تفصيل في فحوى مقالة أثيرة وتعقيب عليها واضافة إليها
تفصيل في فحوى مقالة أثيرة وتعقيب عليها واضافة إليها
فصل من كتاب (مداخلات و مناوشات)
الذي سيصدر ببغداد عن دار ميزوبوتاميا قريباً
عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي
جيء لي بكراسة محتوية مقالة واحدة عنوانها (يهود العراق) وهي جزء يسير من موسوعة الديانات المعدة والمصنفة من قبل أكاديمية الكوفة التي مقرها بهولندة ، وتدأب الأخيرة وتوالي إصدار مجلة باسم الموسم ، وهنا تجدنا واقعين بما يشبه اللبس حين نستذكر جامعة الكوفة وهل لها صلة ما بأكاديمية الكوفة المعنية بتاريخ الأديان والعقائد السماوية التي يرثها ويتحضنها التالون من بني البشر والأقوام من كل جنس وعرق ولا يزمعون عنها تحولاً وتبديلاً ، بل يروضون ذواتهم على الانسجام والتعايش مع صنوف الناس مهما اختلفوا وتباينوا عنهم في طقوسهم وشعائرهم التعبدية نحو خالق الأكوان وأصل جميع ما في الوجود من جماد وحي ، غير أنهم يجمعون على المناداة بالخير والمحبة ومجانبة الخسائس والرذائل الخلقية من مراء ونفاق ومخاتلة ، وأن لا تقفر نفوسهم من أمل وتطلع لأن يسود السلام في الأرض كي تهنأ الانسانية بحياتها ويمبعدة عن التقاتل والتنازع والحروب ، وهذه هي الحدود الدنيا من عناصر الاتفاق بين البرايا حول ما توصي به الدعوات الربانية وتنصح للملأ أن يلزموه ويجعلوه قبلتهم ، دونما تعصب أو انحياز لميلٍ ونحيزة ، وإذا تجردوا صراحة من نزوة المتاجرة بالأديان ، والتكسب من ورائها.
كتب تلك المقالة المطنبة والمسهبة بعض الشيء ، حتى أفرغت محتوياتها واقتضى التفصيل في مادتها ، وشرح (رؤوس أقلامها) كما درج المنشئِون وأعلام البلاغة العربية ، اعتماد المصطلح الأخير لهدي الشادين في الأدب ونابتة الجيل من متمني احتراف الكتابة ومراس الصنعة الأدبية ، قلت كتب المقالة الموشحة على أنها (بحث مصور) ، إذ تتلو الأربعين صفحة التي هي قوام الكراسة ، ثلاثون صفحة أخرى مشتملة بكلا وجهيها مصوراتٍ نادرة لرموز وشخصيات من الطائفة الموسوية ، بينهم متفقهون في الدين ومعتلو سدة الحاخامية وممثلون بما حبوا به من ميزات وخصائص ومؤهلون لأن يحلوا في صدارة الطائفة والنطق باسمها في المحافل والنوادي ، وتولى عنها – أي المقالة-الكاتب العراقي اليهودي مير بصري وهو من رجال المال والاقتصاد بالأصل ، وكان شاغلاً لمنصب مرموق في المصارف العراقية لأزمنة الحقبة الملكية ، حصاد انغماسه في المداورة بشأن قضايا المال ونماء الثروة الوطنية وما يتصل بها ويلابسها من الموضوعات الجافة والعادمة للرواء والخلابة ، مما يجعلها تتناقض هي والنزوعات والأولاع الأدبية ، قلت كانت ثمرة ذلك الكلف المضني كتابه الموسوم مباحث في الاقتصاد العراقي ، والصادر في عام 1948م أو عام 1949م ، والمستهل بقصيدة لامية كما أذكر ، ولذاك استعرته أيام ذلك التاريخ البعيد من مكتبة المدرسة زمن الطلب ، واستغرقت في مطالعته مصابراً نفسي على سوغ لغة الأرقام والإحصاء جهد إمكاني وقدر ما أستطيع ، إلى أن وقفت نتيجة مطالعتي المستدامة بمرور الأيام ، على تبوئة مكاناً محترماً بين معاشر الأدباء وأنه ذو صلاتٍ وعلائق متوشجة بكتاب البلد المرموقين من كل صنف وقبيل ، وعلى اختلاف مشاربهم وأميالهم ، وتباين اهتماماتهم ومجهوداتهم التي كرسوا حياتهم لمشارفة منتهى ما ينتوي المرء أو الكاتب بلوغه والوفاء به من عناصر الصحة والبهجة والتمام كما يقول القدامى ، أو شرائط الابداع كلياً كما يقول المحدثون .
ولنرجع إلى مقال الأستاذ سلمان هادي الطعمة المنشور في مجلة أوراق فراتية ، بعددها الثامن عشر ، علماً انها تصدر في الحلة بشكل فصلي منذ أعوام ، والمعنون –أي المقال – ذكرياتي مع أدباء بغداد ، فنجده يقول فيه بخصوص مير بصري: “أديب عراقي كبير غزير الانتاج ، زرته في منزله بالكرادة الشرقية ببغداد إبان السبعينات ، وأهداني كتابه الموسوم (مباحث في الاقتصاد العراقي) ، ولما هاجر إلى مدينة الضباب (بريطانية) كنت احتفظ بجملة من رسائله ، كان من أهل الفضل والأدب ، حسن الأخلاق ، ساكناً متودداً ، له تصانيف جمة ، وأسلوبه جزيل متين الحبك ، خالٍ من التكلف ، اما اشهر آثاره فهي كالاتي: أعلام السياسة في العراق ، أعلام اليهود في العراق الحديث ، أعلام الأدب في العراق الحديث ، الخ ….
فالظاهر أن الكاتب الفاضل ما فتئ متحرجاً من إيداع أكتوبته وإثقالها بمعارف ومعلومات وحقائق كفيلة بتصييرها ذات وزن يقف عندها القارئ متمعناً بأمل الاستزادة أكثر بل الاسترفاد والدراية والإحاطة بشؤون وأسرار توحي لقارئ السِير أن الكتابة في هذا الجانب ذات جدوى وأهمية وغنى طائل للثقافة العربية وللمكتبات العامة المشيدة في عموم المدن العربية والمحتوية كنوز هذه الثقافة ومذخوراتها ونفائسها ، وحقيقة الحال انه تحاشى النص على ديانته اليهودية ، واحترس إلى حد من ذكر انه ضويق في عيشه من لدن السلطة القائمة التي ضاقت ذرعاً بكثرة مذكراته وعرائضه المقدمة إلى أربابها يناشدهم فيها أن يرفعوا الحيف عن أبناء طائفته الموسوية ويعاملوهم بالحسنى ، ويخلو بينهم وبين حياة الانعتاق والحرية ما داموا لم يجترحوا إثماً ويقترفوا وزراً ، وغالبيتهم منصرفة لشأنها ومزاولة أمورها الخاصة كما سائر الناس ، والا ما عهده بمدينة الضباب لندن العاصمة البريطانية وهجرته لها وألفته لما تعج به من طرز ونظامات في العيش تطلبته أن يكيف أحواله وفقها لولا أن ضاقت عليه أجواء محيطة فغادره مكرهاً؟
والذي يستقري محتويات كتاب سابق له هو رحلة العمر فضلاً عن هذا المبحث الضافي ، يستجلي جيداً وبصورة واضحة ، أن حياة الأديب الأريب مير بصري في سني مكثه في وطنه العراق كانت حياة ميسورة ومفعمة بما لا حد له من الصفو والدعة والاستقرار قبل أن تطول عموم سائر اليهود العراقيين احتمالات التشكك والارتياب بسرائرهم ودخائلهم ونياتهم مما يساور خلجات الرجال الأمنيين الذين تكل الدولة لهم وتنيط بهم وجائب حفظ النظام وتوطيد الأمن ومراقبة من يتوجسون خيفة مما يكنه في بواطنه ودون أن يفصح عنه من نزعة أو ميل وانحياز لدولة أجنبية ، ولك أن تفغر فاك من تلفيق الاتهام بالباطل ورمي الأبرياء بما يختزي ويخجل منه الفرد المسالم في زحام الناس من صنوف الجرائر والأوزار ، ورغم مشاركة ابناء الطائفة الموسوية في إحياء المناسبات الوطنية أسوة بقرنائهم وأخدانهم من مكونات الشعب العراقي ، فإن تسارع الحوادث السياسية من إجماع الدول المنضوية في هيئة الأمم المتحدة على قيام دولة اسرائيل وإياب جيوش بعض الحكومات العربية بالخذلان والخيبة ، وقفولها من ساحة المعركة بلا تحقيق نصر ما على أنفار وسعهم الناس ما شاءوا وطوال عدة أعوام ، من خلال خطبهم في التظاهرات الوطنية من ألوان القدح والتعيير والتشنيع والزراية ، مما خيل للجمهور الكاثر معه عندنا ، أنهم في حال من الضعف والمسكنة والنكوص عن امتشاق السلاح للمدافعة عن شخوصهم على الأقل ، فلا أسهل بموجب هذه الوضعية من أن يرميهم أجنادنا المنتخين وسط البحر ، بينا انفرد بعض المحللين بتفسيرٍ ما مفاده أن حرب عام 1948م مفتعلة لم يجن منها العرب غير خنوعهم ومقاساتهم للظروف الاستثنائية بأحكامها العرفية المفروضة والمبتغى منها التنكيل بالمنتفضين على الحكومات الاستبدادية في أوطانهم ، وظفروا منها ببعض المكتسبات ، والآن حان أوان تصفيتها وانتزاعها واستلابها ، ونتيجتها أن توطد الكيان الاسرائيلي وترسخ على دعامة يرتد عن زحزحتها أي محاول من ساسة العرب والذين جنحوا للموادعة وإيثار التعايش من وراء ستار مع هذا الكيان في الآونة الأخيرة ، بعد ما سئموا وملوا فرط الادلال بقوتهم وتوعدهم له بالمحو والاستئصال والازاحة.
ألمعنا أن تسارع الحوادث المترتب عليها إحساس الناس بالهضيمة جراء استباحة فلسطين وإخلال قادتهم بوعودهم أن يقطعوا شأواً ولو قصيراً على جادة التحرير ، أوحى لدهاقين السياسة العراقية وعلى سبيل صرف أذهانهم على الافتكار بنتيجة الحرب بل رياضتهم عل نسيانها بالمرة ودونما ارتياع من جسامة تضحيات شبيبتهم الفادين أرواحهم في مصاولة عدوهم بلا جدوى ، أن يبتدعوا مراسيم ترحيل اليهود وإسقاط الجنسية عنهم ، وإلى أين تكون وجهتهم بعد هجرانهم مواطنهم؟ لا شك أنها ستكون الأراضي الفلسطينية التي أرسيت عليها قاعدة الدولة اليهودية وليس غيرها من مأوى يلجأون إليه ، وفي هذا اعتراف ضمني بالكيان الوليد وبلا مجاهرة به بطبيعة الحال ، وإلا فما معنى رفده بذوي الملكات والعقول الراجحة من اليهود لا سيما أن فيهم الطبيب والمهندس والمحامي ورجل الأعمال والصناعة والتجارة ممن خبر تفاوتها جميعاً بين الركود والانتعاش ، وعليها تتوقف ديمومة الحياة وتطلع الأفراد العاملين في المجال الوطني صوب الرقي ونهوض البلاد وتهيئتهم لألفة المستجدات الحضارية وحسن استقبالها بترحاب ما وسعهم ، وكذا أجلي عن هذه الديار ما ينوف على 120ألف إنسان يهودي أثناء عامي 1950 و1951 للميلاد متخلين عن ضياعهم وأملاكهم ، بعد أن باعوا نصيباً يسيراً منها بأثمان متدنية وبخسة والباقي بسطت عليه الدولة سيطرتها واندرج في سجلات ما سمي حينها بتصفية أملاك اليهود ولا ندري مآل هذه التصفية ومتى ستنتهي وتستغرق من السنوات المتعاقبة التي تداول حكم العراق فيها أصناف شتى من محترفي السياسة ؟ هذا إلى أننا لا نعدم من بين المشمولين بقطع علائقهم بالعراق وبتر اتصالهم بأهله ، أن نلمح من بينهم رجل الثقافة والفكر والأدب ، والمعني بالتأليف والصحافة ، والنابغة البارز بفن القول بكلا جنحيه من الشعر والنثر ، على ما هو معهود عنهم في غالبيتهم ومشهود لهم بانصرافهم لتحصيل علوم الطب والتجارة والحساب والكيمياء والفيزياء ، وقلة اكتراث بالمسائل اللغوية.
والمحصلة المتأتية من وراء هذا الاستقراء أن نحيط علماً بمدى معاونة حكام بغداد بالأمس للصهاينة على أن يعملوا لمصالح دولتهم ، وذلك بقصد من الأولين أو بجهل وغباوة ، بعد ما رفدوهم بأرتال من أصحاب الملكات والقابليات المبدعة والمجمع على تفوقها ورجحانها على نظيراتها مما يمتلكها آخرون من أبناء الأمم والشعوب أياً كانت أعراقهم وأصولهم وأجناسهم.
وتبقى في الوطن إثر هذا السفار الرهيب بضعة ألوف آثروا الارتحال عنها بشكل تدريجي من دون لفت لأنظار أحد ولم يظل مقيماً فيه غير الطاعنين في السن والعجزة وفاقدي الأمل بأن يستأنفوا الحياة فيه على الغاية من العيش الرخي والخلي من التكدير والتنغيص دون ترجي الخلاص والنجوة منهما بسبيل ما بسوى الموت الآيل لطي صفحات الكائن الحي والمستطيل بآماله وظنونه ومشروعاته في دنيا العمل والتي يروم تحقيقها لو كتب له المكوث في الحياة أكثر ، وجرب في انغماره بعالم الانسان وخَبرَ توقحَه وزهوه الكاذب وافتخارَه بنفسه التي لم يؤثر عنها أكرومة وحياء وسابقة من الفضل يوماً ، غير المزلات والأخطاء والنقائض التي تزري به وتشينه ، الا من عصم ربك وصانه من الرجس والدنية وأشفق عليه من قلة التهذيب.
وكذا حيي مير بصري في البلاد العراقية حياةً طويلة وعريضة معاً بتعبير ابن سينا ، فقد ولد في أوليات القرن العشرين وامتدت به السنون إلى عهد متأخر منذ إقامته النهائية في المهجر النائي بأنحاء لندن ويمم وجهته صوب أورشليم القدس التي توحد جانباها أثر حرب حزيران واستحوذ العادون على الجزء العربي منها جاعليها مركز دعايتهم وإعلامهم وصحفهم وإذاعتهم ومطابعهم ، بدليل أن كتابه (رحلة العمر) فرغت منه احدى دور النشر في القدس عام 1991م ، أو لا يكون قد ألم بها يوماً ، وإن استمعت بنفسي لحديثه الإذاعي المستفيض في أدب المهاجر الأمريكية وما توفق له العرب المغتربون هناك من إبداع وابتكار وتجلٍ في الصياغة الشعرية والمحتوية على المعاني المبهرة واحتضانهم للجديد ، وقد يكون – أي الحديث ذاك- مقتبساً من إحدى الدوريات أو مرسلاً من الكاتب نفسه لينقله الأثير بصوت غيره من المشتغلين بالإذاعة.
فأما الحياة العريضة التي حظي بها مير بصري وظفر بطوائلها وعائداتها زمناً فكانت ملأى بالايناس والصفو نتيجة روابطه بصلات وصداقات مع صفوة الكتاب والمفكرين والعلماء واللغويين وشعراء البلد من جميع العناصر والأجناس ، والأديان والمذاهب ، وعلى اختلاف النزعات والأفكار ووجهات النظر للمسائل العامة ، حقاً إن هذه التشكيلة من خيار البشر في القرن الماضي ، هي بمثابة نخبة ينتظم فيها صلحاء الناس وتتدانى فيها مشاعرهم وعواطفهم المبرأة من شوائب الحسد والضغينة ، وإنهم حقاً لإخوان الصفاء وخلان الوفاء في هذا الزمن المنحوس ، يأتي طليعتهم الفهامة اللغوي والنحوي مصطفى جواد وروفائيل بطي وعباس العزاوي ، وعلامة الأدب الفارسي والخبير بشعر الخيام النيسابوري الرياضي والفلكي وهو الشيخ احمد حامد الصراف وقد يعد من الأدباء المجلسيين لقلة نتاجه ونزارة ما طبع منه وعوض عنهما بذلاقته وغزارة معارفه ومكنته من إسحار النفوس أيضاً من طريق استدراجه للحديث في الإذاعة والتليفزيون ، ومن أعلام هذا الرعيل الكاتب الموسوعي جعفر الخليلي والناثر الجزل والمتفرغ للتعريف بشعر الرصافي وتبسيطه وتفسيره على ضوء دواعيه التي اقتضته ومناسباته الملهمة به والموجبة له وهو الأستاذ الكبير مصطفى علي الدروبي في ملة الأستاذ عبد الحميد الرشودي الذي كان حميم الصلة به وأدرى بشأنه ومخابر حياته ، فقد استجليت لأول مرة في مقال كتبه الرشودي نفسه ، اتصال الرجل برهط المبدعين في الفن والرياضة ومتَه لهم ، وانضواءه في قبيلتهم ومعشرهم ، وأخيراً العالم القانوني الفاضل حامد مصطفى رئيس التدوين القانوني ورئيس جمعية الدفاع عن حقوق الانسان بالاسم واضطراره مقسوراً لقبول المركز ذا وارتضاء تينك المرتبة والمكانة ، والا فإن تحادثه معه لو اجتمعا (سوية) يأتي في غاية التبسط والاسترسال والبوح بالمسكوت عنه ، مع جمهرة ممن يسميهم بالإنسانيين ممن يغشون الدوائر لأجلهم وفي سبيلهم متطوعين ومعظمهم يشغل غير مهمة ويستأثر بأرفع المناصب في جهاز الدولة أمثال شفيق الكمالي وعزيز شريف وعبد الستار الجواري وغيرهم ، ذكر كل هذه الحقائق في كتابه رحلة العمر وغيره والمطبوع بالقدس عام 1991 ، ضمن منشورات رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق لمؤلفات يهود بلاد الرافدين ، ولم يفته كي يجعله مقبولاً يتلمس القارئ فيه صحة إيمانه بالأخوة الإنسانية وحرصه على النأي والتبرؤ من الشنأ والحقد ، أن يستهله بأبيات شعرية مشهورة للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، داعية التصوف وقدوة الحالمين بعالم يسوده الصفاء بين البشر وينتفي منه التحارد والكراهية والنفاسة المقيتة بينهم ويعدونها إلى الاستكثار عليهم ما هم عليه من وفرة في المال من غير احتياج شيء ما ، دونما تحسس واحتساب ما لمنازعهم الدينية والمذهبية (وكل فرد بما والى وما اعتقدا) والمهم ان يبنوا بشرعة الحب ويلتقوا جميعاً عنده.
وتحتوي مقالته الأثيرة والمتنوعة من كتاب الموسم الصادر عن أكاديمية الكوفة بهولندة على تنويهات وتعريفات ببحوثٍ موجزة حول الدين اليهودي وكتاب العهد القديم وما يضم من أسفار التكوين والخروج واللاويين والعدد ، لينتهي في السفر الخامس عند المعاودة على أحكام الشرع وينتهي بوفاة موسى كليم الله ، كما يضم أسفاراً تاريخية أخرى ككتاب يوشع وأيوب والمزامير التي تعزى لداود النبي وكذلك سفر الأمثال والجامعة وينسبان لسليمان الحكيم ، وحصاد الإنسان من الثاني يتمثل في هذه القولة المأثورة: كل شيء باطل وقبض الريح.
وتظل الملتان من النصارى واليهود لا تملان أينما التقتا في معبد أو كنيس من ترتيل لقيات مختارة من هذا التراث الخالد المزامير وترديده في صلواتهم وابتهالاتهم وهي كما يقيمها مير بصري ((مزامير عذبة تتجاوب مع خلجات النفس وتتضارب مع دقات القلوب ، منها الهادئ والصاخب ، والبهيج والحزين ، صلوات روحانية تسمو بالإنسان الواهن وترفعه إلى أعلى عليين ، أما تلك التي تتعلق بالموت فتشيد بقوة الباري ورحمته ، وتفتح أبواب الأخرة للمؤمنين ، تضيء دياجير القبور وتسكب في الروح بلسم الحنان ، وترف في الوجه رفيف نسائم الخلود)).
وأرى أن الكاتب مير بصري نسيَ نفسه وغابَ عن وجدانه واستغرقه كَلَفه بالجمل الإنشائية سائبة المعنى وتنكص أي طاقة أو إمكان بشري عن الاحاطة بمضامين وفحاوى الوصلات الأخيرة من هذه المقتطف الجم التأثر بالأدب الجبراني !.
يتلو هذا التعريف المطنب بعض الشيء في أصول الديانة الموسوية ، وقوفه الحري بالتأمل عند معنى القبالة وهي في نظر نفر من اليهود المتجردين من الرغائب والأطماع ، لا تعدو التصوف عند المسلمين ، ولدى الطائفة كتاب مأثور في معنى التصوف الالهي وأكثرهم لا يفقهون معانيه ، لكن يرددونه في صلواتهم على أرواح الموتى “إنه يتحدث عن العالم السفلي الذي تتعذب فيه النفوس الشريرة لتصفى كما يصفى الذهب الابريز في النار ، عن الخوالج التي تختلج في قرارة النفس ، عن الآمال التي تحلم بالبقاء والخلود ، عن الآلام التي لولاها لم يكن فرح ولا بهجة في الدنيا ، عن الأرواح الهائمة التي تريد مستقراً في حمى الرحمة الالاهية الشاملة ، يا للظلام الذي يلف الأفلاك القاصية ، يا للأنوار الساطعة التي لا تستطيع رؤيتها العين البشرية ، يا لذكريات الأزل التي تمتد إلى أبد الآباد”.
ويتوج البحث الضافي ذا بعينة من التعريفات بسير الرجال الأطياب الذين غابوا عن الدنيا وانطمس أثرهم طي الصفائح والرجام ، وجميعهم من المتولدين في القرن التاسع عشر وجلهم من الحاخاميين وفي أوليات القرن العشرين من الأطباء والمهندسين والتجار المحسنين الذين لم يبخلوا بثرواتهم الفائضة في انفاقها على الأعمال والصنائع المبرورة ، خلاف ما يشاع عنهم ويلهج به النفر المغتاب من عزلتهم وانطوائهم وضنهم بما يمتلكون ، واخيراً من المعنيين بالاقتصاد والمهتمين بأمور السياسة والمناضلين في الحركات السياسية وممتهني الكتابة والترجمة وقول الشعر ، واستدل الباحث برهطٍ جم منهم تقاسموا مع أخدانهم من أبناء الديانات الأخرى تنشيط حركة التأليف والثقافة والوعي والاستنارة زمن العشرينيات والثلاثينيات قبل استفحال الحركات الصهيونية ، حيث صارت تحوم حولهم الريب ويؤخَذون بالظنة ويفتري عليهم من لا شغل له بالعروبة وفلسطين ما يفتري ، وفاته في النهاية ذكر الرجال الأعلام والمجلين في ما شهر عنهم وهم:
1. سليم بصون وهو صحافي لامع حرر جرائد الجواهري وآل الفكيكي.
2. شالوم درويش البغدادي الذي لم يخرج من بغداد يوماً غير أنه برع في وصف حياة الفلاح وآلف مجموعتيه القصصتين أحرار وعبيد وبعض الناس.
3. سالم الكاتب مؤلف كتيب تغاريد الحياة ، المطبوع بلبنان بتقديم المرحوم محمود العبطة أواخر الأربعينات ، أطلعني على ديانته اليهودية مُسِراً هامساً في ذلك الجو الملبد الذي تحصى فيه الأنفاس الراحل عبد القادر البراك.
وإذا كنت قد عثرت على مطبوع أكاديمية الكوفة أو جيء به من بسطية لبيع كتب التنجيم والسحر في الكرادة الشرقية وعلى مسافة وقرب من جامعة بغداد ، فإن للمملكة الأردنية الهاشمية الفضل المعلى في وقوفنا على النشاط الثقافي لليهود النازحين من العراق بالقسر أو بمحض رغبتهم ، متجاوزة ومتخطية في ما آثرته وجنحت له من تطبيع في العلاقات ، اعتراض هذا وذاك من الساسة المذبذبين المنافقين.
0 التعليقات: