التغريبة الموصلية: موت مستمر ووجع متجدد
التغريبة الموصلية: موت مستمر ووجع متجدد
عراق العروبة
فارس الياس
منذ أن سيطر تنظيم داعش الإرهابي على مدينة الموصل في يوم 9/6/2014 وشلال الدم النازف من سكانها لم يتوقف، فقد أصبحت هذه المدينة خاوية على عروشها، بل يصح القول ألا نكبة توازي نكبة أهلها، فلا حكومة قادرة على توفير الخدمات والإعانات الضرورية لمواطنيها، ولا طائرات التحالف الدولي ترحم أهلها، ولا تنظيم «داعش» قادر على التخلص من سجله الإجرامي بحق أهلها .
فأصبح حال أهلها بين نازح ومهجر أو جثة هامدة تحت ركام الظلم تنتظر من يأتي لإكرامها، هذا ما يحصل في الموصل الآن، فما حدث في منطقة موصل الجديدة في الجانب الأيمن قبل أيام يفوق ما فعله النازيون خلال الحرب العالمية الثانية من قتل وتدمير وتشريد .
تركت الأعمال والسلوكيات التي قام بها تنظيم «داعش» الإرهابي ذعراً ورعباً بين كافة المكونات في مدينة الموصل، وسعى التنظيم بأعماله الإجرامية إلى إذلال الناس وإخضاعهم لإرادته ومشيئته، وتعرضت الأقليات غير المسلمة إلى إبادة جماعية، وشمل التهجير الطوائف المسلمة وغير المسلمة، ويقدر عدد المهجرين والنازحين من المكونات المختلفة بأكثر من مليون نسمة، وقام «داعش» بحملات منظمة للاعتداء على المعتقدات والرموز الدينية لكافة المكونات، عبر تفجير وتدمير المراقد الدينية والكنائس والمعابد والحسينيات ونبش القبور، وغير ذلك من الأعمال الهمجية، وبذلك قضى على أي شكل من أشكال الحياة في المناطق التي خضعت لسيطرته .
وبعد انطلاق العمليات العسكرية لتحرير المدينة من سيطرة هذا التنظيم، أخذ ابناء هذه المدينة يواجهون مصيرهم المجهول، والتنظيم يتفنن في استخدام المواطنين دروعا بشرية في مواجهة القوات المحررة، وتحديدا في معارك الجانب الايمن من المدينة .
تواجه الحكومة العراقية اليوم كارثة إنسانية بسبب العجز عن استيعاب النازحين من المدينة اثناء تحريرها، وأفادت منظمة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بناءً على تقارير صادرة من لجنة الهجرة والمهجرين في مجلس النواب العراقي، بأن عددهم وصل إلى أكثر من ثلاثمئة الف شخص، وكان قد نزح منها ما يقرب من 100000 شخص بعد الاسبوع الأول على انطلاق الحملة العسكرية .
وأعلنت المنظمة الدولية في بيان (أن وكالات الإغاثة تبذل أقصى جهدها، وسط تطور الأوضاع في شكل سريع)، وأضافت (نحن نجهز أنفسنا لمواجهة موجة نزوح أخرى في الأيام القليلة المقبلة، ونقدر أن الآلاف ما زالوا في المدينة)، ونبه تقرير للمجلس النرويجي للإغاثة إلى «وجود عشرات الأسر، بينها فئات من الأكثر ضعفاً، فضلاً عن نساء حوامل وكبار في السن»، وعجز المجلس عن تقديم المساعدات المطلوبة، بعد نفاد الطعام والمياه في شكل سريع .
الذي يحدث في الجانب الأيمن من مدينة الموصل وتحديدا ما تبقى من مناطق تحت سيطرة التنظيم، ينذر بوقوع كوارث إنسانية لا تقل بشاعة عن الجريمة التي حصلت نتيجة التصرف الطائش والمقصود من قبل طائرات التحالف الدولي في منطقة الموصل الجديدة، الذي راح ضحيته 500 شخص اغلبهم من النساء والاطفال، وما زالت جثثهم تنتشل من تحت الانقاض، كما ينبغي عدم الاكتفاء بتشكيل لجان تحقيقية من قبل مجلس النواب، الذي فشل هو الاخر في اداء دوره الأخلاقي والسياسي، بعدم التصويت على اعتبار مدينة الوصل مدينة منكوبة، ولا يقل مجلس محافظة نينوى هو الاخر فشلا عن مجلس النواب، فحتى المحاولة الأخيرة التي قام بها من خلال إعلانه اعتبار مدينة الموصل مدينة منكوبة هي محاولة تنم عن مدى السقوط الاخلاقي، لعلمه بعدم وجود أي اعتبارت قانونية أو سياسية لهذا الاعلان، وانما هي محاولة لذر الرماد في العيون وتخفيف الضغط عليه، كما أظهر فشلاً ذريعاً في الملف الخدمي وتقاعسه في أداء دوره الإنساني حيال أهالي المدينة، ويبدو أن السيد المحافظ وجد أن افضل شيء يمكن القيام به لأسعاف النازحين والمنكوبين، قيامه بتوزيع الشوكولاته عليهم لسد جوع بطونهم الخاوية .
أما على المستوى العسكري فيظهر أن هناك توجها واضحا من قبل التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية إلى حسم معركة الجانب الأيمن من الموصل ضمن مدة المئة يوم التي حددتها إدارة ترامب، ولعل الاستخدام الكثيف للقوة النارية والتصرف غير المسؤول في كثير من مراحل العمليات العسكرية التي يوجهها المستشارون الأمريكان من قاعدة القيارة ومطار الموصل، تكشف لنا أن الفاتورة البشرية في تصاعد مستمر، خصوصا في ظل إصرار عناصر التنظيم على الاستمرار في اتخاذ المدنيين دروعا بشرية، مقابل انعدام وجود أي فرصة لفرارهم من المدينة، بعد قطع كل سبل الهرب إلى سوريا، نتيجة ضغوط إيرانية أمريكية اوروبية على الحكومة العراقية لاحتواء عناصر التنظيم وإبادتهم داخل مدينة الموصل، لأسباب معلومة لا حاجة لذكرها، ما يعني أننا أمام سيناريوهات خطيرة جدا تواجه سكان المدينة في ما تبقى من مناطق، فقد أشار الكثير من المصادر إلى قيام عناصر التنظيم بالتهجير القسري للساكنين في أحياء رأس الجادة والمشاهدة والفاروق وباب جديد إلى أحياء الرفاعي وتموز والنجار، واحتجازهم رهائن ومنعهم من الخروج من هذه المناطق، ما يهدد بوقوع كارثة إنسانية كبيرة، تفوق ما حدث في غيرها من المناطق، خصوصا ان الكثير من هذه المصادر أشارت الى تواجد اكثر من عشرة اشخاص في الغرفة الواحدة .
ورغم كل الدعوات التي أشارت إلى ضرورة تبني استراتيجية جديدة لمحاربة التنظيم في الجانب الأيمن من الموصل، تختلف من حيث الآليات والأدوات والأسس عن تلك التي اعتمدت في الجانب الأيسر من المدينة، كون الطبيعة الطوبوغرافية للجانب الأيمن من المدينة تختلف اختلافا كبيرا عن الأيسر، وفي الوقت الذي حذر فيه الكثير من الخبراء والعسكريين من استخدام الطائرات المقاتلة والأسلحة الساندة في الأحياء القديمة لكونها ضيقة ومكتظة بالسكان، واصابة الأهداف فيها تتسم بعشوائية كبيرة، نجد التحالف الدولي مصرا على الاشتراك في قتل المدنيين من خلال الاستهداف غير المبرر والمقصود .
بالتأكيد ما حدث في معارك الجانب الأيمن من الموصل وضع الكثير من علامات الاستفهام حول الدور الذي ينبغي أن يقوم به القائد العام للقوات المسلحة في الضغط على الإدارة الأمريكية بضرورة مراعاة الجانب الإنساني اثناء تنفيذ الطلعات الجوية، فهي معركة العراقيين وحدهم وهم ينبغي أن يقرروا وينفذوا، خصوصا في ضوء النجاحات التي حققها جهاز مكافحة الارهاب العراقي في معارك الأيسر، وكان من الاجدر عدم السماح للأمريكان الاستفراد بالقرار العسكري لمعركة الجانب الايمن، وإذا كان ترامب يسعى إلى حسم معركة الجانب الأيمن بأسرع وقت مهما كانت الكلف البشرية والمادية، فهو في الوقت نفسه يسعى أيضا إلى وضع أسس لقواعد عمل جديدة في عراق ما بعد «داعش» بالوتيرة نفسها، ولعل زيارة العبادي الاخيرة إلى واشنطن ستجيب عن كل هذه الاستفسارات، أو التوجهات التي تسعى الإدارة الأمريكية إلى إرسائها في المرحلة المقبلة .
يمكن القول إن المعركة الحالية لتحرير مدينة الموصل من سيطرة تنظيم «داعش» ومسارها، لن تحدد مستقبل المدينة فحسب، وإنما ستحدد شكل ومستقبل العراق، لأن المخاطر الكبيرة التي ستعقب تلك المعركة والتخطيط لها، ستلقي بظلالها على مستقبل هذا البلد. والافتراض أن الموصل بعد داعش ستعود إلى ما كانت عليه قبل احتلالها، لا يمكن أن يكون منطقياً على المدى المنظور، فمستوى التحدي الذي مثله «داعش» والجرائم التي ارتكبت في ظله ، زرعت الكثير من الشكوك والاتهامات بين سكان الموصل أنفسهم، حول ما ستؤول إليه الأحداث المقبلة، كما أن حجم التدمير النفسي والمادي الذي أصاب المدينة وسكانها قد يلقي بظلاله الكبيرة عليها خلال المرحلة المقبلة على أقل تقدير .
0 التعليقات: