أخر الأخبار

.

الاكتشافات المتأخرة في حرب العراق

الاكتشافات المتأخرة في حرب العراق






عراق العروبة


رغيد الصلح


انشغل الرأي العام البريطاني خلال الأسابيع الماضية بقضية وزير الطاقة البريطاني السابق كريس هوهن ومطلقته فيكي برايس . وقد استأثر الاثنان بالاهتمام بعد أن ثبت أن هوهن ارتكب مخالفة سير، ولكنه ادعى أن زوجته هي التي ارتكبت المخالفة . وتحملت برايس راضية العقوبة التي انحصرت في حرمانها من السواقة لفترة محددة.

ولكن برايس ما لبثت أن انقلبت على زوجها وكشفت الحقيقة للسلطات المختصة انتقاماً منه، عندما اكتشفت أنه كان يخونها مع امرأة أخرى . وانتهى الأمر بالاثنين إلى دخول السجن لكي يقضيا فيه ثمانية أشهر . فضلاً عن ذلك، فقد خسر الاثنان عملهما ومكانتهما في المجتمع فدفعا ثمناً باهظاً جراء الكذبة “الرمادية” التي مارساها وتضليل السلطات القضائية والإدارية المختصة .

يذكر الكثيرون في العالم هذه الأحداث بإعجاب وإكبار لمزايا الديمقراطية البريطانية التي لا تتسامح مع الذين يضللون البرلمان والحكومة والرأي العام والقضاء . ورغم أن سقطات هوهن تبدو صغيرة بالمقارنة مع الارتكابات التي تمارس في الكثير من البلاد التي لم تتوطد فيها الأصول الديمقراطية، فإن الأنظمة الديمقراطية الراسخة تأبى تجاهل المخالفات الصغيرة والسكوت عنها .

إن التساهل تجاه ارتكاب الصغائر قد يشجع المواطنين، وخاصة أهل الحكم والنفوذ على ممارسة الكبائر فتفسد الحكومات والإدارات وتنهار المجتمعات . وبديهي فإن الأنظمة الديمقراطية لتشدد في مكافحة الكبائر، ولكن هل هذا ما يحصل فعلاً في الديمقراطيات المتقدمة؟ هل تلتزم النخب الحاكمة في هذه الديمقراطيات مبادئ المحاسبة والمساءلة والشفافية تجاه من يخرج على القانون مهما علا شأنه ومهما كان عذره؟

تجتهد النخب الحاكمة في الديمقراطيات المتقدمة في تطبيق هذه المبادئ والقواعد تطبيقاً عادلاً، خاصة أنها تدرك أن هذا الالتزام هو واحد من مصادر مشروعيتها الرئيسة . ولكن بمقدار أهمية التطبيق العادل لمبادئ المحاسبة والمساءلة ومكاشفة الرأي العام، بهذا المقدار نفسه، يحار المعنيون بالشأن الديمقراطي في تفسير سلوك بعض الحكومات والحكام في دول ديمقراطية متقدمة ومواقفهم تجاه قضايا تمس مصير بلادهم وتؤثر إلى حد بعيد في مصير المجتمع الدولي .

خلال الأيام المنصرمة قدمت الأحداث نموذجاً حياً على هذا النوع الأخير من الحالات التي تثير التساؤلات . ففي هذه الفترة تزامن دخول هوهن وبرايس السجن مع مرور عشر سنوات على الحرب على العراق . هذه المصادفة جعلت الكثيرين يقفون حائرين عند المقارنة بين المصير القاسي الذي تعرض له هوهن وبرايس، ومصائر حكام أقسموا على احترام القوانين والقيم المرعية، ولكن تراكمت الأدلة والبراهين خلال السنوات العشر على أنهم دأبوا خلال هذه الفترة على تضليل الرأي العام . وأخطر ما في الأمر هنا هو أن أولئك الحكام لم يمارسوا تضليل الرأي العام الدولي فحسب، ولكنهم مارسوا تضليل الرأي العام في بلادهم تحديداً . إن الرأي العام الدولي لا يستطيع تغيير الحكومات في أي بلد ديمقراطي ومن ثم فإنه لا يمكنه معاقبة رئيس ضلل المجتمع الدولي، أما الرأي العام المحلي فإنه يستطيع تغيير الحكومات، ويستطيع معاقبة الحكام الذين يجرون بلادهم إلى خيارات الحرب والسلم خلافاً لإرادة الشعوب . من هنا خطورة التضليل الذي مورس في الديمقراطيات المتقدمة تبريراً للحرب على العراق .

قدم المسؤولون الاميركيون والبريطانيون سببين رئيسين لتبرير الحرب على العراق: السبب الأول، تلخص في أن العراق كان يملك أسلحة الدمار الشامل وأنه كان قادراً على تجهيزها للاستخدام خلال “خمس وأربعين دقيقة”، فضلاً عن أنه كان قادراً على تمريرها إلى منظمات إرهابية تهدد بها أمن المجتمع الدولي وسلامته . وأثبتت أحداث الحرب ونتائجها أن هذا التبرير كان باطلاً، ولكن الزعماء الأمريكيين والبريطانيين الذين تحملوا مسؤولية الحرب قالوا إنهم لم يكونوا يعرفون هذه الحقيقة قبل وقوع الحرب، وإنهم اتخذوا قرار الحرب معتقدين أن النظام العراقي السابق كان يملك فعلاً، أسلحة الدمار الشامل . ولكن هذه التقارير والكتب والدراسات التي صدرت خلال السنوات العشر الأخيرة أثبتت بما لا يقبل الشك أن أولئك الزعماء كانوا على علم بأن العراق لم يكن يملك مثل هذه الأسلحة . أكثر من ذلك، ذهب التلفزيون البريطاني الرسمي (بي . بي . سي) في برنامج بعنوان “الجواسيس الذين خدعوا العالم” الذي عرض يوم الاثنين الفائت إلى التأكيد أن الزعماء الأمريكيين والبريطانيين (في بريطانيا-توني بلير تحديداً) لم يكونوا يعرفون هذه الحقيقة فحسب، بل إنهم وجهوا تعليمات إلى الإدارات الأمنية المختصة بتعديل تقاريرها بحيث تعطي الانطباع أن العراق كان يملك تلك الأسلحة .

السبب الثاني الذي قدم تبريراً للحرب، هو أنها سوف تفسح المجال أمام تطبيق النظام الديمقراطي، ليس فقط في العراق ولكن في المنطقة العربية بأسرها . ترى هل كان هذا الهدف السليم في حد ذاته سبباً للحرب؟ يعدد لاري دياموند المحرر المشارك لمجلة “الديمقرطية” الأمريكية في مقال بعنوان “الخطأ والصواب في العراق” الأسباب التي حالت دون نجاح الولايات المتحدة في تطبيق النظام الديمقراطي في العراق، فيرى أن من أهمها هو أن إدارة بوش لم تكن مستعدة لتحقيق المصالحة الوطنية العراقية التي تشمل من جهة، الانقلابيين الذين جاءت بهم إلى السلطة في العراق، ومن جهة أخرى، مئات الألوف من المواطنين العراقيين الذين عملوا في خدمة الدولة العراقية من دون أن يتورطوا في أعمال القمع الدامية ضد المعارضين . السؤال هنا هو لماذا لم تكن إدارة بوش مستعدة لتحقيق تلك المصالحة؟ أساساً: هل كانت إدارة بوش قادرة أو راغبة في توفير الأجواء والشروط المناسبة لولادة عراق ديمقراطي؟ أكثر الذين أجابوا عن هذا السؤال، بمن فيهم لاري داياموند، بالنفي .

إذا لم تقرر إدارة بوش الحرب على العراق بغرض تدمير أسلحة الدمار الشامل لأنها كانت تعرف أنها غير موجودة فيه، وإذا لم تنفذ الحرب بغرض “اجبار” العراق على تطبيق الدمقراطية، إذا ثبت بطلان هذين الزعمين، لماذا قاد بوش وبلير بلديهما إلى الحرب إذاً؟ يعتبر جورج سوروس في كتابه “فقاعة التفوق الأمريكي” أن خدمة المصالح “الإسرائيلية” إلى جانب المصالح النفطية الأمريكية شكلا الحافز الرئيس إلى خوض الحرب ضد العراق . ولكن في العالم كثيرون يعتقدون أن قرار الحرب على العراق لم يكن أمريكياً بل كان “إسرائيلياً”، وأن “إسرائيل” سوف تكرر هذه القرارات حتى آخر جندي أمريكي قادر على القتال والقتل . قد يكتشف الأمريكيون هذه الحقيقة عام ،2023 ولكن هذا الاكتشاف سوف يكون متأخراً بكل تأكيد. 

0 التعليقات: