أخر الأخبار

.

متاهات التبسيط والتنميط 3





متاهات التبسيط والتنميط 3 




عراق العروبة
صلاح المختار *




دائماً اكره الخطأ ، لكن لا تكره المخطئ 

الامام الشافعي 




لفت نظر: هذه الدراسة كتبت وارسلت لجريدة القدس العربي التي نشرت مقال السيد عبدالحليم قنديل ردا على طروحاته لكن الصحيفة لم تنشر الرد وانتظرت اكثر من ثلاثة اسابيع املا نشره لكنها مع الاسف لم تنشره والرد بالنسبة للصحافة الحرة حق مشروع في الاعلام الذي يؤمن حقا بحرية الرأي ويمارسها فعلا لا قولا او بصورة انتقائية، لذلك اقتضى نشر هذا التوضيح . 

صلاح المختار 




وينتقل الى تنميط اخر خاطئ عندما يقول : (ولم يكن من باب المصادفات، أن أول قرارات الاحتلال الأمريكي كان تسريح وحل الجيش العراقي، وإلغاء مبدأ التجنيد الوطني الإلزامي، وكانت النتيجة هي تحطيم العمود الفقري لدولة كان اسمها العراق،)! ثم يضيف (كان العراق دائما تعبيرا جغرافيا لا سياسيا، ولم يصبح دولة بصورتها التي كانت، إلا قبل أقل من مئة سنة، وفي سياق اتفاق «سايكس ـ بيكو» ومضاعفاته) !!! 

ما المعنى الفعلي لعبارة ان العراق لم يكن تعبيرا سياسيا؟ وهل حقا ان العراق (تعبير جغرافي وليس سياسيا ووليد ما قبل قرن)؟ لو طرحنا التساؤلات التالية لاقتنعنا انها اطروحة خاطئة وخطيرة: ماذا اذن عن الحقيقة التاريخة الابرز والاقدم في التاريخ البشري المعروف، والتي يعترف بها العالم كله ويجدها اي باحث في اي انسكلوبيديا تحت اسماء: وادي الرافدين، العراق، وميسوبوتاميا سيجد هذا الباحث ان اول حضارة انسانية معروفة نشأت في العراق وهي الحضارة السومرية ؟

 ولم هذا الاصرار العجيب على تجريد العراق من تاريخيته وهي في مقدمة اولويات محاولة لم تجرأ عليها حتى الصهيونية مباشرة لانها اضطرت اصلا لتضمين العهد القديم من الكتاب المقدس اعترافات متتالية بقدم العراق واصالته وحضارته وعظمته الاسطورية والتي كانت وراء (الاسر البابلي) الشهير والذي تسميه الصهيونية ب(السبي البابلي) بينما يقوم مثقف عربي، و(ناصري) ايضا، بذلك بكل اريحية وبكل جرأة!؟ هل قال ذلك جهلا بتاريخ العراق ام انه يتعمد التجاهل بدليل انه يتحدث عن نزعة العنف العراقية في التاريخ؟ ام انه يتلاعب باللغة ليصل الى هدف نفي وجود عراق اصيل ؟ 

عندما كنت اقرأ للمرحوم محمد حسنين هيكل اجد نفسي امام عقدة بارزة لم يتمكن من اخفاءها وربما كان يريد اظهارها وكانت تتحكم به اسمها (عقدة العراق) ، فهو كان يتعمد انكار او تجاهل واحدة من ابرز حقائق التاريخ والجغرافيا وهي ان العراق شهد اقدم الحضارات البشرية وهي الحضارة السومرية ثم تعاقبت الحضارات او تزامنت فيه : الحضارة البابلية التي كانت ام العالم القديم لدرجة ان بابل تحولت الى ظاهرة سياسية معاصرة تكاد تنفرد بتحريك قوى ودول الان خصوصا في العقود الاخيرة تحت فكرة (الثأر من بابل) وما حصل بعد غزو العراق يقدم الصورة الواضحة لذلك ، وجاءت الحضارة الاشورية والحضارة العباسية وبينها حضارات فرعية. وتلك ظاهرة فريدة في تاريخ الحضارات الرئيسة، فلم تشهد مصر مثلا الا حضارة واحدة هي الحضارة المصرية الفرعونية، وهذا ماكان السيد هيكل يتجاهله بتعمد واضح جدا عندما يتناول الحضارات وكأن تلك الحضارات المتعاقبة غير موجودة او يتمنى لو لم توجد! ومقابل ذلك وهو ما يثير الشك العميق بهويته الحقيقية يمجد حضارة فارس والتي هي استنساخ من حضارات العراق! ويأتي السيد قنديل ليسير على خطى هيكل بلا تردد ! 

ولكي نطري ذاكرة من يتنكر لوجود عراق عريق نذكّر باهم الحقائق المتصلة بهذه القضية وهي ان الشعب الساكن بين النهرين منذ اكثر من 10 الاف عام لم يتغير ويهجر وبقي هو بذاته واحتوى هجرات اقوام اتت من الشرق ومن الشمال والشرق والجنوب ودمجها في بنيته الحضارية واكتسبت هويته العراقية العربية، ولهذا كيف يمكن فصل التاريخ عن جغرافية العراق التي عاش فيها العراقيون بجعله حدثا عصريا عمره حوالي مائة عام كما قال السيد قنديل؟ وفيما يلي بعض انجازات حضارات العراق: اختراع العجلة والصفر ووضع اول لغة وهي المسمارية وتأسيس علم الفلك والهندسة والطب واللاهوت، وتميزه عن كل العالم الذي شهد حضارات بتعدد حضاراته وتنوعها مع بقاء نفس الشعب الذي يقيمها....الخ . 

ومن المفارقات المحزنة ان هيكل العربي وتلميذه قنديل (الناصري) ينكران ما يعترف به الهنود الذين وضعوا في كتب الدراسة الثانوية انجازات الحضارة العراقية، وسموها باسم العراق ايضا، وعدوها الاقدم في التاريخ رغم ان للهنود حضارة عريقة قديمة كحضارتنا العربية المصرية ! 

ومسلة حمورابي شاهد اخر على تاريخية المكان الجغرافي الذي جرده السيد قنديل من تاريخيته وعده مجرد جغرافية! والمسلة هي تاريخ مشع حتى الان فهي اول قانون مكتوب في التاريخ البشري على حجر مازالت موجودة حتى الان رغم مرور الاف السنين، كما ان امبريالية الاشوريين – اي توسعيتهم - كانت شاهدا ترك اثاره في كل مكان وصلت اليه جيوشهم خارج العراق، او وادي الرافدين او الميسوبوتاميا كما كانت تسمى، فاصبح العراق الاشوري والبابلي سيد ما يسمى الشرق الاوسط، كما كان العراق السومري سيد عملية ابتكار اول حضارة معروفة . 

وجاءت حضارة العباسيين والتي اصبح فيها العراق مركز العالم القديم كما هو حال امريكا اليوم حيث كان الاف الشباب يأتون من كل القارات للدراسة في العراق وازدهر فيه الطب والعلوم والحياة الاجتماعية والثقافة...الخ، فكيف يكون العراق تعبير جغرافي فحسب طامرا كل هذه الاشعاعات التاريخية الفذة؟ هل هذا التواتر الحضاري الاصيل تعبيرات جغرافية فقط ام انها طوعت الجغرافية للسياسة فصار العراق يكتب تاريخ العالم برمته ولعدة قرون بعد ان اسس امبراطوريات امتدت من اسيا الى اوربا وافريقيا واعترف العالم بان العراق كان مركز العالم المنير؟ هل هذا تعبير جغرافي؟ ام ان السياسة العراقية لم تكتفي بتطويع الجغرافية فقط بل سخرتها لخدمة سياسة عراق ناهض احتل موقع الشمعة المنيرة للعالم في العهود القديمة والعصور الوسطى ثم استأنف دوره الحضاري في العصر الحديث بنهضة السبعيينات والتي اغتيلت بما فرض على العراق من حروب انتهت بغزوه والذي كان في اهم تعبيراته قرار غربي صهيوني باغتيال نهضة حضارية عربية حديثة اعطت اولى ثمراتها؟ واذا لم تكن تلك هي الطبيعة التاريخية للعراق فما معنى التاريخ لدى السيد قنديل ؟ 

ومن المفارقات التي لم ينتبه اليها السيد قنديل ان هذا الوصف الخاطئ للعراق يمكن ان ينطبق على مصر فحضارة مصر حضارة ساكنة ولم تكن حضارة امبريالية كالحضارات العراقية، اي انها تعبير جغرافي ساكن، فمصر لم تتوسع كثيرا مثلما توسع العراق وبقيت غالبا في حالة دفاعية وضمن حدود مصر تقريبا قدر تعلق الامر بالحضارة الفرعونية، وايضا لاسباب منطقية بينما الحضارة العراقية توسعت في اغلب مراحلها في فترة ماقبل الميلاد وبعده في زمن العباسيين. وهنا ننبه الى ان هذه الحركة الامبريالية كانت مصدر التوسع الحضاري العراقي فهي اذا التاريخ بعينه وبقلبه وجوهره، فالذي يتوسع يكتب التاريخ بعد ان يؤسس وقائع راسخة، وبناء عليه فان التعبير الجغرافي لكيان، حسب وصفه، لا السياسي ينطبق على مصر اكثر مما ينطبق على العراق رغم ايماننا بان حضارة مصر شقيقة للحضارات العراقية لانها نتاج عبقرية واحدة هي العبقرية العربية التي عبرت عن نفسها باشكل مختلفة تبعا للمكان والزمان واحكامهما . 

الخطر كل الخطر في هذه الاطروحة يكمن في ان من نحتها حديثا هو الغرب وبريطانيا بالذات ومنها اقتبست الصهيونية وامريكا وبقية اوربا فروجوا فكرة حداثة العراق وانه كيان مصطنع عمره مائة عام وولد نتيجة سايكس بيكو! وهذه الاطروحة تحولت قبل وبعد غزو العراق الى غطاء للحط من شأن العراق وانكار اصالته والدعوة الى تقسيمه وتدمير هويته العربية، فمادام كيانا (حديثا ومصطنعا) كما تردد الاطروحات الغربية والصهيونية والايرانية فمن الممكن اعادة تشكيله بما في ذلك تقسيمه والغاء كيانه! هنا تكمن خطورة اعتبار العراق مجرد تعبير جغرافي فقط كما قال السيد قنديل متاثرا على الارجح بكتابات هيكل الموله بفارس. فهل كانت في باله هذه النتيجة التي وضعته في قارب واحد مع منظري الغرب الاستعماري والصهيونية وغلاة النخب الفارسية ؟ 

وتواصلا مع منحى انكار هوية العراق التاريخية والحضارية نجد السيد قنديل يتجاهل بشكل غريب مقومات الدولة العراقية الاساسية ويختار منها احد مؤسساتها الفرعية وهو الجيش فيقول (أن أول قرارات الاحتلال الأمريكي كان تسريح وحل الجيش العراقي، وإلغاء مبدأ التجنيد الوطني الإلزامي، وكانت النتيجة هي تحطيم العمود الفقري لدولة كان اسمها العراق،)! هذه الفقرة فيها اشارات واضحة تحسب وبغض النظر عن نوايا السيد قنديل على انها تكملة للفقرات السابقة الهادفة الى انكار وجود عراق قديم وعريق واصيل . 

انكار تاريخية العراق يكمل مخاطرها باعتبار الجيش العمود الفقري لدولة لا تقوم الا بوجود الجيش، اي ان وجود العراق بدون القوة ينتهي وان الدولة العراقية تقوم بالقوة وليس بالاختيار الشعبي التلقائي المستمر عبر الاف السنيين! ولهذا لابد من تأكيد ان العمود الفقري للدولة العراقية ليس الجيش بل تكوين النسيج الاجتماعي العراقي، اي الهوية الوطنية العراقية، والذي وجد تعبيره العملي في التعددية القبلية والثقافية والدينية والانصهار الاثني وكل ذلك وجد تعبيراته العملية في الجيش والاحزاب ومؤسسات الدولة العريقة، ففي النهاية لولا وجود الهوية العراقية اصلا لما وجد جيش ولما اسست دول عراقية متعاقبة عبر الاف السنين. بتعبير اخر: المجتمع المتماسك بلحتمه القوية هو عماد الدولة وعمودها الفقري وليس الجيش كما ادعى السيد قنديل ليصل الى اكمال دعم اطروحته وهي وقتية وهشاشة الكيان العراقي . 

ومما يلفت النظر ان السيد قنديل اراد اثبات اطروحته التي تنكر وجود عراق وكيان عراقي متجذر من خلال تعبيراته التي استخدمها وهي مثيرة للانتباه بشدة مثل (نعي العراق)، و(لا تاريخية العراق) او (دولة كان اسمها العراق) فهو في التعبير الاخير يؤكد بصورة مسبقة ان العراق كان ولم يعد موجودا رغم انه مازال موجودا ويقاوم الاحتلال بعد مرور 14 عاما! فهل من الصحيح نفي وجود العراق والادعاء بانتهاءه مع انه موجود بدليل ان امريكا التي هزمت وانسحبت مضطرة في عام 2011 نتيجة شراسة وفاعلية المقاومة العراقية وسلمت العراق الى اسرائيل الشرقية كي تكمل ما بداته هي وعجزت عن اكماله ؟ 

ان تعمد حصر وجود الدولة العراقية في وجود الجيش وتأكيد الكاتب على انتهاء العراق بعد حل الجيش اطروحة واضحة الهدف تماما وهو قبول ما يجري من انهيارات مصطنعة واعتبارها حالة طبيعية ستستمر ويجب ان تستمر مادام العراق كيانا طارئا عماده الجيش والجيش انتهى فيجب ان ينتهي الكيان الذي قام فوقه !!! 

وهي كذلك اطروحة تناقض الواقع العراقي الحالي فالمقاومة انطلقت منذ اليوم الاول للغزو وكان الجيش العراقي الوطني هو عمودها الفقري رغم حله ومازال حتى هذه اللحظة ولكن مرة ثانية مم تشكل الجيش؟ فلو لم يكن النسيج الاجتماعي العراقي عضويا – اي اصيلا وتاريخيا – لما قام جيش متماسك وقوي يعترف الكاتب بانه انتصر على اسرائيل الشرقية في حرب دامت ثمانية اعوام رغم الدعم الغربي والصهيوني لنظام خميني في تلك الحرب (هل يوجد دليل اقوى من ايرانجيت ؟) وهي مثال واحد على الدعم الغربي لخميني والوقوف ضد العراق . 

ولو ان العراق كيان عماده الجيش لتقسم مباشرة بعد حل الجيش كما حدث مثلا ليوغسلافيا وجيكوسلوفاكيا لانهما كيانان غير عضويين وانما ربطا قسرا ودون اندماجهما العضوي والذي يحتاج على الاقل لعدة قرون بينما عضوية العراق نشات عن تفاعلات بين البشر فيه امتدت الى اكثر من 10 الاف عام . 

يتبـــــــــــــــع .

* مفكر عراقي 



0 التعليقات: