أخر الأخبار

.

عبد الرحمن مجيد الربيعي وترشيحه كتبا للقراءة



عبد الرحمن مجيد الربيعي وترشيحه كتبا للقراءة


عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي




قرأتُ في عددٍ ما من أعداد مجلة حرَّاس الوطن (الملغاة أو المحتجبة ) خاطرة أدبية كتبها الأستاذ عبد الرَّحمن مجيد الرُّبيعي بشأن الكتب المهمة التي يحسن بالمثقف قراءتها ليصير إلى بينة من مجريات العصر وخبرة بالطبيعة البشريَّة والسُّلوك الإنساني ، سواء أكانَ ممَّنْ يمارسونَ الكتابة وينشرونَ ما يدبجونه في الصُّحف والدَّوريات أمْ كانَ من أولئكَ الذين ننعتهم بالأدباء المجلسيينَ الزَّاهدينَ في تدوين خطراتهم وأفكارهم ويغنونَ عن ذلك بحضورهم القوي في المنتديات والمحافل الأدبيَّة والفكرية ، وقد يمتلكونَ من السَّمْتِ والوجاهة ومن الذلاقة واللباقة ما يغبطهم عليه أولاءِ المتهالكون المتهافتون على النشر ما وسعهم إمكانهم وانفسحَتْ أمامهم السُّبل والمجالات ، غير أنـَّهم يبدونَ أثناء شخوصهم وسط التجمعات الأدبيَّة خرساً لا طاقة لهم على الحجاج والنقاش والمحاماة عن مسمياتٍ شتى منها الالتزام ومنها الواقعية ومنها التعلق بالجمال المطلق والفن المجرَّد من ملابسات هذه الحياة ومشكلاتها ، ولم يكنْ ذلك منهم تكلفا وإيهاما بالوقار والترصُّن ، إنـَّما هو فرط الحياء والخجل مما ليس في وسعهم مجابهته والفكاك منه ، لأسباب ودواع مختلفة تمُتُّ إلى ظروف النشأة والتربية الأولى وتعود إليها كما لا يخفى على المشتغلينَ بعلم النفس وغير المشتغلينَ من أصحاب التجريب والدِّراية المكتسبة من النظر والتأمل في ما حولهم .


رشَّح الرُّبيعي عددا من الكتب فنصح للأدباء أو غيرهم أنْ يعكفوا على قراءتها بل تدارسها ، ولحظتُ ثمَّة سمتين غالبتين عليها ، أولاهما أنَّ معظمها مترجَمٌ إلى العربية من اللغات الأوربية ، لا مانعَ عنده أو عند غيره من الناصحينَ الموجهينَ من اعتمادها ، إذا كنا في حال من الاطمئنان والثقة بأمانة المترجم وفقهه بأدب اللغتين ، العربية التي هي وسيلته في التعبير والخطاب ، والأجنبية التي ينقل منها ، وثانيتهما أنـَّها تندرج في خانة القصَّة والرِّواية من جهة الأنواع الأدبية ، فضلا عن إنَّ هذه المترجمات قد عُدَّتِ اليوم في عداد النفائس النادرة والمفقودة ، لنفاد نسخها من طبعة أولى لها أو ثانية ممَّا يقود إلى تسجيل ملاحظة ثالثة ، تسوقنا لها الأثمان الفادحة التي ينبغي لنا بذلها وإنفاقها في غير ضن ولا حسرة ، لو عثرنا بالمتبقيات منها في مكتبات الكتب المستعملة – كما يسمونها – فضلاً عن نسخ الطبعات الجديدة لو استأنسَتْ إحدى دور النشر التجارية في هذه الحاضرة أو تلك بذوق أستاذٍ عارفٍ ومقدر لقيمة الكتب ومعرفته وتمييز التي تلاقي رواجاً من تلك التي يعافها القرَّاء وينصرفونَ عنها .

ولأمر ما تذكرْت قولة الكاتب المصري الدكتور حسين فوزي في ندوةٍ عقدتها مجلة ( الفكر المعاصر ) المحتجبة في عام 1970م ، وشارك فيها الدكتور فوزي نفسه ، ويحيى حقي ، وفؤاد زكريا ، وأجملها إبراهيم الصَّيرفي ضمن مقالة ضافية نشرتها المجلة المذكورة ، ومدارها على كتاب ( حقيبة في يد مسافر ) الذي أصدره وقتَ ذاك القاص المشهور يحيى حقي مصوراً عبره مشاهداته في بلاد الغرب أثناء زيارته له أو تجواله في العاصمة الفرنسية , قال صاحب ( سندباد مصري ) :- ” أنا أصلا لا أحترم القصص كثيراً ، أحترم الكاتب أنْ يكونَ مفكراً ، كاتب القصَّة صديق لكنـَّه لا يرتفع في ذهني إلى أنْ يكونَ من كبار العباقرة ، عندي أنَّ كتاب يحيى حقي كتاب يساوي أثقالاً من الذهب وأحمالاً من القيم الإنسانية الكبرى ” .

وما وكدْنا التقليل من شأن القصَص والبنايات الرِّوائية الكبرى التي تضعنا ونحن مستغرقونَ في قراءتها ساعاتٍ وسط صراعات النفس الإنسانية ومغالباتها وتردُّداتها في الاختيار بين مختلف المواقف ، والاندفاع في التصرُّف بوحي شتى الاستجابات والدَّواعي ، مع ما يستهوينا في النسج الرِّوائي عادة من التصوير القوي والتخييل الجميل والعاطفة الإنسانية الشَّريفة ، ومعاناة أصحابها لهاته الضُّغوط أو تلك من التي حتى لو كانتْ من ابتداع الكاتب أو تزويقه ، فلابدَّ من أنْ كانَ لها ثمَّة مساس بجوهر شخصيته أو وشيجة بمجرى حياته وبعبارة أخرى أوضح وأدلَّ أنـَّه لا ينكر على الأعمال القصصية ما أدَّته من دور في نقد الحياة الاجتماعية وكشفِ ما فيها من مثالب وعيوب , وأنَّ أربابها انطلقوا في تحبيرها وكتابتها بعد أنْ كابدوا من الأسى والألم جرَّاء ما ألفوه في المجتمع من حولهم من مفارقات وغرائب حتى لمْ تعدْ لهم طاقة على كبحه وكبته دون التعبير عنه وإظهاره بهذه البدعة الفنية أو الوسيلة الأدبية .

لكنْ لا يخفى أنَّ العصارة المستقطرة من التدارس الطويل والمضني للنتاجات الرِّوائية إنْ أمكن تسطيرها وإفراغها في قالبٍ تعبيري ، تبين هذه العصارة ضئيلة الحجم هينته متواضعة في إحاطتها بشؤون النفس ومخابرها والطبيعة والتاريخ ، وتتبقى في أذهاننا منها أطياف وأشباح إذا جاز التعبير من مواقفٍ ووقائع وخصائص ، ممَّا وفـِّقَ الكاتبون في صياغته وتجسيده ، وذلك غير ما يسلطه الكاتب السِّياسي البارع والمفكر الاجتماعي المستند في تحليلاته واستقراءاته إلى معرفةٍ واسعةٍ بالحياة الاجتماعية التي يخلص إلى استنتاجاته وتصوِّراته عنها ، فقد يسلف الكاتب السِّياسي أو الدَّارس الاجتماعي وسط بيئته من الأثر أو يستثير من اللغط أو الضَّجة لما يغامر به من مصادمة الناس في ذوقهم وفي شعورهم بما لمْ يألفوه من الرَّأي , ما يتمناه عامة الرِّوائيينَ والقاصينَ عدا من أوتوا مراساً قوياً وطاقة استثنائية في الإحاطة بأحوال الكائن الإنساني العجيب بتصرُّفه وغريزته ، واغتباطه وألمه ، وأمله ويأسه , وإقدامه ونكوصه ، وإقباله وانطوائه على نفسه في كمدٍ ولوعة .

لكن أيخفى على الرُّبيعي أمْ لا يخفى أنَّ جما غفيرا من المدَّعينَ بمعرفتهم بمجريات هذه الرِّواية الرَّائعة ووقائعها أو تلك ، وما وفـِّقَ له أصحابها من حذاقة وفن كانَ معولهم في اقتناص هذه المعرفة المتواضعة اليسيرة على تلخيصات النقاد التي يمهدونَ بها لتسطير أحكامهم ونظراتهم وملاحظاتهم التي منها ما غدا متكررا معروفا ومتداولا من لدن المعنيينَ بهذا النمط من الكتابة ، يحكون عن الحركة والحيوية والضربة الأخيرة التي يختتم بها العمل الفني المتدفق في حبكته ونسجه ، بعد أنْ يحذروا مؤلفه من اتخاذه وعاءً يستوعب نوازعه وتوجهاته في الحياة على حساب تقييد أبطاله وتكييف حركتهم واستجابتهم ودورهم فيه طوع ما يخدم هذه النوازع والتوجهات إلى غير ذلك ممَّا صار مثل القاعدة التي نترسَّمها في تقييم كلِّ نص روائي , غير ضانينَ على المؤلف باختلاق عاذرة أو شافع لهناته الفنية باسم الواقعية والتطوع لخدمة الجمهور ، حتى لو كانَ النصُّ مشوبا بالأغلاط اللغوية من القواعد والإملاء ، ممَّا يتنزه عنه ويتحاماه الأوساط من طلبة المدارس فضلا عن النابهين ، وحتى لو عني بعضهم بمعالجة ما حقـُّه أنْ نهمله من شؤون وحالات نادرة وشاذة لا تعمُّ مجموع الناس في محيط مثل محيطنا معهود عن الغالبية فيه نجابتهم وطيبتهم وتعلقهم بالفضيلة ومقتهم لكلِّ ما يخلُّ بالآداب والأخلاق , وعندي أنَّ مثل هذا التناول ليس من الواقعية في شيء البتة , وليسَ لي إلا أنْ أشيدَ بما أبانَ عنه الرُّبيعي أمام جمهور الأدباء المجتمعينَ في مقرِّ اتحاد الأدباء والكـُتـَّاب في العراق وعبر ندوةٍ أقيمَتْ بمواجهتم ، أنسْتُ بها مشاهدا التلفاز ذات مساء ، أبانَ أنـَّه يحمد الله على إتمامه تحصيله الجامعي بمادة الرَّسم في كلية الفنون الجميلة ولمْ يتمَّه بقسم اللغة العربية في كلية للآداب ، حتى لا تحومَ حوله فرية أو تـُفبرك دعوى ومزعم أنـَّه صار أديبا لأنـَّه تخرَّج من قسم يعد طلبته لتدريس البناء والإعراب قبل أنْ يرفدهم بمكنة تفسير النصوص وتحليل الأساليب ، أو أنـَّه خطر في باله – وأرجو أنْ يكون قد خطر في باله – نعيه على قسم اللغة العربية في جميع كليات الآداب في مختلف أنحاء الوطن العربي وتفريط القائمينَ عليه برياضة المنتسبينَ إليه من الطلبة على الاستقلال الشَّخصي في الاجتهاد والنظر والسَّماح لهم بحرية البحث وتفلية المظان والمصادر دون التعويل على تلخيصات الأساتذة ومراجعاتهم ، وقد يكون موحيا بهذا غير عامدٍ أنَّ كتابته في غاية الصِّحة والسَّلامة اللغوية مستهديا بذوقه وسليقته قبل أنْ يعنى بمراعاة القواعد المسطرة في الكتب .

وكيفما دارتْ الحال , ومهما بالغ الرُّبيعي في أنظاره حيال الفن القصصي واعتباره أهم الأنواع والفنون الأدبية على ما نستجلي ذلك في كتبه المختارة المرشَّحة للقراءة ، علما أنـَّنا نسبقه إلى القول أنَّ الحياة بمجملها قصَّة محكمة متسلسلة الحوادث في غير ما حاجةٍ إلى تقرِّي ما طرأ عليها أو جازته من تجريبٍ ! ، وقد لا نغفل عمَّا راضَ نفسه على مزاولته من صنائع أدبية أخرى من الشِّعر والنقد ! ، غير مدل أبدا في مزاولته هذه أنـَّه موزع بين شتى المؤلفات متشعب وجوه القراءة ، إذ لا تستتمُّ لنا القدرة على الصَّنيع الأدبي من فراغ ودون إلمام بعناصره ولوازمه .

وكيفما دارَتْ بنا الحال أقول لمخاصمي وصديقي القديم الذي بيَّن للمستمعينَ ذات يوم عبر الإذاعة أنـَّه سعيد نسبيا وأنـَّه تعوَّد الرَّد العنيف على منتقديه المتغرِّضينَ ونافسينَ عليه دأبه ومثابرته وطموحه المشروع أنْ يكونَ من ذوي الحظوظ في هذه الحياة ، أعني أنْ يكون نتاجه مقروءا داخلَ الوطن وخارجه ، ومترجما إلى لغات العالم ، إنَّ الأعمال الرِّوائية الممتازة على ما أحاطتْ به من أبعاد وجوانب ذات صلةٍ بالإنسان أينما وجد أو جاوزَتْ نطاق المحليَّة الضَّيقة إلى الشُّمول والاتساع ، بحيث تستكنـُّه الدَّوافع وراء الأفعال والاستجابات ، لا يعتدُّها بعض المستنيرين لباب الثقافة وعنوان الإبداع الكلي حتى لترجح على ما سواها من الأنواع في معرض التوجيه والهدي للقراءة النافعة والتدارس المفيد .

0 التعليقات: