أخر الأخبار

.

علي جواد الطاهر القلم والقلب والوجدان



علي جواد الطاهر القلم والقلب والوجدان


عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي




أنا أرهبُ الموت،لا تشبثاً بالحياة وحرصاً عليها وقبولاً بها على العلات،فلو صح هـذا فـإنـه يعني توطيناً للنفس على تحمل ما يسوء ويزري بها و ينتقص مما يلـزم لها من إباء وتصون وتعفـفٍ عن الدنايا،وما لا يليق بالرجل الكريم ملاقاته والاصطبار عليه،إنـما أريدها،صفواً من كل ما يكدر الحس ويؤذي الشعـور،جائشة تغري بالأمل،وتبعث على الطماح وتغري بمزيد من التطلع إلى أمام،إذ ذاك يكون ثمة مبرر لخشيتي من الموت وفرقي منه وتهيبي لشأنه،وفرط ارتياعي حين يتناهى إلى سمعي نبأ مغادرة رجل كان ملءَ السمع والبصر هذه الدنيا،كأن لم يكن بالأمس موفوراً جم النشاط في أكثر من مجال وميدان،فأسلم بصورة مطلقة بعبثية الحياة وباطل الأباطيل كما كان المرحوم المازني يردد ويدين ويعتقد ويجعلها قبلته والمصير الذي ينتهي إليه وغاية مجتناه وحصاده من العمل،وإنْ أمضى سنيه مثابراً لا يعهد من نفسه نكوصاً ولا استسلاماً أمام العوارض والمثبطات،ولم تخرس الضحكة يوماً منه بلية وعناء،في غير خفة أو تسافه وتبذل،حائداً بذلك عن منهاج غيره من القادرين على الكتابة لكنهم زهدوا فيها واكتفوا بالقليل مما أوثر عنهم بذريعة أن الموت لا بد مصادفهم،فما جدوى أنْ يتحملوا رهقاً ويتجشموا مشقة ًويوطنوا نفوسهم على الإغضاء آونة أو ينبروا في أخرى للصيال والرد على المتحاملين من صغـار الكتاب الذين يتوقون لمقاسمتهم في خرافة الخلود .

شق علي نعيُ الدكتور علي جواد الطاهر الذي بفضل دأبه واستمراريته ومواصلته البحث والتأليف اغتنت المكتبة العراقية بمجموعة متواضعة من الدراسات والتصانيف المتوزعة في أكثر من حقل من حقول المعرفة والفكر والاستنارة،تناول فيها فنوناً أدبية متنوعة كالشعر والقصة والرواية والمسرحية بالنقد والشرح،والتفسير والتحليل،وتبيان الأصول والقواعد التي تقوم عليها وينطلق منها مبتدعوها ومؤلفوها متوخياً بها توجيههم وصقل ملكاتهم ليصار بها إلى الصحة والاكتمال،فضلاً عن استدراكاته وملاحظاته على الكتب التراثية وجلاء ما وقع فيها محققوها من لبس وإشكال وحيدة عن الضبط والتدقيق،ونظيرتها التي يخص بها كتب المحدثين من المؤرخين والدارسين والنقاد والمترجمين مما أسماه فواتاً رام منه أنْ يتثبتوا في المرات القادمة لو توفروا على إنجاز فكري مماثل،أو لو عن لهم طباعة هذا الأثر الذي يبين عن هناته وهفواته ثانية،ويستوثقوا من الوقائع والحوادث وسني الوفيات والأعلام متجاوزاً ذلك حتى إلى صياغة المرادف الصحيح من ألفاظ العربية لما صار متداولاً من المصطلح الغربي وشائعاً في أساليبنا وصور تعبيرنا . 


وكل هذه المجهودات تقتضي من الكاتب الإطلاع الشامل الغزير،على سير الآداب والعلوم والفنون عبر شتى الفترات والعهود،بقدر ما تستدعي روحـاً إنسانياً متسلحاً بالخبرة والذوق متجرد من الهوى والتغرض متحرياً للصـدق والموضوعية عند تقرير الحقائق والمسلمات،وصولاً إلى إنصاف من قطع شوطاً في بحثه وراء الحقيقة وتنقيبه عن اللباب،فلم يُمنَ سعيه بغير التخرص والإنكار،وانتهاءً إلى تقريع مَن زيفوا الوقائع وجعلوا من الثقافة مرتزقاً وباب ثراء .

فمن أين تبتدي مستعرضاً وتجدك بإزاء كم ٍهائل ٍوكبير ٍنسبياً من المطبوعات الرصينة،منها الباحث في القديم الأصيل المشرق والمغتني بالإنسانية،ومنها المستوحي الناظر لمشكلات الحاضر،وكلاهما موزع في فنون شتى لا تربطها صلة ولا يجمع بينهما جامع،دون أنْ يشبه في اهتماماته هذه أو يكون مقلداً محاكياً لصنيع آخر يعنى بروائع الشعـر القديم ثم ينزع إلى مجاراة المألوف المتفشي تجارياً والمعهود تكسباً بالثقافة،فيترجم لك كتاباً من لغةٍ يحسنها عن دور الفرد في التاريخ،بل إن الموضوعات التي تستأثر بعنايته وتشغله على ما يبين فيها من تنافر واختلاف وتباين تلتقي كلها عند تمثيل النموذج الأرقـى للدراسات العربية غير المستندة إلى نظرية في السياسة أو الاقتصاد والاجتماع،إنـما عمادها الموهبة التي يحلها من نفسه أسمى مكان،يكثر من الحديث في أهميتها وجدواها للأديب الناشئ الفتي،وبدونها لا يغدو أديباً حتى لو استوعب ذهنه مئات القصائد وحفظ المتون والشروح والهوامش الملحقة بالألفية ونحوها،وحتى لو انتظم دارساً في أرقى جامعات العـالم مناهج وطرق تدريس وضناً بالأساتذة النابهين أنْ تعيرهـم لجامعات أخرى،و تليها الرغبة التي من الغرائب والعجائب فيها أنْ يلفي المرء نفسه فاتراً متوانياً في الكتابة،لعجز يتوهمه في نفسه أحياناً ،أو لافتقاده المؤهلات اللازمة المسعفة في استكمال الأثر الأدبي من مصادر ومراجع ونحوها،لكنـه إذا غالب التردد ومضى في بحثه أمكن له أنْ ينتهي إلى تخريجات واستنتاجات حرية بالتسجيل ما كانت لتخطر في باله،قـبل أنْ تستولي عليه روح الفن وتسيطر عليه الرغبة،فيمضي مستطرداً من حيث لم يحتسب ولم ينتو إطالة قبلاً .

ولعلنا نجتلي بدوات موهبته في المقالة التي كتبها عن (جميل والمرأة) بمناسبة ذكرى نعي الزهاوي عام 1937م،واحتواها كتاب (جميل صدقي الزهاوي بأقلام طلبة متوسطة الحلة) الذين كانوا على مستوى مناسب من الاتصال بالحركة الأدبية يومذاك وتهيأ لهم من المدرسين الأكفاء من شحذوا مواهبهم ولم يفرطوا بتشجيعهم على الاستمرار وتحويل هذه التجارب الأولية نصوصاً يعتد بها،بعد تشذيبها من الهفوات اللغوية والبيانية،وكان المرحوم محمد احمد المهنى على رأس أولاء المدرسين المضيعين في غياهب النسيان،كان فيما يقال دائرة معارف كناية عن سعـة اطلاعه وغزارة ثقافته وإلمامه بحصيلة وافرة من التاريخ والجغرافية وعلوم اللغة العربية فضلاً عن كونه شاعراً في المناسبات،ولايعدم الجرأة في التنديد بالمساوئ والأحوال الشاذة،وما زلت أذكر مطلع قصيدته يحيي فيها ويبارك للمتخرجين من طـلابه بدار المعلمين الابتدائية ببغداد عام 1951م :-
يبغون وثبة شعب سام كبوته أعداؤه والشرور الكثروالنوب
********
علي جواد الطاهر وعقيلته في رحلة خارج العراق (من أرشيف د. لقاء الساعدي فشكرا لها)

لهذا المدرس الجاد احتفظ الطاهر في قلبه ووجدانه بأسنى مشاعر المحبة والعرفان بالجميل،ولا غرو أنْ أودع عاطفاته مقالة في كتاب أساتذتي ومقالات أخرى،أسوة بمن أشاد بفضلهم وأبان عن درايتهم وخبرتهم و تجردهم ونزاهتهم من أساتذةٍ كالشيخ محمد مهدي البصير،وطه الراوي،ومصطفى جواد .

لنا أنْ نعد مقالة (جميل والمرأة) نواة لتبريزه في فن المقالة،ولوغامر وجازف بضمها إلى كتابه(مقالات) عام 1962م،لما استبان للقارئ فيها ضعف وركاكة من ناحية الأسلوب،فضلاً عن الاهتمام بالمحتوى والعناية بالأفكار والمعاني التي يروم صياغتها،مستقصياً ومستطرداً ومنتهياً إلى الغاية البعيدة التي ينبغي له الوقوف عندها،يقول :- ” المرأة عضو مهم في المجتمع،ولها الأثر الأعظم في عظمة الأمة ورفعة شأنها،وقد عرف ذلك جميل وعرف أن وهن الشعب وتأخره ناتج عن انحطاط المرأة والجهل المستولي عليهـا والاستخفاف الذي تلاقـيه من الرجال،فدافع في سبيل رفعة المرأة وناضل عن حرمتها وكرر دفاعه في أكثر شعره وأوقـف على نصرتها جل حياته،ونادى باسمها وحث على الاهتمام بها والإصغاء لها،يقول ذلك ولا يبالي بطش ظالم أو غضب ناقم ٍوكثيراً ما تحمل في سبيل ذلك الشتم والإيذاء ” .

في هذه القطعة المختارة من النص ثمة مفردات دالة ووقوف على المترادف إلى حد،بقدر ما تكشف عن ذوق في الاختيار ومعنى أنْ يؤثر هذا دون ذاك من الألفاظ،وفيها استرسال وتداع ٍ تقتضيهما طبيعة الموضوع لكن لا يخفى إنـها ليست من صنع كاتب متمرس قطع في الكتابة شوطاً وجاوز مرحلة البدوة في نظر العارف المدقق فـي الأساليب والتعابير،بقدر ما هي من وضع كاتب مبتدئ جل اعتماده على المسودة أولاً وبحاجة إلى مزيد من القراءات لتتسع آفاقه ويزداد فهمه وتتنامى معرفته وإلا فأسلوبه وصياغته لا غبار عليهما،وليس هو بحاجة إلى نصح وتوجيه في مجانبة التصنع والتفصح،والتباعد عن الإغراب والإعضال،إنـما هـو أحوج إلـى شيء من التظرف والانسلاخ من فرط الجدية الغالبة على الأسطر الأخيرة من هذه القطعة ليجري على الانسياق بوحي الطبع والسجية ويعتاده أكثر،مثلما كان يصنع الكـتاب المصريون الأوائل في تلك الفترة المنطوية من أيام صباه وشبيبته فبداية وعـيه حيث غدت المقالة الأدبية هي الأشيع من بين فنون الأدب،خبر الناس ما يلزم لها من شروط وخصائص،أبينها أنْ تكون لدى الكاتب فكرة أو جهة نظر حيال ظاهرة اجتماعية لو احتكمنا إلى ذمـة العقل والمنطق والمصلحة العامة لغدت مرفوضة أصلاً ،أو بصدد واقع ٍأدبي يلفي الأغلب عليه فقدان المقاييس وغمط الحقوق وعدم العرفان بأولي الفضل وجحد أعمالهم واستهوانهم وترجيح مَن دونهم في المواهب والمعطيات في مناسبات التكريم وعند إثابة الجهود وتقويمها،أو حول شاعر منسي لقي من جحود الناس وتنكرهم له وتماديهم في الافتراء عليه وتحوير آرائه وفلسفاته وتشويهها،ما زهده في الحياة ورغبه عنها،وغيرها من الموضوعات التي ترفد كاتب المقالة الأدبية بشيء من الألم غير الموجع والاستنكار غير الصارخ ولا الصخاب،ويظل محتفظاً معه بقابلياته وإمكانياته على صوغ ما ابتعثه هذا الحال المقرف في نفسه من مشاعر وأحاسيس،مرتكزاً على حسه المرهف وذوقه الرفيع في تخير اللغة السهلة الواضحة الخالية في سياقاتها وتراكيبها من أيما تنميق وتزويق،والعادمة أيضاً أيما معضل معقد من الكلام .

ولعل المقالة المعنونة (لا نريدها منقحة) التي كتبها الطاهر ونشرتها مجلة (الأديب) البيروتية في أحد أعدادها الصادرة في عام 1965م،خير أنموذج للمقالة المستوفية الشروط والمياسم سالفة الذكر،فقد جاءت محيطة بأكثر من قصد،من المقاصد التي ألمعنا إليها يومَ شرعت دار الحكمة ببيروت بإعادة طباعة كتاب (تاريخ النقد الأدبي) للأستاذ المرحوم طه أحمد ابراهيم،وبدافع تجاري صرف شاءت أو أباحت لنفسها أنْ تطبع أو تسجل على صفحة الغلاف الأولى هذا الكلام المبتور الذي لا يصح نعته بجملة تامة :- (مُزيدة مُنقحـة) هنا انتفض علي جواد الطاهـر متسائلاً من تكفل بهذه الزيادة والمؤلف متوفى في عام 1936م،وأين هذه الزيادة المزعومة وموضعها من كتابه ؟ وهل تختلف الزيادة المضافة،إنْ صحتْ،في النسج والصياغة عن الصحائف التي تركها المؤلف واضطلع من بعد صديقه أحمد الشايب بنشرها،مثيباً جهوده،مشيداً بسبقه إلى هذا الضرب من التأليف،فما الأحكام والتخريجات التي انطوت عليها الزيادة الموهومة،لا فالكتاب المطبوع ثانية هـو بعينه الكتاب المطبوع في الأولى،لو ألزمت نـفسك بتدقيق ذلك وتحريْتَ عنه وأجلتَ فيه نظرك صفحة ًصفحة ًوسطراً سطراً لكنـه الطمع الأشعبي واستغفال القارئ والدارس،لاسيما أن الكتاب تنوسي خلال مدة طويلة بعد أنْ تتلمذت عليه أجيال،وتنكر له قوم واستهونه آخرون،رغم انـه في عداد النفائس،هو الذي جوز لأصحاب دار الحكمة أنْ يغامروا ويجترئوا فيطلقوا هذه الأكذوبة .

ويموت الشيخ محمد رضا الشبيبي في تلك الآونة،عام 1965م،و يكتب الطاهر كلمته موافياً بها مجلة الأديب من مغتربه،في الجزيرة العربية،وتاريخ الشبيبي حافل بالعظائم والمفاخر والمواقف المشرفة والمواجهات الحادة مع ممثل الغاصب المحتل عميد الاحتلال البريطاني،ومع الأجراء والصنائع ومدعي الوطنية،وهو محض النزاهة والترفع والتجرد وكان بوسعه أنْ يكون ثرياً كبيراً لو طامن من نفسه وآثر المهاودة في تبكيت من فرطوا بالأمانة وخانوا العهد،ثم هو” شاعر ناثر،وزير معارف ورئيس المجمع العلمي العراقي وعضو في مجامع أخرى ورئيس مؤتمر المجامع العربية القائم في بغداد أثناء إذاعة نبأ وفاته ” وحق هذه الجوانب أنْ يفيض فيها بحث ضافٍ،كبير،يتولى إعداده مؤرخ متمرس،لكن أشهد أن مقالة الطاهر غداة نعي الشبيبي،وقد خلت من الإطناب والإسهاب،واقتصرت على الإجمال دون التفصيل،وصورت حزن الأديب من جيل متأخـر ٍعلى الأديب من جيل متصرم ٍمهد بسعيه وجهاده وتضحيته لسعادة التالين،تغني بشموليتها وحسن استيعابها و تفهمها للمناسبة وما يتركه النبأ من أصداء عن موضوعية المؤرخ وتقصيه وراء الحقائق ودعواه عن الإنصاف ” لم يبق مترفعاً إلا قليلون،قليلون جداً ،لأن المغريات بالحرام كثيرة،ولم يكن العفاف سهلاً في الظروف التي مرت بالعراق منذ ثورة العشرين وقبلها وبعدها،ولا يمكن أنْ يكون سهلاً إلا على عددٍ محدودٍ،ولابد من أنْ يكون لهذا العدد مناعـة خاصة – وقـل عبقرية – عمل على تكوينها تاريخ طويل من تلقي الظلم وفهم أسراره وإدراك وقع سهامه،ومن تربية صالحة ونية مخلصة،وسيفرد تاريخ العراق لهذا النفر سفراً خالصاً ،مليئاً بالإعجاب والتقدير،لقد كان هذا العدد القليل أوسع أفقاً وأبعد نظراً وأسمى غاية ً،إنـه يسعى لمجموع البلد ومجموع الأمة لم يكسب الشبيبي من حطام الدنيا شيئاً يذكر،وكيف يكتسب من ترفع عن المال الحرام،ولم ينزلق إليه يوم تهيأ سهلاً فانزلق فيه كثيرون ” .


ليس هذا ضرباً من الإنشاء العاكس لمعان ٍسطحيـة وأفكار ضحلة،تقرؤه قراءة ًأولى فيبهرك وتجدك مسحوراً بفنه وروعته وإشراقه،حتى إذا فرغت منه وفارقته بعض زمن،غادرك هو ولم يتبق في ذهنك ووجدانك من لمحه شيء .

لنا أنْ نحمد لعلي جواد الطاهر بيانه المشرق وأسلوبه الفصيح،والكل يكتبون بلغة فصيحة،لكن الطاهر يمارسها عن علم ويحيط بأدبها عن دراية ويعالج بيانها عن فقه ويصدر به عن طبع سليم .

وإلا بمَ تفسر اعتراضه على مؤلفي الموسوعة العربية الميسرة وهم أكثر من مائة أستاذ جامعي جندتهم وطوعتهم مؤسسة فرانكلين لإعدادها مستفيدة من خبراتهم في جمع المادة الأدبية واللغوية ومؤاخذته لهم أنْ كتبوا فيها ” إن ادغار الن بو وافته المنية بسبب إفراطه في الشراب ” فيعقب ” إن الشق الأول من الجملة غير متسق مع الشق الثاني،لأن وافته المنية توحي بما يكرم الاسم المذكور بالحالة التي مات فيها،كأن تكون المنية قد وافته في أحد ميادين الشرف ” .

وكذلك تحديده لمدلول عبارة استفحل أمره في جبل العروس التي ذكرتها الموسوعة بخصوص الثائر المغربي أحمد بن محمد الرسولي،إذ يخاله تعبيراً رامياً إلى ” الحط من شأن من يعود الضمير عليه، والأولى فيه أنْ يصدر عن فرنسي في ثائر ٍمغربي عربي ” .

بمَ تفسر هذه النقدات اللاذعة والوخزات الموجعة بغير تجهزه بعدة وافرة من أسرار اللغة العربية والتهيؤ لتطويعها عند الحاجة في استعمال مفرداتها على الوجه الصحيح الـذي يتسق مع المنطق ولا يتنافى ويتعارض مع الذوق الفني الذي هو أول أداة من أدوات النقد والنقد التأثري،قبل أنْ تطغى عليه النظريات ويستجيب لدواعيها وبواعثها وضغوطها .

وقـد تأتى للدكتور الطاهر أنْ يأتم به الشباب من الأدباء الواعدين الذين لم تكن بداوتهم،كما في الأول المعهود عن الأجيال الأدبية الغابرة في أمس البعيد،منطلقة خارجة من جبران،والمنفلوطي،بلْ جهدوا في تداول النتاجات المترجمة عن الغربيين ولو أنـها ترجمات سريعة غير موثوقة في معظمها،فصاروا يحدثـونك عن فوكنر،وشتاينبك،وهمنجواي،وباسترناك،وحتى منْ لم يكن لهم شأن وأهمية في بلدانهم أو أنـهم معدودون من أدباء الدرجة الثالثة أو الرابعة هناك ،وليس ضرورياً للأديب العربي أنْ يتشرف بالانفتاح عليهم،والمتيسر من تراثه الثقافي لا يبلغه العد أو الإحصاء،ينقضي العمر ولاينتهي في قراءة بعضه الأقل وتمحيصه وتفرسه واستيعابه .


ويظن أولاء الشباب أن القصة أجدر الفنون الأدبية بالتناول،لاسيما أن مجتمعاتنا تزخر بالمفارقات والنقائض،الشر كثيرٌ والباطل متفش ٍ،والزيجات لم تكن بالأساس قائمة على الاختيار والتكافؤ،والغني هـو سيد الموقف،وبوسع أي كان من أصحاب الثروات أنْ يفوز ويحظى بما يتوق له،دون أنْ تعضده في ذلك موهبة أو يشد أزره عقل،بينما يخيب الإنسان الكامل الصفات من ذكاء ونجابة وطيبة متناهية لا تنفع كلها بإزاء المداهنة والمراء والغش والتدليس،فالموضوعات التي تصلح للكتابة القصصية كثيرة متشعبة،إذا توافرت الموهبة وتأدت للكاتب لغة طيعة تفيده في رسم الأشخاص،مستنداً إلى قيمةٍ فلسفيةٍ ومضمون اجتماعي وامتلاك نزوع القارئ لمعايشـة الجو الذي يصطرعون فيه واختتامها بنهاية تزخر بالمتعة وتستأثر بإعجابه وانبهاره في غير افتعال واختلاق وانسياق في الوهم والتخيل،وإثقالها بالحكم والنصائح الجاهزة والخطب الممجوجة،قبل أنْ يكون هَمه أولاً تصوير الصراع العميق الكامن في وجدان الإنسان في لحظة معينة ومكان محدد،وقد ألم الطاهر بشيء من هذه الأصول والقواعد ونصح للشباب أنْ يجروا على منوالها ويقتفوها ويضعوها نصب أعينهم في أول ِمقال ٍضاف نشره في المعلم الجديد عام 1957م،وحذرهم أنْ يتدخلوا ويجعلوا من القصة وبنائها وعاءً يودعونه أفكارهم وخواطرهم،وتلاه بدراسات للقاصين البارزين في تلك الفترة أودعها كتاباً طبعته بيروت ملحـقاً في نهاياته مختارات من نتاجهم ألـفاها أدل على إبداعهم وأبينها ارتباطاً بالواقع الراهن يومذاك،لكن دون ان يشتط في إدانة بعضهم على تساهلهم في اللغة وتجويزهم لأنفسهم أنْ يحسبُوا على الفصحى من المفردات ما لا وجـود له في قاموسها أصلا ،من قبيل (فسدان) وقد عنى بها كاتبها أو مفتعلها فساداً وكذلك عدم تفريقهم بين المذكر والمؤنث،فأحدهم يخال (بطن) مذكرة وحقها التأنيث ويستعمل في سياق تعبيره وفي مواضع متقاربة (كأس) مذكراً ومؤنثاً معاً ،وكدنا أنْ نصير هـذا الكاتب مجرد كذبةٍ كبيرةٍ مثلما تفطن الطاهر إبان شيخوخته وظن أن الزهاوي الذي احتفل قديماً أبان شبيبته ومحضه إعجابه،فخاله هذه المرة كذبة ًكبيرة ًبعد أنْ استقامتْ لغته واتسع تفكيره وأوفى من الأداء الفني وشرائطه وخصائصه على غاية مداه،معرفة ًوتذوقاً واكتناهاً .

وفي بداية الستينات شرع بالكتابة عن محمود أحمد السيد وتسنى له طبع كتابه عنه في أخرياتها، وكان جاوز هذه المرة وحاد في تقويمه عن جميع العثرات التي أباح لنفسه الوقوع فيها أو تسمح بعض الشيء حاسباً للريادة شأنها أو إنـها تشفع للكاتبين أنْ أخلو بأمر اللغة أو استهونوا قواعدها وأصولها، فتدارس تراث محمود أحمد السيد مستقرياً العلاقة بين نتاجه وبين نشأته وخلقه ومزاجه مروراً بالتجارب القاسية التي خاضها وابتعثت في نفسه شعوراً بالضيق والكآبة وإحساساً بالغبن والإجحاف،وعدته هذه المرة أنْ يغلب ذوقه ويرجع إليه في تسجيل انطباعاته وأحكامه،ونحسبُ أن الذوق وما يعقبه من تأثر يرجح على مختلف الأقيسة ويربو في موضوعيته وإنصافه وسداده على منطق النظريات وما تلزم به من توجيهات وتعليمات يمتلك أصحابها حق الوصاية على الأدباء أنْ ينهجوا هذا النهج ويترسموا هذه الخطة ويحيدوا عن غيرها بمسافة أشواط،وكذا يقيم لكتاب (النكبات) الذي يضم مجموعة من أقاصيص محمود السيد بالقول :- “… وكل ما في أمره أنـه أقرب إلى الخطابة حيناً ،وإلى المقالة تارة، والمجلس الوعظي، والانفعال العاطفي مرة، والمؤلف يتدخل ويخاطب القارئ ولا يكاد يخفي نفسه،فهو الطاغي والماثل أمامك . 


أما اللغة فقد ازدادت متانة ً،وانـك لتعجب أحياناً أنْ تكون إزاء شاب في حوالي العشرين من عمره،لأن لغته في سبكها ونصاعتها وبلاغتها وتدفقها،تقرب من لغة الموهوبين من شيوخ الأدب العربي. وصحيح أن فن القصة لا يستدعي تلك البلاغة،إلا أنـها صفة يجب أنْ يشار إليها لاسيما أن المؤلف يكتب فيضاً من المقالات الإنشائية أو يلقي سيلاً من الخطب الحماسية،وللمؤلف في (النكبات) هدف واضح وصريح،دعوة بني قومه إلى نبذ الرذائل من كسل وجمود وتقليد غير صائب وما إلى ذلك،ودعوتهم إلى التنبه إلى ما هم عليه من سوء الأحوال وفساد المقاييس،ومن أنانية وباطل،وما للمواهب من ضياع،وما عليه المرأة من ضيم وما للغني فيهم من غطرسة،وللسلطان من بطش،ولما يلقاه أهل العلم والفضائل من ضيق . إن المؤلف يدعو ويستنهض،والقارئ يحس بشدة إخلاصه فيما يقول،وشدة صلة الكلمات من نفسه وأعماق نفسه،إن صوته يكاد يبح،وإن دماغه ليكاد يحترق،وإن ألمه ليكاد يفقد العقل،إن الأفكار أو الفكرة تتركز وتتعقد،فيظل يدور حولها،ويصبح هذا الدوران شغله الشاغل في ضروب من الهوس،وتلتقي هذه الأفكار وتشتبك وتتعقد،ولا يستطيع أنْ يحلها الفكر الطري،وتنوء بعبئها النفس الغضة، ويضعف تحتها العصب الرقيق،لأنـها فوق الطاقة وأكبر من السن ” .

وقد يكون من قبيل التواضع المحمود أن يضيق الطاهر على نفسه صفة الناقد وناقد القصة بالذات ويضائل منها في أعين الناس،على حين أنـهم يعلقونها به ولا يمارونه في ذلك،وهي لو محصنا مجمل نتاجه المتوزع في جوانب ومناح ٍ شتى لألفينا أن كتابة النقد القصصي هي الأقل والأدنى بالنسبة إلى ما كان يراد منه وتقتضيه واجبات الأستاذ الجامعي من إعداد المباحث الرصينة ونجاز التحقيقات العلمية المضبوطة لبعض دواوين الشعر العربي وبيان فوات المحققين لبعض كنوز التراث العربي،والنقدي منه بشكل خاص متخيراً المجلات الأكاديمية الرصينة ومؤثراً إياها بنشر هذا الفوات،الذي اتسع وامتد إلى الموسوعات والمصنفات الكبرى الباذخة التي تحوج لتحقيقها فرداً مؤهلاً ومن طراز خاص كالدكتور احسان عباس الذي امتدحه الطاهر وأشاد بدالته على الثقافة العربية وشهد له بتعدد اهتماماته وأنـه مبرزٌ فيها جميعاً وذلك في خاتمة استدراكاته الدقيقة على كتاب وفيات الأعيان،الذي أخرجه احسان عباس نفسه،وتكفلت مجلة المجمع العلمي السوري بنشر تعقيباته وملاحظاته تباعاً في أعدادها الصادرة فـي الستينيات،ثم أولاها المجمع اهتمامه وحفاوته بها فأصدرها بكتاب خاص أسماه :- (ملاحـظات على وفيات الأعيان) .

وكذا يبين أن الراحل العـزيـز ما كان راغباً أصلاً أنْ يفارق سمته وينزع عنه صفة الأستاذ الجامعي يباري غيره من الأساطين في توجهاتهم وتطلعاتهم،فمن المبالغة والتهويل أنْ تلصق به صفة المنهجية في نقده القصصي،وتعني التزاماً بخطة يترسمها في التوصل إلى استنتاجاته واستقراءاته عن مدى غنى هذا النص القصصي بالأصالة الفنية أو خلوه منها،مستعيناً بالمظان والمراجع لتوثيق آرائه وانطباعاته،كما رام أحد الأدباء ذات يوم أنْ يضفيها عليه مهللاً لامتلاكه ” قدرة ًعلى التشخيص والفهم ” مقرونة باهتدائه أيضاً إلى ” لغة أيسر وطريقة عرض شيقة* ” ليخلص إلى محصلة قوامها انتعاش المقال النقدي العراقي حتى عام 1988م،بحسب تعبير ذلك الأديب،غير المستوثق من دلالات الألفاظ ومعانيها الدقيقة،بشكل بين ٍواضح،وإلا فالمنهجية،ليست مما يدان بها الناقد ويهون من شأنه،بل هي نظرية نقدية تعتمد أصولاً معينة في فهم الأدب وفي اكتشاف القيم الجمالية والنفسية والفكرية والاجتماعية في العمل الأدبي،وتصلح للدراسات الأدبية أكثر من صلاحيتها أو انطباقها على مقالةٍ مُبتسِرة وجيزة يضمنها الكاتب خطراته وآراءه بشأن قصة من القصص،ينزع إليها بعامل التأثر ويسوقه إليها ذوقه الفني،حيث لا خطة تحتذى ولا منهج يُتبع،ولعل ذلك الكاتب واهمٌ في حسبانه أن انخراط ناقدٍ ما في عداد الأساتذة الجامعيين لابد أنْ يقتضيه ويتطلب منه التزاماً بخطةٍ ما أو طريقة يحرص على مراعاتها كل آن ٍفي إعداد أي من نتاجاته،وكأن لاحق له في إرسال نفسه على سجيتها أو إطلاقها من آصار التزمت والركون كل مرة إلى سند أو دليل . 


من المخطوط الذي أبقاه ولمْ يتسن له طبعه في حياته،على كثرة ما نشره من الكتب التي صدرت تباعاً في عقد الثمانينيات،بشكل مذهل،ولافت للنظر،كتاب يتناول فيه سيرة الشاعر المكافح فؤاد الخطيب الذي لم تخلُ حياته من مفارقة،فقد شارك في وقائع الثورة العربية في الحجاز وأذكى ضرامها بشعـره القوي المتين،لكنـه أمضى العقود الأخيرة من حياته مقيماً في الجزيرة العربية،في المملكة السعودية بالذات . معتبراً هو النازح من لبنان،الديارات العربية بأجمعها وطنه،غير محتسب للتقسيمات الجغرافية والحدود الوهمية شأناً ،وشغل وظائف مهمة في تلك الربوع،آخرها منصب سفير ٍعنها ولها في بلاد الأفغان لغاية وفاته عـام 1957م،ونقل جثمانه إلى لبنان حيث دُفِنَ في فسحةٍ منه،ليس في هذا السلوك أي ملمح من انتهازية مقيتة لو استعرض القارئ المطلع الواعي مسار الحوادث المتعاقبة على أديم الوطن العربي الكبير،وأدرك بفطنته ما خلف التلميح والإيماء،من حقائق ووقائع .

ورغم أن فؤاد الخطيب زار بغداد عام 1937م،مشاركاً في تأبين الزهاوي،لم يكن مما يستدعي أي مثقف في العراق أنْ يتفرغ لترجمته وتحليل شعره،لأنـه محدود الشهرة على ما عرض له في حياته من مخاطر وأهوال،أبرزها الاستهداف لعقوبة الإعدام جراء جراءته و جلاده ومنافحته عن حقوق العرب،لكن يبدو أن لإقامة الطاهر في كنف الجزيرة العربية ردحاً من الزمن وقيامه بتدريس الآداب العربية ونقدها في جامعة الرياض،واتصاله بالأدباء هناك وتعريفهم إياه بما تختزنه ذاكرتهم من انطباعات عن فؤاد الخطيب ودوره في النهضة الحديثة، فشاطرهم إعجابهم وحفاوتهم بشعره المحفز الأقوى على التأليف فكان الكتاب الرائع الموعود به نتاج تينك المشاطرة والحفاوة .

وهناك كتب أخرى كان المظنون أنْ ترى النور أبان حياة المؤلف،مسجلة ضمن قائمة مؤلفاته،من المطبوع والمخطوط،الملحقة بكل كتاب يفرغ من طبعه ويقدمه إلى الوسط الثقافي،وثمة كمٌ هـائلٌ من المقالات المنشورة في مجلات شتى أحرى أنْ تنتظمها كتب من أنْ تظل مبعثرة ًمتفرقة ًفي المجلات .

وبعد فقد كان الأستاذ الدكتور علي جواد الطاهر كاتباً غزيرَ الإنتاج،لا يشتكي أيناً ولا لغباً في بحثه وتنقيبه،كان يعي أن له رسالة لا محيص من تأديتها،في تربية الجيل وتهذيبه وتدريب سليقته ورياضته على تذوق الآداب،وقد توافر له من خصال التبسط والتواضع ما جعله جديراً بالإكبار والاحترام . لمْ يلق القلم من يده حتى الشهور الأخيرة وهو يغالب أوجاع السرطان ويقاومه بإصرار على البقاء مدة،فاعجب لهذه العزيمة الماضية والشغف بالكتابة بينا يفتك به الداء ويستنفد منه مايستنفد قوته وحيويته ونشاطه الذي فتر وتضاءل مؤذناً بالرحيل إلى عالم البقاء الحقيقي .

ففي ذمة الله والحق والوطن أيها المواطنُ العزيز .

هناك تعليق واحد:

  1. رحم ﷲ علي جواد الطاهر كان علماً لا يضاهى من اعلام العراق والوطن العربي

    ردحذف