أخر الأخبار

.

بدر شاكر السياب في ذكرى وفاته : الشاعر الذي افتتح عصر الحداثة في الشعر العربي



بدر شاكر السياب في ذكرى وفاته : الشاعر الذي افتتح عصر الحداثة في الشعر العربي



عراق العروبة
خديجة بن صالح



ولد بدر شاكر السياب في الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1926، وذات رابع وعشرين من نفس الشهر، من العام 1964 كان قد رحل. تجمع كل المدارس النقدية أن السياب كان المؤسس الحقيقي لتيار الحداثة في الشعر العربي، وتتلخص أهم ملامح تجربته في الاستعاضة عن شعر التفعيلة بالشعر الحر، وفي قدرته على استثمار بعض العناصر الفنية كالأسطورة في بناء القصيدة .

وكانت “أنشودة المطر” أنشودته الخالدة :


عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر .

عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء ... كالأقمار في نهَرْ

يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر
كأنما تنبض في غوريهما ، النّجومْ ...

وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ
كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء ،

دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف ،
والموت ، والميلاد ، والظلام ، والضياء ؛

فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء
ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء

كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر !
كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ

وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر ...
وكركر الأطفالُ في عرائش الكروم ،

ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودةُ المطر ...
مطر ...
مطر ...
مطر ...
طالما اعتبر النقاد العرب هذه القصيدة مفتتح الحداثة في الشعر العربي . بها خرج الشعر من خيمة العمودي إلى آفاق الحر، محاولا كسر الطوق الكلاسيكي المفروض على القصيدة العربية شكلا ومضمونا، والذي كبلها قرونا من الزمن، حتى أضحت معه ضعيفة المعنى، أو مجرد زخرف كلامي وسجع بلا جمالية .

وقد رأت عيناه النور في إحدى القرى التابعة لمحافظة البصرة وتسمى جيكور، ومعناه بالفارسية الجدال الأعمى . أسرته تنحدر من قبيلة ربيعة العربية . وهي سنية المذهب، عاشت في هذه القرية البسيطة وذات العدد القليل من السكان . وفي وسط الواحة الوارفة وفي سحر غابات النخيل والجداول الرقراقة، ولدت الموهبة الشعرية الفذة للسياب . وستتجلى لاحقا هذه المشهدية الأخاذة في شعره ولكن وفاة والدته وهو في سن مبكرة حوالي ست سنوات كان له أثر مهم أيضا في شعره وقبل ذلك في حياته بأكملها .

وقصد السياب بغداد لمواصلة تحصيله العلمي في تخصص اللغة العربية، فنهل من مصادر الأدب العربي . ثم درس الانجليزية، وقرأ شكسبير، مما أغنى ثقافته، وأثرى رصيده . وبين أصالته العربية، وانفتاحه الأوربي، كانت تتشكل الملامح الرئيسية لتجربته الشعرية .

واستفاد السياب من معرفته باللغة الإنجليزية لينقل إلى العربية قصائد كبار الشعراء في العالم فترجم بعض أشعار الإسباني فدريكو غارسيا لوركا والهندي طاغور والتركي ناظم حكمت والبريطاني تي إس إليوت والإيطالي أرتورو جيوفاني والأمريكي إزرا باوند والبلجيكية إيميلي كامير والفرنسي لويس أراغون وشاعر الشيلي بابلو نيرودا .


وعندما تخرج عام 1948 أظهر ميولا نضالية سواء بسبب الاحتلال الانجليزي لبلاده، أو بسبب الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وما عرفته القضية الفلسطينية بعد النكبة . وربما لتلك الأسباب تمت ملاحقته، ولم ييسمح له بالتدريس سوى بضعة أشهر بمدينة الرمادي قبل أن يتم فصله وسجنه أيضا .


وحين ضاق عليه الخناق، قرر مغادرة البلاد في إتجاه إيران ثم الكويت . ولكنه لم يستسغ حياة الغربة فعاد إلى العراق عام 1954 وانخرط في مجال الصحافة بالتوازي مع بعض الأعمال الأخرى . وقد أثرت تلك الغربة على شعره كما ونوعا . فبعض قصائده ارتبطت بشكل كبير بالتغييرات التي طرأت على حياته، كما ارتبطت بجملة الأحداث التي عاشها، وكان لها الفضل في غزارة إنتاجه الشعري وخصوبته . 

ومن أبرز ما كتبه السياب نذكر “أزهار ذابلة” و”أساطير” و”المومس العمياء” و”الأسلحة والأطفال” ثم “حفار القبور” وقصائد أخرى كثيرة، جمعت في ديوان صدر بعد وفاته . وقد باتت التجربة الشعرية للسياب مرجعا مهما في المدونة الشعرية العربية وإعلانا عن دخول العرب زمن الحداثة في الشعر .

ولعل خوض مغامرة الشعر الحر التي قادها بدر شاكر السياب بمعية نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي تعد الملمح الأبرز في سيرة هذا الشاعر الذي قاد معركة التحديث في القصيدة العربية ونجح في التجديد والخروج من الأطر التقليدية شكلا ومضمونا .

وقد ظلت جيكور قريته الصغيرة هي جنته الضائعة التي يبحث عنها في كل مكان ولا يجدها سوى بين جنباته . وكما ظلت حاضرة في نفسه ، فقد كانت أيضا حاضرة في كتاباته، فلم تغادر أشعاره . فهي كثيرا ما كانت ملهمته بسحرها وجمالها في إبداعه الشعري . وهي التي شاءت الأقدار أن تؤوي جسده النحيل إلى ترابها لتحتضنه إلى الأبد ذات شتاء ممطر، لتظل أصداء صوته تتردد في بيوتها القديمة ومزاريبها ونخلها العالي :

مطر ..
مطر ..

أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر ؟
وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر ؟

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟
بلا انتهاء – كالدَّم المراق ، كالجياع ،

كالحبّ ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر !

0 التعليقات: