حول تمثال إنقاذ الثقافة العراقية
حول تمثال إنقاذ الثقافة العراقية
عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي
مهدي شاكر العبيدي
لست دارياً بمن صممّ التمثال ذا كمؤشر واعتراف بتدني المستويات الثقافية في العراق نتيجة لما مرَّ به وشاب حياة جمهرة غفيرة من بنيه ، من ألوان الصراع والخلاف بصدد إيثار هذه الخطة أو تلك ، والعمل وفق هذا الحل وغيره مما يجول في الأذهان ويخامرها ، عسى أن ترسو حياتهم عند جادة الأمان والاستقرار وبمبعدة عن الرعب والخوف والقلق ، مما استتبعته الظروف العصيبة والمتغايرة في ضغطها وفاعليتها في وجودهم ، وبموجب أهواء المتسيدين عليهم والمتصرفين بمقدراتهم وما تلزمهم به نزواتهم ومشيئاتهم من الامتثال والخنوع والرضى بما قسم الحظ بأن يتقسم الناس بين متغلبين بالقهر والسطوة والعنف ، وأضدادهم ممن لا يملكون غير أن يذعنوا ويستسلموا ، وما تدري أيها هاته الاشتراطات والمؤهلات والمسوغات والدواعي الملزمة بذلك ، ولماذا اختّصت هذه العينة من خلق الله بالتحكم والتسلط ، وتجافت عن البقية من العينات والاصناف ؟
كما لم أحطْ علماً بآسم هذا الفنان الذي احترف هذه الصنعة ، وأُلهِم بما توجبه وتتطلبه لهواتها ومحترفيها من ضروب التصور والتخيل وابتداع الرموز الدالة على ما تنطوي عليه الهياكل المصنوعة من الجبس أو المعدن وغيرهما من سائر المواد التي اِذا أُحسن استخدامها وتطويعها لهذا الغرَض الفني بغاية ما يقتضيه من البراعة وتحكيم الذوق ، فلسوف يحكي الشكل المصنوع بجماع مواصفاته ، عدا انطلاقته في القول والتحرك ، ويسامت نظيره في الحياة الواقعية ، والمراد تخليده ودوام وجوده بعد اندراس ذلك النظير الحي وعفائه ، واضطرار مَنْ حوله من الخلق للتسليم باستحالة معايشته أو رؤيته بعد الآن، .
كما لم يبلغ سمعي ما إذا كان الشروع باِقامته قد حظيَ بدعم جهة رسمية واستحثاثها ، والتي ينفر بعض أنفارها من أولي الرأي ، أو لا يرى في النُصب المكونة من الرخام والمحتازة لفسحة من الطرقات والشوارع وغير ركن في الدوائر والمؤسسات الحكومية ، أي جدوى وغناء ومنفعة ، بناءً على ما درج عليه واعتاده وطبع به كذلك من تحرج وتزمت موروث لا إزاء النحت فحسب بل يتجاوزه إلى سائر الفنون ، وكل يخال النهج الصائب في تدوير الأحوال رهن مشيئته ووفاق رغبته ، وأن الآخرين يخبطون في عماية وضلال ، وأن ما يرتؤونه من مشروعات وخطط وسبل ومناهج ، وبمحض خلوص النيات في إزماعهم أن تتنفي السوءات والمقابح جراء اضطراب المقاييس وما ترتب عليه من الغبن والاِجحاف بحق المتلهفين على النصفة ومَن يرفع الحيف والمظلمة عنهم في المجتمع الانساني ، أو أن تؤول الحياة إلى لون من الصفو بحيث تتخفف من أثقال الأوزار والأكدار وأن تطاق على أي حال وتحتمل منها بعض الأدران والنحوس ، قلت حتى هذه الرؤية يجفوها أولاء الزمر ويحسبونها عادمةً للرجحان والسداد ، إن لم يشفعوها بافتئاتهم وتجنيهم على مخالفيهم في النظر كونهم ناشزين عن قيم السلف وعوائدهم ، وزائغين على مألوفهم وشريعتهم .
بقي أن أحدد معنى الثقافة وأجمل فحواها وما تنصرف له من مكونات وعناصر وعوامل ، فقد جاء في المعاجم المتداولة بهذا الشأن أنها لا تعني غير تمكن الفرد الانساني وإلمامه بالفنون والعلوم والآداب ، ما قدم به العهد وما استجّد مؤخراً ، وأن المثقف هو من يطلع على شتائت منها يستهدي بها ويستند إليها في تصرفه وتعامله حيال قرنائه ومباينيه في آرائه، متحاشياً الوقوع في الاِعتساف والشطط قدر الامكان وجهد الطاقة بحيث يخرج من مجادلتهم ، إن ساقته الضرورات والمقتضيات لها يوماً ، فتورط فيها ، قلت يخرج منها مطمئن الضمير ولا ثمة شعور بالألم والمرارة في أنفس الذين استمعوا لفكرته ووعوا حجته .
ذاك هو شرط المثقف ، أن يسترشد بلوازم التؤدة والاستئناء في اِبلاغ رأيه لمناظره شريطة أن يعي جيداً ويتفهم أن الآخرين مثله تماماً لهم وجهاتهم الأخرى ، يتوسلون بها ويبتغون نشدان الحقيقة ويجرون خفافاً وراء المصلحة العامة ، والموقف ذا يسمونه ويحضون عليه مهونين على النفس أن يساورها الغضب والحدة والتعصب الذميم بأمل مجاوزة هذه الكرائه والتخفف منها بقبول الآخر ، ما دام مجتنباً للخداع والتدليس ، ومقدراً أن للمقابل حرمته وكرامته ، فلا يوغل في التخرص ويتمادى في المكابرة بذريعة أن الحق بجانبه ، وبدعوى أن الباطل مع نده .
ولأحجم بالمرة عن تقصي الواقع الثقافي من ناحيتيه العلمية والفنية نظراً لضآلة رصيدي أو تحصيلي منهما أولاً وتهرباً من مواجهة اللدد من لدن الزارين بالفن ومؤثرين أن يمضوا حياتهم في جفاف ويبوسة ، وتعدم الجمال والطراوة وتخلو من الاِبتهاج والأنس المجتلبين والمتسببين عن تأثير الموسيقى ووقعها ورجع صداها بالتالي في الأرواح والأبدان والنفوس ، وهي أحد عناصر الفن وترجح على بقية العناصر والأقسام في التعداد والذكر .
إنما تعنيني الحياة الأدبية التي يشفق عليها متابعوها ومكتنهو تطورها نحو الأفضل وما توفي عليه وتشارفه من الابداع والتجديد واعتزام عياف الرواسم المتوارثة ومحاكاتها وتقليدها ، والاِهابة بروادها المنتجين أن تبرأ ذواتهم من “الأمراض الأدبية” من تحاسد واستكثار على قرنائهم أن خُلقوا وتواتت لهم ملكة الابداع وما تعنيه في حقيقتها من اقتدار وتمكن من نسج قصيدة مؤثرة في الوجدان أو كتابة قصة أو رواية أو عمل مسرحي يظل أبداً مبقياً رجعه وتأثيره في القلوب والضمائر ، حتى يقتدي بسلائقهم مَن يتلُوهم وينتوي تجريب قابليته على الكتابة ، ومن صريح القول أن الكثرة من الناس يطيب لها أن تستوي الجماعات وتتكافأ في الامكانيات والقدرات والمواهب ، وفي حالة استحالة تحقق ذينك النزوع والرغبة ، ساد ما ساد بينها على مدى الزمن ما تجور منه دواماً من الختل والنفاق والتعامل بوجهين ، وما يورط في القدح والذم والانتقاص والاِساءة ، ذلك ان الاِعجاب بشيء او بشخص ، ” يتصل بالحنق عليه والرغبة الملحة في هدمه لفرط كماله ” كما يقول يحيى حقي محاكياً في قولته هذه الكاتب اللبناني كرم ملحم كرم في فورته الشاكة بما تختزنه الأسارير والأطواء .
وسبقهما في تشخيص هذا الداء المتفشي قبل سنين وبشكل أوضح الشيخ محمد عبدة إزاء ما استبان له من ركود يعرض للحياة الأدبية من آن ٍ لآن ، فيملي : ((لا يزال متحكماً في أخلاق الشرقيين من الميل إلى هدم كل رجل ذي قوة وموهبة ، لأسباب لا صلة لها البتة بقوته وموهبته ، فهذا كاتب قدير لكنه يختلف وإيانا رأياً أو ينافسنا في صفقة من الصفقات او يثقل علينا ظله ، اِذن يجب علينا هدمه أمام الجمهور واِن اعترفنا فيما بيننا وبين أنفسنا بتفوقه ومقدرته ، وما دمنا لا نستطيع ذلك من طريق النقد النزيه ، فيجب أن نحتال لذلك طريقاً آخر ، وكثيرون مع شيء كثير من الأسف يضعفون أمام هذه المهاجمات لكنهم يرون فيها جحوداً لمجهودات أكبر منهم ، همهم منها خدمة بلادهم .))
غير أن أديباً ما يزال في طور البدوة ، تسامع أنه لكي تزكو موهبته لا بد له من التواصل مع الأدباء الذين سبقوه في المراس الأدبي وغشيان مجالسهم والانصات لأحاديثهم ، ورغم أنه قليل خبرة بالنفوس والطبائع وما تطوي عليه من الأهواء والنوازع ، آب من هذه الخلطة بمحصلة مفادها تمني بعضهم أن لو يموت هذا الذي ينفسون اقتداره الكتابي ، متصورين أنه يزاحمهم في الاستئِثار بالمجد الأدبي الموهوم ، وبذلك فقد أربى هذا الأديب الفتي ، في نفاذه واستجلائه لهذه ” الدخيلة ” المريضة ، على كل ما صُدِم به الأسبقون من أحوال شائهة ومقرفة تسود الحياة الأدبية .
لكن عسى أن يتعلل المشتغلون بالآدب ببلوغ شأوٍ ولو يسير من النصول ومباينة هذا الداء الوبيل المعضل .
فاِذا وُفق المثّال البارع إلى تصميم ما يشبه السواعد المتلاحمة معاً لتدارك تهاوي شاخص الثقافة العراقية وسقوطه ، وهو بمثابة رمز لديمومة الحياة النامية والحضارة المتجددة ، أفما كان الأخلق به في نفس الوقت أن يسبر دخائل أولاء الماثلين في المحافل مدعين أنهم رموزها وأعلامها وسدنتها ، لكن دون أن يقووا على مدافعة ما يعتور نفوسهم من الخور والصغار لفرط ما يطوون عليه في بواطنهم من ضغينة وحسد ٍ لئيم ، لو صاروا بمواجهة مَن يكرثهم تساميه خلقاً ، وتناهيه اِبداعاً ، ورجحانه عليهم في نتاجاته الفكرية والأدبية ، واِذا ذاك يقر في خلده أن هذه الزمر لا تختلف في نحيزتها وأنويتها وتغليبهما في السلوك والتصرف عن سائر الآدميين ، الفاشي بينهم تفضيل الأداني وجفاء الاباعد ، فتبين أن الذي يدعون من الأمجاد والمفاخر ، بل من القيم والمبادئ لا يعدو كونه نفاقاً وكذباً ، ومحال أن لم يكن لغَريزة حب الظهور دخلٌ في ذلك ، فما أحرى بأرباب الفن أن يستوحوا مثل هذه السرائر والجبلات ليصنعوا منها أنصاباً تثبت لعصف الريح دونما احتياج لمن ينتشلها وينقذها ، وذلك مقابل توقهم وسعيهم وتضافر جهودهم لوقاء ثقافتهم العراقية الأصيلة والاِشفاق عليها من الانهيار والسقوط .
ولا ننسى انَ القاص الراحل عبد الستار ناصر رحمه الله جهر بما يصدف عنه العموم قبيل مغادرته هذه الفانية ، انه كان في بواكير حياته تواقاً لأن تسود مجتمعه مبادئ وقيم يستند إليها الناس في تمشية أمورهم ومصالحهم ، فاتضح له بمرور الأيام وبعد التجربة القاسية أنها كانت سراباً و وهماً بعد أن خبر الطبائع وجرّب نفسيات الناس وصار على بينة ودراية بحرصها ورغبتها في الاستئثار بكل شيء دون بقية من يتعايش معها من البشر .
فأين تكمن حاجتنا ؟ أفي تمثال يرمز لركامات الكتب ؟ أم لمصلح صادق الوعد يتعهد باِزالة ما في العالم الأدبي من نقص ؟ .
0 التعليقات: