأمُّل تأثرها في موحياتها بالأرض الخراب مثلا ً ، فلك أنْ تـُخرج لي عذرا ً لقلة زادي من هذا الترف الثقافي :ـ
مَـــنْ يقـْض ِأيَّام الشَّـبابِ مُسَهَّـدا ً بَـيْـنَ الــمَحـَـابـِر والـدَّفاتِـر ينـْدَم ِ
مَــا قـيمة ُ الأدبِ الرَّفـيْع ِ وأهْـلِـهِ ؟ مَادَامَتِ ( الشَّيْكاتُ ) أرفـعَ سُلـَّـم ِ
إنْ كـُنـْتَ تخـتـارُ الثقـافة َوالـنهى فمِن الخطوبِ بأيِّ حصن ٍتحتمِي ؟
فـَذر ِالـكِـتـابَة َ والخطابَة َ والعُـلى إنَّ الـمُـغـَفـَّـلَ للمَـعَـارف يَـنـْتـَمِي
********
ومنْ أروع قصائده الاجتماعية ( عيون العذارى ) يشتكي فيها إلى عنترة فارس الهيجاء ويظهر أنـَّه يقف بجانب المهاجمينَ لسفور المرأة وانخراطها في تيَّار الحياة مزاحمة للرَّجل في دنيا المعاش وعالم الكسب والاحتراف ، أو على الأقل يستهجن ما انتهتْ إليه الحال من التطرُّف والمبالغة ومجاوزة القصد والاعتدال ومفارقة دواعي الحشمة والرَّزانة والتوقر ، فلمْ يجدْ مناصا ً من الدَّعوة لعودة الفتاة إلى البيت وقيامها بواجبات الأمومة وتربية الأبناء ورعايتهم بما يحسن من التدليل والتهذيب ، ويعنينا من هذه اللقية جانبها الفني وعباراتها المؤثرة لا أكثر ولا أقل ، إذ لا قبل لنا بالمماحكات والمصاولات وتقديم القرائن والشَّواهد على ترجيح هذا الرَّأي أو ذاك ، يقول :ـ
أيَـا عـنـْتـَرَ الهَيْجَاء هَلْ أنـْتََ سَـامِـعٌ عُـيُوْنُ العَـذارى فـَارَقـَتـْها البَرَاقِعُ
أيَـا ابْـنَ البَـوادِي إنَّ عَـبْـلة غـَادَرَتْ خـِبَاها وأمْسَتْ تـَحْتـَويْهَا الشَّوارعُ
وهَا هِي قدْ شَدَّتْ على الخَصْر شَدَّة ً تـَوَلـَّدُ مِنـْهَـا فِـيْ الصُّـدُوْر نـَوَازعُ
وكـَشَّـفـَتْ الصَّدْرَ الجَـمِـيْلَ فـَحَوَّمَتْ عَـليْهْ عُـيُـوْنُ الـظـَّامِـئِـيْنَ تـُطـَالِـعُ
ولا شَيْءَ يُثـْنِي العَاشِقِـيْنَ إذا التـَقـَوا فقدْ رُفِعَتْ يَا ابْنَ البَـوادِي الـمَوَانِعُ
فـَلا سَيْف دُوْنَ الوَصْـل ظلَّ مُجَرَّدَا ً وَلا رَهْـط َدُوْنَ الغـَانِـيـاتِ يُــدَافِـعُ
********
0 التعليقات: