نخب النهايات السعيدة قصص عبد الستار ناصر
نخب النهايات السعيدة قصص عبد الستار ناصر
عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي
ظهرَ المؤلف عبد الستار ناصر ذاتَ مرَّة في التلفزيون ــ وبالتحديد على قناة الشرقية الفضائية ــ وأفصح أنـَّه ينفض اليد ويضنُّ بالتصديق والتأمين على كلِّ ما يدَّعيه الخلطاء والأصدقاء من تعلقهم بالمثل العليا ، واستمساكهم بالمبادئ ، والسعي لتشذيب حياتنا الواقعية وتنقيتها من الشوائب والآفات المتمثلة في الدجل والختل والمَين والكذب ، وتبيَّن له أنَّ كلَّ ما يتمشدقونَ به من التجرُّد والتصوِّن والتناهي في الإيثار ونشدان الخير للناس وتوخِّي خدمتهم هو للآن لم يُخلق بعد ولا أثر ولا وجود له في الحياة ، سوى أنْ اتخذ منه بعضهم تكأة يستندونَ إليها في التوسُّل لآرابهم وابتغاء أطماحهم الشخصية .
وهذا عينُ ما أتى على تصويره على نحو ٍ مؤس ٍ وداع ٍ للرثاء والإشفاق على حال أيِّ مخلوق راودته نفس مشاعره من الطيبة والثقة بالآخرين ، وشاكله في تسرُّعه واندفاعه ، وغاب عنه أدنى تفكير بالعواقب ، وذلك في نهايات قصَّته المعنونة : ( سيُّدنا الخليفة ) ، التي نشرتها مجلة ( الموقف الأدبي ) في دمشق عام 1974م ، والتي أمسك عن تضييفها على أيِّ مجموعة قصصية أصدرها من مجموعاته الكثر المتوالية طوال هذه الخمس والثلاثين سنة المتصرِّمة ، حتى شاء أنْ يسلكها في عداد محتويات كتابه الذروة في البكاء على شجن العالم والنعي على تهاوي البشرية وانحدارها لشرِّ النهايات المحفوفة بالخسائس والأرجاس ؛ وأعني به ( نخب النهايات السعيدة ).
(( كان من بؤس مدينتنا أنَّ القائد الذي جرَّنا إلى التظاهر في وجه الخليفة ، وضدَّ ما يسميه بالحكم الفردي أو الحكم العشائري ، قد انسحب بكلِّ جبروته وأنفه العريض ، إلى مولانا الخليفة ، وقد نصَّبه محافظا ً على جنوب الوطن العزيز . وبه انتهتْ آخر آمالنا الجميلة وندمتُ على كلِّ اجتماعاتنا السرية التي توهَّمْتُ فيها الصدق والصفاء )) .
إلى غيرها من اللقيات العبارية المؤثرة والمعرِّضة بواقع مشحون بالدنس والعهر ، وعن كلِّ معنىً صحيح للفضيلة والنقاء والاستقامة مُحَرَّفٌ وناءٍ بمسافة أشواط ، رغم ما يتداعى له المنتفعونَ من عطايا سيِّدنا الخليفة من قرع الطبول والنفخ بالمزامير لإعلاء صيته وإشهار اسمه وتعفية ذكر ما عداه من أسماء يتوق أربابها أنْ يكون لهم بعض فاعليةٍ وإسهام في تدوير شؤون الحياة وتسيير مصالح العباد أو على الأقل يرغبونَ في مشاركته مهمَّاته وصلاحيَّاته ويحوزونَ نفس امتيازاته أو ما دونها ، لكنَّ سيِّدنا الخليفة ضرب المثل الأعون له على تحجيمهم عند حدٍ لا يجوزونه ، وحسبهم أنْ يكفلوا سلامتهم من أنْ يطولهم كيد أحراسه المبثوثينَ في كلِّ مكان ،
عبد الستار ناصر |
يحصونَ عليهم همسهم وفلتات ألسنتهم ، ويشيعونَ في أوساط الملأ المفدوحينَ بالقهر والمصائب جوا ً مليئا ً بالخوف والرعب ، في الوقت الذي يتمنن فيه على السواد بما
أغدقه عليهم من هذا النعيم الجالب للرفه والسعادة ، وبما جاد به من هذه المكرمات التي لا عهدَ لهم بها ، من يوم أذعنوا فيه لأربابهم السابقينَ الذينَ آثروا لهم الحفا والوجا كما يقول شاعر العصر ، فلا مراء أنْ أوغل في ذمِّهم ، ونعى على الشعب فرط استكانته لهم ، وكان عليه من زمان بعيد أنْ يجد فيه المنقذ المخـَلـِّص بثورته البيضاء والمنتوية فتح صفحةٍ جديدة مع كلِّ فردٍ من الناس ، وكذا وعلى شيءٍ من الاستحياء انبثَّ رهط من أعوانه وسط الجمهور يتغلغلونَ في تجمُّعاته بدعوى ( أنتَ تسأل والشلة تجيب ) ، عسى أنْ يحوزوا رضاهم ، ويظفروا بتأييدهم ، ويتجاوز أولاء عن إحنهم وحقدهم الدفين ، أمَّا أنْ يضمنوا صفحهم النهائي وتصالحهم الحقيقي ، فذلك ما يبدو أمرا ً صعبا ً وفي حكم المستحيل على الرغم من وداعتهم وطيبة نفوسهم وترفعهم عن الغيظ والموجدة وتأبِّيهم على أيِّ لون من الاقتصاص والانتقام ، فالجـراح كانتْ ناغرة وعميقة وعـصـية على الاندمال والالتئام ، ولم يقتصر الكلام في تجمُّعات أو تحشُّدات ( أنت تسال والشلة تجيب ) على تطييب خواطرهم وإبهاج نفوسهم ، بل تعدَّاه إلى تناول سير حُكـَّام الدول الجارة وما يقعونَ فيه من أخطاء أو يترامونَ إليه من عثرات ، لإثبات تفريطهم بمصائر شعوبهم وتقصيرهم حيالها بواجبهم ، وصولا ً إلى توكيد إنـَّه ورهطه أوفى بالذمَّة وأرشد بالقصد وأسدِّ في الخطة والمنهج ، وكذا بدأتِ النفوس تضعف ، لا سِيَّما أنَّ سبيل العيش وعرٌ لا يُشَقُّ ، ومتطلبات الحياة تقسر أمضى الناس تصبُّرا ً وتحمُّلا ً على التخفـُّف والتطامن بعض الشيء والتخلي عن الإصرار والعناد ، فخُيِّل لسيِّدنا الخليفة أنَّ ولاء الأنام والتفافهم حول سلطته المبسوطة وحكمه المطلق صار عاما ً وفاشيا ً ، وحلمه بالزعامة على الدنى العربية إنْ لم يكن على العالم بمجموعه صار مبعث الزهو والاغترار والطيران بأجنحة الوهم ، لكن بدا سهلا ً عليه أنْ يُوقِع أيَّ مُدِل ٍ بتعاصيه على المغريات وعصمته من التهافت على الأوطار والرغائب ، وإحجامه عمَّا زهد فيه زمنا ً وصدف عنه قبلا ً من المتع واللذائذ ، فسيسقطه ويُدنـِّسه ويدوس أنفته وكبرياءَه ، بعد أنْ ينتقل من صفِّ جماعته ويصير من رجاله المختارينَ .
وهـذا مـا أتى عليه الأستاذ عـبد السـتار ناصـر وأحسن تصويره عـبر قصَّته : ( مولانا الخليفة ) ، عن تخلي بعض الناس ــ بعداء وأقرباء ــ عن قيمهم ومعتقداتهم ، وقد فطنَ أحد المُوَكـَّلينَ برقابة ما ينشره الكـُتـَّاب في صحافة الداخل والخارج من نصوص ومقالاتٍ أدبية وفكرية ، وإنعام النظر فيها وتمحيصها ، واستبانة ما تنطوي عليه من أفكار وتوجُّهات ومضامينَ ، عسى أنْ يجدوا فيها مغمزا ً أو تعريضا ً بسلوك رجل السلطة ، وقد يشتط بعضهم فيختلق أو يتوهَّم ما يستدعي مساءَلة الكاتب وذلك زيادة في الملق وتظاهرا ً بالولاء وتطلعا ً لوظيفة أرقى ومقام ٍ أسمى وأرفع ، ولا يهمُّه أنْ يُلقي بواحدٍ من البشر في قعر مظلمةٍ دون أنْ يرتكب جريرة ويقارف إثما ً ، ولا يضيره بتاتا ً أو يفتكر أنْ يستطيل العسف وتعمّ ظاهرة أخذ الناس بالظنة ، فتدور الدوائر عليه هذه المرَّة ، وكذا بفعل تفسير مفتعل ومنحول أو متضمِّن لبعض الصحَّة والواقعية ومشتمل عليهما في موارد ومواضع من ذلك النص القصصي المفرَّغ في قالب من السرد المتوهِّج بالإشراق والحدَّة والحماسة ، فضلا ً عن لغته النقيَّة الصافية وبيانه الدال على إزماع الكاتب ورغبته المخلصة في التعبير والتصوير غير مبال ٍ ولا محتسب لاحتمال أنْ يتشكك متغرِّض في مراده ومبتغاه ، اعتقله مَن اعتقله بسببه سنة كاملة تحت الأرض في غرفةٍ انفرادية ما كان يعرف الليل من النهار في ذلك الجحر الخانق كما يقول ، معرِّفا ً بمأساته الأليمة .
حقَّ لكاتب هذه القصص الخالية من العناترة والأبطال صانعي الوجود وبناة المستقبل ومجسِّدي المصائر الموفية بهم على الذرى ، كما يفترض ذلك ويشومه نقدة القصَّة ويلتمسونه مشمولا ً به كلَّ نص قصصي ، أو يشتطونَ في تعنيف كاتبه إنْ ضؤل نصيبه من هذا الجانب ولم يواته إمكانه من تصوير اقتدار البطل القصصي المزعوم من تأدية المهمَّات المطلوبة من المؤهَّل لها ، إنـَّما هي نصوص تحكي عن ضحايا الإعنات والقهر على امتداد تاريخ هذه البلاد ، تقصُّ بلغة لا أعذب ولا أفصح عن أحوال مَن راودتهم الآمال والمطامح ورغبوا في الخلاص من الجور والعذاب ، فكان جزاؤهم أنْ تحتويهم المطامير تحت الأرض ، وأنْ يُساور هذا المُوَكـَّل بحبسهم ــ من الأحراس والشرط ــ من الخوف والذعر مرَّة لإصرارهم وعنادهم ، ومرَّة لإشفاقه على ذراريه في حالة أنْ يقصيه حاكمه إنْ تهاون في واجبه ، وبمرور الأيَّام يُمنى بتحجُّر عقله وامتلاء قلبه بالقساوة ، ويفارقه الإشفاق والعطف ، ويَعَافُ ما يلزم للنفس السوية من الحنان والرحمة ، متغافلا ً عن أنَّ أسياده المهيمنينَ على مصائر الآدميينَ مهما تناهوا في جزائه وأمعنوا في ثوابه ، فإنَّ ذلك لا يُضاهي ما اجترحه من مظالم واقترفه من جرائر تطلبته في ساع ٍ من الزمن أنْ ينزع عنه شيئا ً تعارَف الناس على تسميته بالضمير ، وذلك ما نلحظه متمثلا ً بجلاءٍ في قصَّـته ( ضيعة الحنكوش ) ، ثلة من أغمار الناس لا يشكـِّلـونَ مصـدر خـطـر على حكـم السلطـان ولا مبعث قلق ٍ وريبةٍ تزعـزع دعائم الملك وفقدان سيطـرة النظـام وسـيادته في الناس ، بحيث يسـود الهدوء ويذعنوا ويستكينوا ، وهـم : ( عباس ابن الخبَّازة ) الذي لا يقرأ ولا يكتب ولا يفهم شيئا ً في السـياسـة ، لكنـَّه اقتِيدَ للحـبوس بذريعة أنـَّه خـط على الجـدران عـبارة : ( يسقط الحنكوش ) ، مـع أنـَّه يجهـله ولـم تتصـل أسبابه به ؛ و ( حميد أبو قنبورة ابن حارس المحلة الليلي ) الذي يمضي معظم أوقات النهار وشطرا ً من الليل جالسا ً في مقهى الطرف ، ولا شأنَ له بالدنيا وناسها ، أخذوه إلى المعتقل لينضمَّ إلى المعتقل الأوَّل ( عباس ابن الخبَّازة ) ، مفضيا ً له أنَّ تهمته لا تعدو جلوسه الدائم في المقهى منذ سـنين ، هكذا بغاية السـذاجة والفهلوية ؛ وثالثهم هو : ( عبد الزهرة الركاع ) الذي علق بعض الخبثاء صورة ( لينين ) قبالة الرائح والغادي وسط دكانه ، وهو يجهله ولا يحيط بشيءٍ عن الشيوعية وما تعنيه ، وكذا ضربوه بـ ( الكيبلات ) ، وقذفوه ضيفا ً على ( أبو قنبورة ، وابن الخبَّازة ) ، وهو لا يعرف السبب ؛ وبمرور الأيَّام انضمَّ لهم آخرون ، أبينهم : ( حمدان السايس ) الذي جيءَ به لأنَّ مدير المخابرات مغيظ منه وحانقٌ عليه لغلبة حصانه ( كحيلان ) وحظوته بالفوز دون الحصان ( شدهان ) الذي يملكه المدير ، ولما يتصف به المشهد من الرعب والفزع والخوف وما يُمتحَن به هذا الصنف من الناس الذين لا يعونَ ما يجري في الدنيا من حولهم من الخطوب والبلايا ، ولا يملكونَ ذرَّة من الوعي ، يطلق الكاتب سؤاله عابرا ً ، أو يُبدِي استغرابه وتعجُّبه من شدَّة الإرهاق والخسف الذي يحلُّ بهم أنْ (( لا أحد يدري ما إذا كان العالم كله يعمل هكذا في مواطنيه )) ، لكنـَّها عبارة لا تعني تدخُّلا ً في مصير الضحايا وصرفهم عن تلقائيَّتهم وعفويَّتهم ، أو جعلهم ينطقونَ بوجهات نظره ويعبِّرونَ عن آرائه ومسَلماته ، على منوال ما جرى عليه نقدتنا الأماثل الكـُمَّل من دمغهم لأيِّ كاتب قصَّة باتخاذها وعاءً لنوازعه الفلسفية .
وأخيرا ً يؤول مصير أولاء المحتجزينَ إلى أنْ يُعدَموا شنقا ً حتى الموت ، وفي اليوم التالي يعتذر أزلام ( الحنكوش ) بأنَّ ما حصل كان خطأ ً ويشهدونَ ببراءَتهم ، بعد أنْ اشتفى الحنكوش من مواجع غيظه ، وهذه بدعة لم يهتدِ إليها جبابرة التاريخ من قياصرة وأكاسرة وفراعين ! ، ومن ثمَّ يُكافأ أولو الضحايا بما لم يحلموا به من المال المجزي الذي ألجم أفمامهم فلم يعترضوا وهتفوا بحياة ( الحنكوش ) .
بوسعي أنْ استقري وأكتنه أنَّ أسلوب الكاتب في صياغته وتجسيده لمضامينه وفحاويه في أقدم قصص المجموعة وأسبقها ، وهي قصَّة ( مولانا الخليفة ) الماتة إلى العام 1974م ، وأحدثها من التي فرغ من تدوينها وكتابتها في العام 2008م ، هو واحد ومن طبقة واحدة ، وليس فيه ما يشي بتطوِّره واستوائه ومكنته من تصوير الأهوال والمواجع ، على الرغم من مواصلته القراءة في آثار أقطاب القصَّة والرواية في العالم ، فعبد الستار ناصر جاء مكتمل العدَّة والمؤهَّلات والقابلية مذ عهده الأوَّل ، سوى أنـَّني وجدته في قصَّته ( خلوة الغلبان ) المحيطة بجولته في أحياء القاهرة وتعرُّفه على ( المعلم رزق الله ) القريب الشبه في ملامحه وامارات وجهه من الممثل ( علي شريف ) الذي يزوره بمكتبه في مجلة ( الفنون ) بعد أوبته إلى بغداد ومباشرته أعماله فيها ، ويفاتحه بشأن إقامته في القاهرة ردحا ً من الزمن ، منبئا ً إيَّاه بأنـَّه وجد شبها ً بينه وبينَ رجل بصر به في ( خلوة الغلبان ) ، ويباغته هذا ( العلي الشريف ) بعبارته التي هي مسك الختام الذي ينتظره القارئ ، وهي : (( معقول إنتَ شفت رزق الله الحلواني )) .
قلتُ وجدته في تضاعيفها تلك متحيِّرا ً متردِّدا ً أو منسلكا ً منساقا ً بفعل عفويَّته وتلقائيَّته التعبيرية بين أنْ يجري ( المقهى ) على صيغة التذكير أو التأنيث ، لا سِيَّما أنَّ ( المقهى ) ممَّا يسرف القصصيونَ العراقيونَ خـاصـة في استخدامه في تصويرهم ، فمرَّة يقول في الصفحة ( 74 ) : (( وهو صاحب المقهى ومحاسبها )) ، مجـريا ً إيَّاها على التأنيث ، بينما في الصـفحـة ( 76 ) يسـوق تعبير : (( المقهى الفقير )) ، فاللفظة هنا في هذا المعرض مذكرة ، وهذا هو الاستخدام الصحيح .
0 التعليقات: