أخر الأخبار

.

وقائع من تعاون الأدباء مع المستعمر


 وقائع من تعاون الأدباء مع المستعمر


عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي


قرأتُ مؤخـَّرا ً كتابا ً عن الصَّحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الانجليزي وهو بالأصل رسالة علمية لنيل شهادة الدكتوراه عن موضوع الإعلام والصَّحافة تقدم به سامي عزيز من شباب مصر بإشراف الدكتور محمد فؤاد شكري أولا ً ، ثمَّ انتقل من بعد إلى اثنين من الأساتذة ، هما :ـ الدكتور عبد اللطيف حمزة ، والدكتور محمد أنيس ـ رحمهما الله ـ والمعروف أنَّ احتلال مصر جاء لإخماد الثورة العرابية وملاحقة القائمينَ بها بناء على طلب الخديوي توفيق الذي أوجس خيفة على سلطته ، وظنَّ أنَّ مطالب الثوار قد لا تقتصر على تطهير البلاد من الفساد الدَّاخلي واستئصال جذور المحسوبية والمنسوبية في التوظيف والإدارة ، والعمل على تكافؤ الفرص أمام المواطنين ، إنـَّما ستتجاوز ذلك إلى التطويح بعرشه وإعلان الحكم الجمهوري الذي يتبوأ السُّلطة العليا فيه من يجمع أبناء البلاد على إخلاصه ونزاهته وتفانيه في خدمة مصالحهم ، وبداهة أنْ يعمدَ المحتلون ومعهم الخديوي إلى تجريب شتى الوسائل لحمل الشَّعب المصري على نفض يده بالمرَّة من احتمال عودة العرابيينَ إلى الحكم وتيئيسهم من أنْ تقوم لهم قائمة في مقبل الأيَّام ، فلا بُدَّ من بذل الجهود المتواصلة لإيهامهم بكونهم جماعة من الأشقياء والخونة وساقطي الأخلاق وفاسدي الضَّمائر ، ويكفيهم ما لقوا من الجزاء العادل جرَّاء قيامهم بالفتنة الطائشة وتعكير الأمن وإشاعة الاضطراب والفوضى في أرجاء البلاد ، وكذا لعب رجال الصَّحافة دورا ً شائنا ً في المسِّ بكرامة خيرة الرِّجال الأحرار الذين أنجبتهم مصر ، واتهامهم في وطنيتهم ومروءتهم ورجولتهم ، وصدعوا بما وكلَ إليهم الأجانب الدُّخلاء من نشر الدِّعايات المسمومة والمقولات الكاذبة عن عدم كفاية الفرد المصري وجدارته وأهليته لخدمة وطنه ، وأنْ لا بُدَّ من الاعتماد على بريطانية لتأخذ بناصره وتعدُّه للاضطلاع بمسؤولياته المرتقبة ، وشفعوا ذلك بتشويه جميع المواضعات الأخلاقية التي تعارف عليها الناس من قبل باسم معاونتهم على التجديد والتغيير في أسلوب معيشتهم ونمط تفكيرهم ، وكان ما كان من انتشار الماسونية وانتساب كثير من أقطاب الأدب والفكر والسِّياسة إلى محافلها ، وتعدى الأمر على من لا يصحُّ الارتياب في عقيدته ونقاء سريرته ، بلْ أنْ تنكر عليه دوره في النهضة الحديثة سواء أكان ذلك في مجال التجديد الأدبي وإحياء ما يستحق البقاء والدَّيمومة من تراثنا العقلي ، أو من ناحية مصاولة الظالمينَ ومقارعة أرباب الإفك والجبروت ، وأنى لنا أنْ نوفق بين هذا وبين فرية من مهامها ” أنْ تدخل في روع الناس أنـَّهم متساوون ، وأنَّ الميزات القومية والمعتقدات كلها اصطناعية لا قيمة لها ” ، حتى الدَّعاوى المتخرِّصة اللئيمة الرَّامية للاستبدال بالحرف العربي والغناء عنه الحرف اللاتيني في الكتابة بدعوى التسهيل وتيسير القراءة لتوفر الحروف الإفرنجية ـ في لغات الأوربيين ـ المعادلة لفظا ً للحركات الإعرابية الثلاث :ـ الضَّمة ، والكسرة ، والفتحة ـ كما يزعمون ـ وكذلك حثُّ المنشئينَ والكـُتـَّاب على الكتابة بالعامية واطراح الفصحى جانبا ً تمثلا ً بتولد اللغات الأوربية الحديثة عن اللاتينية الأم ، كانتا نتاج هذا الجو المليء بالسُّموم والمساعي الخبيثة لتوهين عزائم أبناء الأمة وشلِّ إرادتهم وتعطيل نزوعهم لاستئناف ما درج عليه أسلافهم من إبطال لمقاصد الوافدينَ عليهم وتشكيك بسلامتها من الغرض مهما تفننوا في فبركتها وتزويقها وإضفاء مسحة الصِّحة والنزاهة عليهم ، ولك أنْ تقف على انشداد كثير من حسبوا على العلم والرِّيادة الفكرية والتنوير العقلي إلى عجلة المستعمر البريطاني ، فيثيبهم على مجهوداتهم في تدنيس أقداس أمَّتهم وتشويه قيمها بالمكافآت والعطايا ، أو يكون التكريم أحيانا ً معنويا ً كأن يقبلهم أعضاء في جمعياته ومحافله العلمية والفلسفية ، لذلك نجدنا أحوج ما نكون إلى إعادة تقويم المواقف المنسوبة إلى أقطاب ، أمثال :ـ يعقوب صروف ، وفارس نمر ، وشاهين ماكاريوس ؛ الذين أصدروا مجلة ( المقتطف ) وجريدة ( المقطم ) ووظفوا أقلامهم لخدمة الجانب البريطاني وإنجاح أربه في صراعه مع فرنسا لإحكام السَّيطرة على بلاد النيل والهيمنة على شؤونها ، وحسبهم عارا ً وسُبَّة ما يصليهم من شواظ غضبه وسخطه خطيب الثورة العرابية عبد الله نديم عبر مقالته في جريدة ( الأستاذ ) التي أصدرها غداة أنْ عفا عنه الخديوي عباس حلمي الثاني بعد أنْ ظلَّ متخفيا ً عن الأنظار متنكرا ً بشتى الأزياء طوال تسعة أعوام ، يقول :ـ حسبهم أنْ ” التزموا في جريدتهم تنفير الأمة وتحسين الاعتراف بسلطة الغير والتلويح بما يشفُّ عن سوء مقاصدهم في الجانب الخديوي ، والتزموا أوهام مستأجريهم ” ، على أنَّ أصحاب ( المقطم ) لم يدعوا هذه الإدانة الصَّارخة تمرُّ دون أنْ يطولوا صاحبها بالنكاية ، فكادوا له عند أصحابهم الانجليز و ” طلب كرومر من الخديوي نفي النديم من البلاد ” ، لنطو ِ عن هؤلاء المتعاونين الثلاثة ، وليغضب سائر المعجبينَ بالنزعة العلمية التي مهَّد يعقوب صروف لإشاعتها في العقول أواخر التاسع عشر ، والإعجاب بقوَّة إنكلترا الحربية والدَّعوة لاعتماد الخديوي والبلاد معا ً على الانجليز ” لأنَّ مصر لم تتعلم أنْ تدير أمورها بنفسها ” ، لنصرف الحديث إلى آخر سجلتْ له سابقة في تاريخ النقد الأدبي الحديث من خلال كتابه ( المواهب الفتحية في علوم اللغة العربية ) الذي يمثل في مجمل محاضراته على طلبة دار العلوم ، أعني به الشَّيخ حمزة فتح الله الحليمَ التقيَّ الورعَ كما يصفه أحمد الاسكندري وصنوه مصطفى عناني في كتابهما ( الوسيط في الأدب العربي ) ، وقد لا يضنُّ عليه بعطفه وإشفاقه حين يعلم بفقده بصره في أواخر عمره ، واستمراره على الدَّرس والبحث حتى وفاته عام 1918م ، ومن جانبنا لا نبخس ما أوثر عنه في الدِّفاع عن لغتنا والتدليل على أصالتها وعراقتها بمؤتمر المستشرقينَ المنعقد في استوكهولم سنة 1889م ، وإلقائه قصيدته مختتما ً بها المؤتمر المذكور ، ورغم ما عهد عن شعره القليل من غلبة طابع البداوة عليه واحتفاله بالمفردات العسيرة التي يكد الذهن في اجتلاء دلالتها بعد أنْ لم تعد تطاول الزَّمن وتواكبه قدما ً إلا أنـَّه وفق في أبيات منها إلى صياغة ما يعتلج في النفوس من مشاعر ملحة عن حاجة ذوي الموهبة والنبوغ إلى اعتراف أعلق الناس بهم في مجال الخلق الأدبي وميدان العطاء الفكري ، لسببٍ لا يعدو غير كراهة الامتياز والفرادة ممَّا يودُّ العاجز لو يصل إليه فلا يبوء بغير الفشل والإخفاق : ـ 

ومَـنْ بغى نيْلَ مَجـدٍ وهـو فـي دعـةٍ فـقـد بغى مِـن صـفـاةٍ درَّ أحْـلابِ
والمرءُ في مَوطِن ٍ كالدُّر في صَدَفٍ والتبر في معدن ٍ والنبع في غابِ
والسَّيْفُ مِثـْلُ العَصا إنْ كانَ مُغتمَدا ً وزامرُ الحَيِّ لا يَحـْظى بإطـْرَابِ
وأزهـَـدُ النـَّاس في عِـلـْم ٍ وصَاحِـبـهِ أدنى الأحِـبَّة مِنْ أهْـل ٍ وأصحابِ 

********
عفا الله عن الشَّيخ حمزة فتح الله فقد استجاب لدعوة الخديوي توفيق وتحمَّس لإيقاف التيار الثوري المنبعث عن حركة عرابي ، فأشرف على تحرير جريدتي ( البرهان ) و ( الاعتدال ) ، وكتب مقالات ينال بها من سمعة الثائرينَ ويطالب بالاقتصاص منهم ويسوغ التدخـُّل الإنجليزي مضفيا ً الشَّرعية عليه ، داعيا ً الشَّعب إلى الإخلاد للسَّكينة وعدم القيام بأيِّ حركة ضِدَّ المحتلين لإخراجهم من البلاد ، ولا ضرر من توظيف بعض رجالهم في مناصب الدَّولة ، كغيرهم من أبناء بقية الأمم ، لماذا ؟ ، لأنَّ ذلك ما تمَّ إلا ” لعدم كفاءة أبناء البلاد للقيام بكل الأعمال ” ، حتى دلتِ الأحداث على استحالة إطفاء الوعي الثوري باكتشاف أجهزة الشُّرطة لجمعية تعمل بالسِّر لاستئناف ما اعتزمه عرابي ورفاقه ” تابعتْ جريدة ( البرهان ) مقالاتها التي تحضُّ على التقليل من أهمية الجمعية واتهمَتْ الإنسان المصري بأنـَّه غافل عن الحقوق ، جريء على العقوق ، وحذرته من بطش الخديوي والحكومة حتى يطهر القطر من رجس المفسدين ” ، حتى إذا أنجز الشَّيخ مهمَّته في إثبات منافاة حركة عرابي للشَّرع ووجوب إطاعة الخديوي والامتثال بإمرته ، ووجد الإنجليز أنَّ مصلحتهم تقضي بإضعاف نفوذ الخديوي وجعله في المرتبة الثانية ، فلا مندوحة من تقليل أو إلغاء الصُّحف الناطقة باسمه ، أوعزوا بتعيين الشَّيخ حمزة فتح الله مفتشا ً للعلوم العربية في المدارس ، ونيط به من بعد تمثيل مصر مرَّتين ِ في مؤتمر المستشرقين ، فصدع بما أمروا لأنـَّه سليم الصَّدر ، كريم الخلق ، كما ينعته أحمد حسن الزَّيات في ترجمته له بكتابه ( تاريخ الأدب العربي ) .



0 التعليقات: