أخر الأخبار

.

أسماءٌ لا تموت



أسماءٌ لا تموت

عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي




قد يجهل القارئ أولا يحيط علما ًببعض الأسرار والحقائق التي تكتنف حياة هذين الشقيقين اللذين حفـَّتْ بهما الشبهات وحامت حولهما الظنون من كل جانب وناحية ، فهما في عرف ذوي النزاهة والاستقامة ونقاء الضمير أبعد الناس عن هـذه الخصائص والسمات ، يتـردد كثير من الناس عن أنْ يمنحهما ثقته ولا يزكيهما البتة ويبرئ ذمتهما من اجتراح بعض الآثام والخطايا ، فقد شاعت عنهما مختلف الأقاويل والوقائع عن صلتهما بالقصر الملكي قبل ثورة يوليو أنْ لم يستهجن منهما ارتباطمها بحاشية الملك فاروق وممالأتهما للسياسة البريطانية في مصر ، واظهارهما العداوة الصريحة لحزب الوفد الذي كان يومذاك حزب الأغلبية المتبني مطالبها في الجلاء وانتهاج سياسة مستندة إلى العدل عند تطبيق الأحكام ، بقطع النظر عن دوره في المضي قدما ًوراء هذه الخطة وتوانيه في الإصرار على هذا النهج ، وهما من وجهة نظر المهتمين بالتطور السريع الذي بلغته الصَّحافة أواسط القرن العشرين من ناحية الإخراج الصحفي والاستعانة بأجود المطابع وأكثرها أخذا ًبالفن والتشويق ورفد المطبوع بالتحقيقات المفيضة بأخبار العالم وشؤون الدنيا تدبِّجها أقلام أبرع الكـُتـَّاب وأنفذهم نظرا ًوأوفرهم إحاطة ًبمكونات الموضوع الذي يعالجونه ، يُعدَّان ِمثالا ًللمثابرة والدأب ونموذجا ًللسَّعي المتواصل والحرص على بلوغ الهدف مهما اشتدت الصِّعاب وتفاقمت العوارض والمثبطات. 

وقبل سنواتٍ قد تكون بعيدة تقدَّم الدكتور رؤوف سلامة موسى لمقاضاتهما أمام المحاكم المصرية بدعوى أنـَّهما زيفا ًكتابا ًصدرعن الصَّحافة المصرية كتبه والده سلامة موسى ، وأنـَّهما أقحما عليه فصلا ً منتحلا ًيمتدح خدماتهما للأدب والصَّحافـة وتخطيهما للأنكاد والعثرات التي واجهاها بجلدٍ وشكيمةٍ ، وأشهدُ أنـِّي قرأت صفحاته جملة غداة ظهوره في المكتبات ، فما فطنتُ لفرق وتباين ما في سياق عباراته جميعا ً ، إنـَّما هو أسلوب سلامة موسى المعتاد والخالي من الزخرف والزينة والبعيد عن التنميقات البلاغية أو اللفظية حيث تأتي المفردات على قدِّ المعاني بدون إطناب أو تفصيل ، وقـد يستبيك بجملة مؤثرة أحيانـا ًلأنـَّها مؤذنة بالإشارة إلى مفارقة من المفارقات ، والمهم أنَّ سلامة موسى كان صاحب حقل أو زاوية أو عمود في آخر ساعة أو أخبار اليوم ، ومثله كان توفيق الحكيم وغيرهما من أقطاب البيان ، ولم يكن النشر والكتابة فيهما بالمجان بطبيعة الحال ، وهناك كم هائل من الدَّوريات والمطبوعات الصَّادرة عن دار أخبار اليوم ، ومعظمها نفيس محيط بأحوال التاريخ المصري الحديث وملم بوقائعه ومجرياته ، مما يؤهله لأنْ يغدو من المظان الثقافية الجديرة بالقراءة ، وبحسبك أنْ تجد بينها كتاب عباس محمود العقاد عن الصِّراع البريطاني المصري الذي أدى إلى ضرب الإسكندرية في يوليو عام1882م ، وشلَّ مقاومة أحرار مصر حيث فشـلت الثورة العُرابية وتغلب أعداء البلاد واستحفل أمر الخونة والشذاذ.

ويُظهر أديبٌ من الأدباء إعجابه الطائل بما أسماه مدرسة أخبار اليوم ، ويعني بهم تلامذة مصطفى أمين الذين تحلقوا حوله وتخرجوا كتابا ًعلى يديه وساروا على منواله في أسلوبه الرَّشيق وبيانه المتدفق وبسطه المعاضل والمشكلات وإنعامه فيها نظرا ًوتسليطه عليها الأضواء ليخلص منها إلى حل.

وبعد هذا التعريف اليسير بنشاطهما الصَّحفي آنَ لنا أنْ نجلو سرَّهما وحقيقتهما ، وإلى أيِّ عرق ٍزاكٍ ينتميان وأصل طيِّبٍ يمتان فقد أجد شفيعا ًعلى رشدهما وهدايتهما إزاء ما نسب لهما من انحراف عن الخلق السوي وزيغ عن الجادة. 

فأمـا الجَّد فهو الشيخ أمين أبو سيف المحامي أحد زعماء المقاومة في دمياط وقد سجنه الإنكليز بعد فشل ثورة الفلاح أحمد عرابي وحكموا عليه بالسَّجن خمس سنوات وصادروا جميع ما يمتلكه. وأما الأم فهي رتيبة التي خالها سعد زغلول الذي لا مرية في سلامة فطرته وتمسُّكه بمبادئه تمسكا ًيعصمه من المغريات والدنايا ويصونه من التراجع والتخاذل من غير تفريط بقواعد العقل والحكمة. وخال الوالدة هو خال لأبنائها تجوزا ًخاصة إذا عدموا من يرعاهم ويحنو عليهم ، لاسيَّما بعد مغادرة الوالد هذه الدُّنيا وهم ما يزالون أحوج إلى تدليله والقيام بشؤونهم ، وكذا تقدَّم نجل الشيخ المحامي أمين أبو سيف – نحو سعد زغلول – خاطبا ًرتيبة ابنة أخته ستهم فأنجبت هذين التوأمين علي أمين ومصطفى أمين ، ولم يعرِّفنا مصطفى أمين عبر تفصيله في سيرة أمـِّه باسم أبيه الذي كان منتميا ًإلى الحزب الوطني قبل ثورة 1919م.

وكان مبعث موافقة سعد زغلول على هذا الزواج هو نتيجة استئناسه بحديث الخاطب وهو محام ٍ ناشئ أيضا ًوذو معلومات وفيرة في السياسة والأدب والاجتماع والتاريخ فضلا ًعن دفاعه عن رأيه بثبات إزاء تحفظات سعد زغلول ومؤاخذته على الحزب الوطني ، لكنـَّه قبله على فقره ورقة حاله وأضفى عليه مطلق التزكية والرِّضى بمجرد عرفانه أنـَّه نجلُ صديق ٍ قديم ٍمن خطباء الثورة العرابية.

هذا هو ما يُفصل فيه مصطفى أمين في كتابه (أسماءٌ لا تموت) الذي صدر قبل أكثر من عقد ، يتضمن ذكريات وحكايات شتى عـن لفيف من أشياخ الفن والصَّحافة والكتابة والفلسفة من فكري اباظة إلى أحمد رامي مرورا ًبأحمد لطفي السيد وعزيزة أمير وغيرهما ! وبينها حديثه الممتع الذي يقطر أسى ومرارة عن أمِّه التي لم تتخرج في جامعة قط إنـَّما كانت الحياة هي جامعتها التي صقلت نفسها وهذبتْ طباعها وشذبتْ مـا شاب سريرتها من كدر ٍ وعوسج ٍ بفعل نوب الدَّهر ونكبات الزَّمان،لقد عانتْ هـذه الأم المجالدة مرارة اليتم في طفولتها “مات أبوها وعمرها ثلاث سنوات وماتت أمها بعد ذلك بثلاثة شهور،ووجدت نفسها عند وفاة أمِّها وحيدة في البيت بجوار الجثة وهي لا تعرف ما حدث وضمت شقيقها الطفل إلى حضنها وكأنها تحتمي به” إلى أنْ أدركتهما أو قيض الله لهما رحمة جدتهما مريم بركات والدة سعد زغلول فانتشلتهما من هذا الخوف والفزع والضياع والحيرة ، والحقُّ أنَّ مصطفى أمين يتألق بيانا ً وأسلوبا ً في حديثه عن أمِّه وما قاستْ من أهوال ومحن في حياتها فضلا ً عن تنشئتهما النشأة الصالحة التي تواجه المعضلات العسيرة وتخرج منها بأيسر الضرر والخسارة ، وتجوزها بالستر كما تمنـَّت لولديها وأنْ تـُباعِد بهما عن الدَّرن ِ والسوء ، هنا يمتزج واقع الحال ويندمج بالمشاعر والأحاسيس ويشف الأسلوب ويرق ويبلغ مدى من الصَّفاء والعذوبة ، بحيث ينتفي ما أسميناهما شكلا ًومضمونا ًوهما ركنا الأسلوب القوي والإنشاء البليغ أنْ توافرت لهما بعض أسباب الإحكام والتوشية والرَّصانة: “كان حنانها يطوي السنين من عمري ويعيدني إلى مرح الشَّباب كانت بسمتها تغسل من روحي أتربة الزمن وغبار المتاعب وأوساخ الحياة ، كانت قبلتها أشبه بالبنج الذي يجعلك تحتمل مشرط الطبيب ، ومشرط الزَّمن كثيرا ًما يؤلم أكثر مما يؤلم مشرط الجراح ، وصدر الأم هو الباب المفتوح الذي لا يغلق أبداًحتى لو أغلقت في وجهك جميع أبواب الدنيا ، ويبدو بعضنا لا يشعر بقيمة الأم إلا إذا فقدها ، فالأم مثل الصِّحة إنـَّها تاج على رأس الابن لا يراه إلا اليتيم”.

أفبعد هذا البيان البسيط الذي لاينطوي على المعنى وحده فقط بل يحتوي الشعور معه أيضا ً ، دليل على النبوغ والمصداقية والقوة ، مما تتهافت دونه الاتهامات والأقاويل التي لو صحَّت لقلنا: حتى الأصاغر والأداني والاوغاد والاسافل لايعدمون استجماعهم في شخوصهم بعض دلائل المروءة.

0 التعليقات: