المقابلات الصحفية مع الوجوه الثقافية
المقابلات الصحفية مع الوجوه الثقافية
عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي
مما سبق أن قرأته بصدد مشكلة القراءة وتطلع الأديب لمخرج منها، إزاء كثرة ما يواجهه يومياً من دوريات وكتب وصحف ومجلات، ومعظمها حافل بالموضوعات المفيدة، ويخيّل له أن لا مناص من مطالعته والإحاطة بأبحاثه قدر الإمكان أو مهما كان عليه من ضيق وقته واستنفاده الساعات في تدبير أسباب معيشته، أقول ما قرأته بإمعان في هذا السياق مقالة العلامة عمر فروخ المنشورة في أحد الأعداد من مجلة “العلوم البيروتية” المحتجبة ، فقد نصح فيها للمثقف الذي لا يقتصر في اتصاله بالحياة الفكرية على التذوق والاستيعاب والتلقي من معطياتها ، بل له دوره ومشاركته في إغنائها ورفدها بموحياته ونتاجاته ، نصح له أن يغني عن مطالعة المساجلات والتعقيبات ويضنّ بوقته أن ينفقه في الاطلاع على تلك المقالات الضافية مما تنشره الجرائد والمجلات في تصنيف هذا الشاعر أو ذاك القاص في خانة الرواد ، وخلاف ذلك من انتقاص آخرين، وغمز قناتهم بهذا المزعم وغيره، خاصة إذا كانت هذه الأغراض والمرامي مضمنة في المقابلات التي يبين فيها من يتجه لهم الصحفيون بأسئلتهم واستيضاحاتهم، فيحسنون تزويق القول عن عنائهم وجهدهم في مغالبة الصعوبات ، وتخطي المعوقات التي وضعتها في طريقهم تقاليد البيئة واعتراضات الأهل وتحفظات الحكومات السابقة قبل عشرات السنين، وتحسباتها لما بانوا عنه عبر كتاباتهم وأشعارهم، من جرأة وتحدٍ ورفض ونزوع لما لاحدّ له ولا مدى من الانفتاح الذهني والرحابة الفكرية بل مغامرة في صيال المستعمر والصادعين بمشيئته في غير ونى ومهاودة، إلى غير ذلك من الادعاء والتلفيق والتمنن على الناس .
المقابلات الصحفية إذاً في مقدمة ما يوصي الدكتور عمر فروخ قراءه باجتنابه والانصراف عنه إلى ما يغني أفهامهم ويثري عقولهم من الفصول والدراسات، فهذه عنده – أعني المقابلات وفحاويها – أملاً بالتنطع والتصنع وتضخيم الذات وتطارح الثناء في غير استحقاق أو استناد إلى قاعدة أو قياس منها إلى انتهاج طريق العدل والنزاهة والاستقامة وتمثيل ما بذله أولئك الذين يستحقون فعلاً الإشادة بحميتهم وايثارهم من جهد دائب، إن في صقل موهبتهم وشحذ ملكتهم، وذلك بالاطلاع على نفائس المؤلفات مما كتبه أسلافهم أو جاءهم منقولاً عن ثقافات الأمم الأخرى، أو في حمل بني جلدتهم ما وسعهم على المحبة والوفاق والتمسك بقيم الحق والخير والجمال، وغير ذلك من أهداف وغايات يضعها كل حملة الأقلام قبلتهم فيما ينسجون ويحكمون من قوالب وتراكيب، وبدونها يغدو اداؤهم لغواً وتعبيرهم هراءً .
لكني لا أخفي أن كتاب ( عشرة ادباء يتحدثون ) لفؤاد دوارة من أهم المراجع التي أتصفحها وانهل منها من آن لآنٍ ، وعند اقتضاء الحاجة إلى إثبات حجة وإبراز شاهد أو دليل، فقد احتوى على اعترافات ومذكرات وانطباعات أدلى بها لهذا الناقد أساطين الكتابة وأعلام الرأي في مصر امثال طه حسين وحسين فوزي ومحمد مندور وتوفيق الحكيم وفتحي رضوان، تكلموا عبرها بغاية الصدق والموضوعية، وبمبعدة عن التنفج والإزدهاء، والتعفف عن التشكي ومطالبة الناس بإنصافهم من غبن واجحافٍ موهومَين، أو حتى لم ينبر فؤاد دوارة الذي دون محصلات تلك الحوارات، داعياً لتوقيرهم وإشهار فضلهم، هم المستجمعون في سيرتهم وعطائهم معاً لعناصر النضج الأدبي من بيان آسر ولغة ناصعة وابتغاء مرمى مالا يتوانون في صياغته وتجسيده، يسوغ معه سلكهم في قافلة المجددين في كل المضامير والميادين.
ويجرنا هذا إلى التذكير بما اضطلع به المرحوم الدكتور عبد الاله احمد، في رسالته عن النتاج القصصي في العراق بعد الحرب العالمية الأخيرة، عبر توثيقه لمراحل النهوض الفكري وأدوار الوعي السياسي، وما جارى فيه الكتاب العراقيون أقرانهم في مصر والشام وغيرهما من ديارات العرب، من الابتعاد عن التكلف اللفظي وانتهاج طريق الترسل والعفوية في غير تفكر واشتغال في غمرة انصرافهم لإقامة عبارتهم، بما يروقهم من هذا اللفظ الطنان أو التركيب الجزل المتين، نقول سجل الدكتور عبد الاله احمد على الرواد من أهلنا في العراق في كل معرض وميدان، من دعوة اصلاحية ومجازفة في مواجهة عامة الناس بما يناقض مألوفهم ويغاير عاداتهم، وحتى في ريادة فن كتابي وسابقة في تطوير صحافة أو تأليف، ونعى عليهم محدوديتهم ونكوصهم عن الاستمرار والوفاء بما يتوجب عليهم لغاية الشوط، فاستقرى أن ليس في بلاد الرافدين قبلاً شخص بمستوى قاسم امين من تبني رأي ترتب على اخلاص صاحبه له واصراره عليه وتماديه في تسفيه مخالفيه والمعترضين عليه، أن تشهد الحياة العربية في القرن العشرين نقلة حية وملحوظة من جانبها الاجتماعي، من السذاجة أن نفيض فيها، إذ هي من الوضوح والجلاء بحيث نزل على دواعيها غلاة المتزمتين، كما لم يظهر عندنا في العقود الماضية أو ابان مابين الحربين، رجل نضعه في صف لطفي السيد من ناحية رؤيته الفلسفية حيال طبيعة الأشياء واعتماده على التفكير المستقيم في مواجهة ما يثار بوجهه من عواصف أو يلصق به خصومه ومناوئوه من سفاسف واباطيل، ونستدل من جانبنا أن لطفي السيد هذا أستاذ الأساتذة المجددين المصلحين، تسنم منصب وزير الخارجية المصرية بعد الحرب العالمية الأخيرة، وقام بمفاوضة الانجليز لإبرام معاهدة جديدة، أحبطها الشعب بما لم يبخل به من نذور وأضحيات، ظل إلى أخريات حياته موضع تجلة من مثلوا مرحلة النهوض الجديد الذي شهده المجتمع العربي يومها أمثال سلامة موسى ومحمد مندور ومحمد زكي عبد القادر ونعمان عاشور في ما سجلوا ذلك في أدبياتهم، وجميعهم سجنهم اسماعيل صدقي الذي استوزر لطفي السيد فيا للمفارقة.
لكن أنى لك أن تضعنا في عداد العازفين عن مغنية الحي.
فنحن لا نبخس حق ذوي الأساليب البيانية الرصينة المراعية للقواعد والأصول والدالة على مكنة فائقة وقابلية ملحوظة على الاستقراء والتفصيل في فكرة أو موضوع، ولا نتجاهل ونستهون ريادتهم وإبداعهم، وكيف لأحد أن يجحد ويعق معطيات هي القمة في النضج والتكامل والعمق والجودة في ميدان النثر والنثر وحده نعزوها إلى الكرملي ورفائيل بطي ومصطفى جواد والبصير وكمال ابراهيم ومصطفى علي والأثري وابراهيم الوائلي، ممن اعتقد أن زمنهم لم يشهد تمرس الصحافيين بفن المقابلات، التي يراد منا أحياناً مجاراة البعض ومشايعتهم على أن هذا الشاعر اللاهث وراء البدع الفنية الموقوتة يمثل استئنافاً لسابقة الغيارى من رجال الاحياء والنهضة في تجديد الشعر وتنويع أغراضه وفنونه، وهذا الكاتب المحدود من إلمامه بمسائل النحو أو الاملاء أو الذي يشوب كتاباته ما أسماه الوائلي من باب الترفق والتلطف بأغلاط المثقفين، على انه يضاهي من جهة الريادة والتألق عبد الرحمن بدوي أو نجيب محفوظ أو ناصر الدين الأسد.
وكأن الصحافي حميد المطبعي – الذي بارح دنيانا قبل وقت – و ذا السابقة المشهودة إلى شيوع مصطلح الستينات أو الستونيات أو الستينيات بتخريج الكاتب عبد الجبار داود البصري وتمحيصه واستنتاجه، أو الذي يصح – أي المطبعي – أن تقرن به، فهي ستينات حميد المطبعي حقاً. لأنه مبتدعها الأول من يوم أن اصدر مجلة الكلمة، وتبنى مناصبة التقليد والانغلاق والتحجر في الكتابة وفن القول ما وسعه من العداوة، و مال مؤخراً إلى قسط من الاعتدال ونزع إلى الحكمة وتغليب العقل على ما ينساق وراءه المرء من جموح وشطط جراء ميله وعاطفته، فأعلى منازل ذوي السابقة، واضطلع بتعريف معاشر القراء من مختلف الأجيال والمستويات ممن أنجبهم هذا الأديم من أساتذة وجهابذة ، بمتنوع الإختصاصات العلمية والأدبية عبر ما برع في توثيقه، مستهدفاً منه وبه ان يستوي على جادة التأليف بحيث يحسب له على انه من وضعه ومأثوره وصياغته.
أقول كأن المطبعي ادرك بصنيعه هذا ضآلة المحاورات الرتيبة من البقاء، فانتهج لجذوره ما يفي بحاجتها إلى هذا العنصر أو المزية من أسباب ووسائل، ما هدته له فطنته ومراسه وخبرته الصحفية ولوذعيته ، واللوذعي في مختار الصحاح الظريف الحديد الفؤاد، يمين الله ما قصدت غير هذا .
0 التعليقات: