ذكريات باريس
ذكريات باريس
عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي
كتب إليَّ صديق بمناسبة فراغه من قراءة كتاب ( ذكريات باريس ) تأليف الدكتور زكي مبارك وقد أعرته إيَّاه فور شرائي له من سوق الكتب في شارع المتنبي ببغداد يقول :ـ ” التهمته التهاما ً برغم مؤاخذاتي الكثيرة على مضامين مقالاته التي اختفى فيها الشَّيخ الأزهري وظهرَتْ صراحة الغربيينَ في اعترافاتهم وبثهم لخواطرهم أمام قرَّائهم ! ، عموما ً جعلني زكي مبارك كأنـِّي أعيش في باريس ومرسيليا وهذا يدلُّ على قدرة غير عادية على التأثير ” .
فماذا أبقى لي ذلك الصَّديق من القول لأرسله في تثمين هذه الطرفة التي عثرْتُ عليها وبها مصادفة بين أكداس الكتب التي يحوزها أحد الورَّاقين وهو يجهل قيمته لا سِيَّما أنـَّه منزوع الغلاف ولا يحمل اسما ً وربَّما يخاله ليس بذي شأن ، أما وقد اهتديْتُ لاكتشاف عنوانه ، فمن خلال تفرُّسي في بيانه وتمحيص عبارته واكتناه ما يغلب عليه وينماز به من سلاسة ورشاقة وتوهج في الشُّعور والإحساس وتشكي كاتبه من الكنود والضَّيم والتجاهل والعقوق ، وانـَّه لم يستوفِ مكانه اللائق ويحظ بمرتبة هو جدير بها بين لداته وعشرائه وكثير منهم مارس في حياته فنون الختل والنفاق والقيل والقال وتوسُّل بالإرجاف والسِّعاية لاعتلاء أسمى المقامات فما اجتليته في آثار سابقة لهذا الكاتب الذي صرَّح مرارا ً أنـَّه مظلوم وأنـَّه لمْ يأخذ حقه وأنَّ الزَّمان أضرَّ به ولم ينصفه ، حدا بي لأنْ أحشره في عداد المفلوكين الذين شخصهم من قبل أحمد بن علي الدَّلجي ( 770 ـ 838 ) للهجرة ، وحكى عن غرابة أطوارهم واتسامهم بالنزق والطيش والحمق إلى جانب شعورهم بالغبن والإجحاف وإحساسهم بالذل والمهانة ، وتعمُّ هذه المواصفات أوساط العلماء والمفكرين والأدباء لفرط ما يخامر نفوسهم من الأشواق الرُّوحية ويبتغون الكمال في كلِّ شيءٍ ، وإذ يتعسر عليهم بلوغ هذا القصد لمْ يبقَ أمامهم غير أنْ يمعنوا في التحسُّر والشِّكاية ويظهروا سخطهم ونقمتهم ، وكذا هو زكي مبارك كما نقرؤه في هذا السِّفر الذي أودع صفحاته الثلاثمائة ذكريات عيشه في باريس لتلقي دراسته في السُّوربون منذ مغادرته القاهرة سنة 1927م ،
ومكثَ في مدينة النور بضع سنين ، وأحرز فيها شهادة الدكتوراه برسالته الموسومة ( النثر الفني في الأدب العربي في القرن الرَّابع الهجري ) حيث ساجل كبار المستشرقينَ وسفـَّه أوهامهم وأضاليلهم عن الأدب العربي وثقافة المسلمين عموما ً وامتحن أساليبهم وطرائقهم في تلفيق المثالب والعيوب وإلصاقها بالعرب مع إظهار اعتزازه وتقديره للرَّعيل المنصف منهم والذي احتكم أولا ً إلى ذمَّته وضميره قبل أنْ يرسل الرَّأي جزافا ً من غير تثبُّت ولا يقين ، بقدر ما جنح للامتزاج بعامة الشَّعب الفرنسي ومن مختلف الطبقات وتعرَّف على أحوالهم وأوضاعهم ، ونفذ وسط باريس إلى العالم الزَّاخر بالجمال والفتنة حيث الإسراف في الغواية والضَّلال ، وبجوار هذه المعابثات والمآثم يتهافت أناس غيرهم على التهجُّد والعبادة ومن أشياع كلِّ أمة ودين ، إنَّ هذه الشُّؤون والشُّجون صورها زكي مبارك وحكى عنها مقارنا ً بين حياته في مصر ولبثه في الغربة عبر أسلوب متدفق وبيان عفوي يترسَّل فيه بوحي السَّليقة والطواعية ولا أثر فيه للافتعال والتصنع ، هذا إلى أنَّ عبارته مشحونة محتوية على الأغراض والمعاني التي تمتلئ بها نفسه ويبغي منها أنْ تثري وجدان القارئ ، من قبيل تحليله للنفس البشرية التي قد تتورَّط في الإثم والرَّذيلة وتنجر إلى الغواية والفسوق ، ويموِّه صاحبها على الناس مع ذلك مدعيا ً العصمة والنزاهة ، فأمَّا رسائله الشَّائقة التي وافى بها أصفياءه ، أمثال :ـ محمد السِّباعي ، وحسن القاياتي ؛ مستفسرا ً عن ظروفهم المعيشية وما يلقونه من إهمال وازدراء وتجاهل لمواهبهم وقابليَّاتهم الممتازة دون بقية أنصاف الأدباء والأدعياء والجهال الذين يسايرون كلَّ حاكم ويماشون أيَّ سلطة في اجراءاتها بحقِّ مناوئيها وخصومها ، فحسبها أنْ تعدَّ من الأدب الإنشائي الذي يمتح من الوجدان ويستلهم أحاسيس النفس البشرية والذي غلب شيوعه في آداب الغرب وندرَتْ شواهده وعيناتٍ منه في آدابنا المحدثة .
لعلَّ أجمل مقالات هذا السِّفر النفيس الفصل الذي كتبه عن انتحار تلميذه الشَّاعر أحمد العاصي مستذكرا ً يوم جاءَه للتعرُّف عليه في الجامعة وهو طالب آداب هجر الطب وصدف عن الاستمرار في درسه لأنَّ أعصابه أضعف من أنْ تتحمل مناظر التشريح ، فانبرى لتزهيده فيما أقدم عليه زعما ً أنَّ المشتغلين بالأدب يماثلون أندادهم المهتمين بالطب ، فهم معنيون بتحليل الأبدان وتشريح الأجسام بينما ينصرف الأدباء لتحليل العقول ، وليسَتْ هذه الحجة محتوية على التظرف والفكاهة بقدر ما كان زكي مبارك جادا ً في حيرته انْ كيف يفلح النقاد في إثبات أنَّ أبا نؤاس كان سيء الأخلاق ، وأنَّ البحتري كان قذر الثياب ، وأنَّ المعري كان من الملحدينَ ، وأنَّ المتنبي كان صعلوكا ً يتصيَّد المال وهو يدَّعي سموَّ الملوك ، إلى آخر ما توجبه الدِّراسات الأدبية من الهذر الممقوت ؛ ويحذره بالتالي إذا صحَّ عزمه على الاشتغال بالدِّراسات الأدبية من غشيان محافل الأدباء والظهور في مجالسهم ، فهي مملوءة بالفتن والنزالات والدَّسائس ، ولا ينجح من بينهم إلا الرَّجل الوقح الذي يعرف كيف يختلق الأكاذيب بزملائه الأدباء .
وكذا كان حال الجو الأدبي إبَّان عشرينيات القرن الفائت حسبما وصفه صاحب ( النثر الفني ) وغيره من شوامخ المؤلفات ومن بينها كتابه هذا البالغ القدرة على التأثير من خلال تعابيره القوية كما عبَّر عنه ذلك الصَّديق .
0 التعليقات: