أخر الأخبار

.

موسم الهجرة إلى'المدنية'.. علمانية ضد العلمانية





موسم الهجرة إلى'المدنية'.. علمانية ضد العلمانية





عراق العروبة
همام طــــــــه




أعلن رئيس البرلمان العراقي سليم الجبوري، القيادي في الحزب الإسلامي، عن تأسيس “التجمع المدني للإصلاح” لخوض الانتخابات المقبلة، في خطوة تشكّل محاولة هروب “إخواني” إلى الأمام وتغييرا للافتة السياسية وليس انقلابا على الفكرة التحاصصية وعقلية الفرز المكوناتي التي يؤمن بها تيار الجبوري، فالشعار “المدني” هو محاولة لإعادة إنتاج وتسويق الذات كما كان الإسلام السياسي بكل تجلياته يستعمل الشعارات الإسلامية للهروب من الإفصاح عن العوامل الجهوية والفئوية التي أنشأته وتحرّكه؛ فليس حزب الدعوة والحزب الإسلامي وغيرهما أكثر من لافتات دينية وسياسية تعبر عن أزمة اندماج وهوية حادة عانى منها المجتمع العراقي وجسّدتها تناقضات وأزمات وهواجس فئوية ومناطقية واجتماعية واقتصادية وطبقية فككت المجتمع وفشلت الدولة العراقية عبر تاريخها في تخفيف حدتها وعقلنتها في إطار مشروع شامل للاندماج الاجتماعي والتنمية الوطنية العادلة .

وفي المقابل يتسم خطاب التيار المدني الاحتجاجي، الذي بدأ يتبلور منذ منتصف عام 2015 ويلعب يساريون دورا تنظيميا واضحا فيه، بالتركيز على المواجهة الأيديولوجية بين العلمانية والإسلام السياسي الحاكم، ما يعكس محاولة “هروب شيعي” من مواجهة الأزمة الحقيقية وهي الطائفية حيث لا يريد النشطاء المدنيون خسارة العمق الجهوي الشيعي الذي ينتمون إليه؛ بالضبط كما عكست تشكيلة القائمة العراقية بقيادة إياد علاوي في انتخابات 2010 محاولة “هروب سني” من مواجهة الأزمة الطائفية، حيث سارعت شخصيات سنية إسلامية ومناطقية إلى الانضواء تحت لافتة علاوي العلمانية دون التخلي عن تخندقاتها الطائفية والجهوية على الأرض .

عام 2010 كتب الباحث العراقي يحيى الكبيسي مقالة بعنوان “موسم الهجرة إلى الوطنية” قال فيها إن المنطق الطائفي حاضر في كل الحديث الصاخب عن تشكيل ما سمّي بـ“الكتل الوطنية” أو “العابرة للطوائف” قبل الانتخابات وقتها، واصفا ما كان يجري بأنه “محض محاولة لتأطير الطائفية وليس تجاوزها”. واليوم ونحن نستعد لانتخابات 2018، يعيد التاريخ نفسه حيث يتحدث الجميع عن “المدنية” لكننا لا نشهد انقلابا صريحا على الطائفية، ما يعني أن مصطلحات مثل “المدنية” و“الإصلاح” صارت هي الأخرى مجرد تأطيرات للطائفية وليست تجاوزا لها .

عندما تنأى نخب كل طائفة بنفسها عن تبني قضايا ومظلوميات الطائفة الأخرى؛ فلا يمكن الحديث عن نهاية للمحاصصة أو تمرد على الطائفية. وعندما لا تتبنى النخبة المدنية الجديدة ذات العمق الشيعي بصراحة مظلومية السنّة ولا تتبنى النخبة السنية المتحولة إلى “المدنية” بوضوح مظلومية الشيعة لا يمكن الحديث عن مشروع وطني لأي منهما .

والحال أن الجميع يبدي نزعة “تمييزية” في التعامل مع القتل وانتهاكات حقوق الإنسان والمظالم الحقوقية والاجتماعية التي يتعرض لها العراقيون، حيث يتم فرز الضحايا على أسس فئوية وتحاصصية ذات طابع مذهبي أو اجتماعي أو أيديولوجي أو جهوي، فالصراع السياسي العراقي لم يكن يوما صراعا على مبادئ أو حقوق البشر أو قيم مواطنة وعدالة ومساواة وكرامة إنسانية، بل كان على الدوام صراعا بدائيا مطبوعا بالطائفية والعنصرية والانحياز .

هناك أزمة طائفية في بلدنا، وعلينا أن نتحلى بالجرأة لإدانة خنادقنا المذهبية التي ننتمي إليها، وأن نعارض خطاب التطرف الصادر من طوائفنا، وأن نمدّ أيدينا للطرف الآخر؛ وليس الهروب إلى جدل أيديولوجي أو صيغ “مدنية” سياسية شكلية لا تنفذ إلى عمق الأزمة ولا تضمّد الجرح العراقي الغائر .

الشجاعة الفكرية والسياسية هي في الاشتباك مع الأزمة الفعلية وهي الطائفية وتفكيك جذورها وليس القفز إلى الأيديولوجيات، سواء أكانت ليبرالية أم قومية أم يسارية، وإعلان تكتلات “مدنية” ذات شعارات “علمانية” من دون مشروع مضاد للمحاصصة ورؤية معمقة لإنهاء حالة الاحتقان ومغادرة الخنادق وقلب طاولة الانقسام وتجفيف منابع التطرف والكراهية .

العلمانية مهمّة وجوهرية لكنها بلا معنى من دون مشروع لحلحلة استعصاء المحاصصة. والمقصود بالمحاصصة هنا ليس تقاسم السلطة والثروة على أساس مذهبي وإثني فحسب؛ ولكنها الرواية الطائفية للواقع وسردية الكراهية وعملية الفرز الشعوري بين العراقيين وتكريس النعرة العنصرية والارتداد إلى مشاعر الأنانية الجهوية، وهي الخطاب المكوناتي التفتيتي وحفر الخنادق الفئوية في العقل الجمعي وبناء جدران الفصل الطائفي الرمزية والمعنوية بين المجموعات السكانية على أساس الهوّيات الأولية بما يؤدي إلى ترسيخ وتأبيد الصراع. إنها عملية نفسية وثقافية مدمّرة وأكثر خطورة من مجرد تقاسم سياسي، وهي خارطة عنف كامن ومتوالية تطرف واحتقان وخراب ستؤدي إلى عملية تقسيم اجتماعي وجغرافي قاسية ومؤلمة إذا لم يطرح العراقيون المشروع الوطني البديل القائم على مصارحة ومكاشفة وبوح وطني متبادل يستهدف تنظيف الجروح ومداواة الأوجاع عبر فتح ملفات كل المظلوميات الجهوية والفئوية والطائفية الماضية والحاضرة وليس القفز أو الالتفاف عليها .

لقد تحوّلت المحاصصة إلى بنية سياسية ومؤسسية واجتماعية وثقافية ولغوية متكاملة باتت منتجة للتطرف والتعصب باستمرار وصرنا نتكلم بلغة “نحن وأنتم” و”دماؤنا ودماؤكم” و”مناطقنا ومناطقكم” وفق منطق تقابلي وخطاب عزلة وتخندق يعكسان الانطواء والارتياب من الآخر؛ الطائفية مشروع متجذر ومواجهته تتطلب وجود مشروع علماني حقيقي وليس مجرد شعارات وخطابات؛ مشروع يكسر قواعد اللعبة الطائفية ويحدث اختراقا في جدار المحاصصة. كيف يمكن للعلمانية العراقية الصاعدة أن تنتج لغة جديدة وخطابا جديدا ورؤية ملهمة للعراقيين ولأجيال الشباب منهم تحديدا ؟ هذا سؤال برسم إجابة كل دعاة الدولة المدنية وكل القوى التي تزعم أنها تريد مغادرة الأصولية الدينية إلى المشروع المدني ؟

لن يصدّق جمهور العلمانية ما لم يتأكد من قدرة أصحابها على مواجهة المحاصصة وإنهائها. وهذا لن يتحقق عبر تجاهل مظلوميات الناس أو محاولة كبتها واعتبار صرخات الألم التي يصدرها المظلومون “خطابا طائفيا” ينبغي قمعه للمحافظة على الوحدة الوطنية، فلن تتحقق الوحدة من دون إصغاء العراقيين لآلام بعضهم بصدق وتعاطف ومسؤولية والتزام مشترك ودون أي قيد أو شرط .

الأزمة في العراق أكثر تعقيدا من القضية الأيديولوجية وتحتاج إلى ما هو أكثر من التكتّل والتحزّب والشعارات؛ أن تدين ذاتك الجهوية وتتقمص موقع الآخر لتتفهم موقفه، أن تعلن بشكل صريح عن تنازلك عن الاعتزاز العصبوي بانتمائك الطائفي لتكسّر الاستقطاب وتسقط السردية الطائفية. الخطاب العلماني لوحده لن يكسر الاستقطاب، فهناك علمانيون سنّة وشيعة منذ بدء العملية السياسية، ولم تنفع علمانيتهم في مواجهة الطائفية بل هم الذين خضعوا لإكراهات الطائفية والاستلاب الأصولي الإسلامي وانخرطوا في المناخ الذي صنعه .

العلمانية هي تجاوز التخندقات وليس تجاهل المظلوميات، فلن تكون علمانيا حقيقيا ما لم تعترف بمظلومية الطرف الآخر وآلامه. وهذا يتطلب أن تكون علمانيا “عراقيا” وليس علمانيا سنيا أو شيعيا، فالعلمانية لا تلتقي مع الطائفية، والفرق كبير بين “علمانية وطنية” مضادة ورافضة بطبيعتها للتخندقات الطائفية، وبين “علمانية مكوناتية” تؤطر التخندقات وتحابيها وتجاملها وربما تجمّلها ولا تنقلب عليها .

إنها إساءة للعلمانية وإفراغ لها من مضامينها أن يتم استعمالها كإطار لتغليف الطائفية أو للهروب من مواجهتها. كل مشروع علماني لا يقدّم حلولا واضحة للكراهية الطائفية لا يمكن التعويل عليه. ما فائدة مشاريع سياسية بشكل علماني ومحتوى طائفي شيعي أو سني أو تحاصصي أو تلفيقي يجمع نخبا سنية وشيعية معا في إطار العلاقات العامة أو المجاملة والدعاية والديكور السياسي .

لا تعني العلمانية الكلام المنمّق عن الوطنية ورفض الطائفية، فالخطاب الاستهلاكي عن الأخوة والتسامح يجيده الإسلاميون بكفاءة أكثر من العلمانيين؛ لكن العلمانية الحقيقية هي الرؤية والبرنامج والسياسة الرشيدة والاندماج الوطني والعمل باتجاه دولة مواطنة تقوم على إنصاف المظلومين من كل الانتماءات وليس كبت المظلوميات بحجة الوطنية .

لعبة المخاتلة السياسية لن تجدي نفعا؛ تلك التي يلعبها الفاعل السياسي عندما لا يريد أن يواجه الطائفية لأنه يعتقد أن مواجهتها مكلفة له سياسيا واجتماعيا؛ فيلجأ إلى رفع شعارات مدنية تحاكي العلمانية للهروب من الاستحقاق الحقيقي وهو التنازل عن التخندق الطائفي الرمزي والمعنوي في التعامل مع الآخر والاعتراف بمظلوميته والعمل على معالجتها .

العلمانية ليست أداة يمكن اللجوء إليها للتغطية على الأوضاع الطائفية. العلمانية مآل ونتيجة وهدف وغاية سنقطع شوطا مهما إليها وبصورة تلقائية عندما نخفف من حدة الطائفية ونفكك استقطاباتها. ستعمل العلمانية ضد نفسها حين تكون وسيلة للهروب من استحقاق تفكيك الصراع الطائفي. العلمانية من دون زخم اجتماعي واندماجي هي علمانية قسرية مفرغة من المضمون والمحتوى وسيكون مصيرها مثل كل العلمانيات الاستبدادية التي استندت إلى سلطويات عسكرية أو أيديولوجية تفرض العلمانية من أعلى إلى أسفل دون أن تدعمها ليبرالية اجتماعية وتعاقد اجتماعي منبثقين عن مجتمع موحد ومتماسك. العلمانية الحقيقية هي علمانية تستند إلى عمق اجتماعي مضاد للطائفية بصورة جوهرية .

هناك طريقة واحدة لتفكيك الصراع الطائفي وهي مواجهته وتفنيد رواياته ودحض سردياته، وليس إقرارها وتأطيرها بالشعارات والادعاءات العلمانية. الهروب إلى الصراع الأيديولوجي بين العلمانيين والإسلاميين لن يحل أزمة العراق لأنه سيؤجج صراعا أيديولوجيا وحزبيا موجودا داخل كل طائفة؛ ولن يفكك التخندق الطائفي وحالة التقابل المذهبي في المجتمع، فحتى لو كانت الغلبة للعلمانيين داخل كل طائفة، فإن النتيجة هي إعادة إنتاج التخندقات الطائفية بأطر علمانية؛ لكن الكراهية بين الخنادق ستبقى كما كانت في عهد الإسلاميين .

الصراع الأيديولوجي بين العلمانيين والإسلاميين مهمّ وحيوي في الانتقال السياسي العراقي لكنه لا يعالج الأزمة الجوهرية وهي الطائفية. فلنكن شجعانا ولنتحمل مسؤولية التنازل عن الانحيازات المذهبية البنيوية المسكوت عنها، ولنخرج من خنادقنا الطائفية، وليحمل كل منا مظلومية الآخر ويتبناها ويعمل على إنهائها .

وليس الصراع الأيديولوجي بين الإسلاميين والعلمانيين هو الحالة المثالية التي يفترض أن نطمح إليها للحياة السياسية، فالهدف الأسمى هو الوصول إلى حياة مدنية يكون الصراع فيها برامجيا وعقلانيا بين فاعلين سياسيين يركزون على البرامج السياسية والتنموية ولا يستدعون الهويات الدينية للفضاء العام .



0 التعليقات: